إدمان الجوال

هلال الهاجري
1442/07/05 - 2021/02/17 04:48AM

الحمدُ للهِ قدَّرَ الأمورَ وقَضاها، وعلى ما سبقَ من علمِه أمضاها، سبحانَه وبحمدِه خلقَ الإنسانَ وصوَّرَه، وكتبَ رزقَهُ وقدَّرَه، وأشكرُه وأُثنِي عليه فلهُ الحمدُ في الأولى والآخرةِ، والَى علينا نعَمَه وآلاءَه باطنةً وظاهرةً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، اجتباه ربُّه واصطفاه، وقرَّبَه وأدناه، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آلِه السادةِ الطيبينَ الأطهارِ، وأصحابِه الغُرِّ الميامينِ الأخيارِ، المُهاجرينَ منهم والأنصارِ، والتابعينَ ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنَّهارُ، أما بعد:

مشاهدُ عجيبةٌ .. وأحوالٌ غريبةٌ .. فهذا يجلسُ لوحدِه وليسَ معهُ أحدٌ، فتارةً يضحكُ، وتارةً يغضبُ، وتارةً يحزنُ، وترى في لحظةٍ على وجهِهِ جميعَ الانفعالاتِ، فتقولُ أمجنونٌ هذا أم تأتيهِ بعضُ الحالاتِ؟.

وهؤلاءِ أقاربُ وأصحابُ، قد اجتمعوا بعدَ طولِ غيابٍ، وإذا قد خيَّمَ عليهم صمتٌ مُطبقٌ، فتقولُ وأنتَ عليهم مُشفقٌ، أعوذُ باللهِ من الشَّيطانِ الرَّجيمِ، لعلَّه ذكَّرَهم ما كانَ من خِصامٍ قديمٍ.

وهذا شابٌ كانَ معروفاً ببِرِّه بوالديهِ الكِبارُ، يقومُ بخدمتِهم ومؤانستِهم باللَّيلِ والنَّهارِ، فأصبحَ إذا كانَ عندَهم نكَّسَ رأسَه وخفضَ بصرَه، مشغولاً عنهم فيتعجبونَ من حالِه ما الذي غيَّرَه؟.

وهذا زوجٌ وزوجتُه يجلسونَ في غرفةٍ واحدةٍ، الأجسادُ متقاربةٌ والقلوبُ والأرواحُ متباعدةٌ، فيبكي الطِّفلُ بينهما بُكاءً مريراً، فينظرُ كلٌّ منهما لصاحبِه بطَرْفٍ خفيٍّ، ليقومَ بإسكاتِ هذا الطِّفلِ الشَّقيِّ.

وهذا موظفٌ قد عطَّلَ مصالحَ المُراجعينَ، والملفاتُ قد تراكمتْ على مكتبِه مثلُ الجبلينِ، فهو يؤجلُ المعاملاتِ إلى مَواعيدَ بَعيدةٍ، ليتفرغَ لقِراءةِ ما بينَ يَديهِ من الرسائلِ العديدةِ.

فهل علمتم سببَ هذه المشاهدِ والأحوالِ والمآسي المُحزناتِ؟، إنَّها الجوَّالاتُ، وما أدراكَ ما الجوَّالاتُ.

لن أتكلمَ عن فوائدِ الهواتفِ الذَّكيةِ الكثيرةِ، ولا أُريدُ أن أسردَ مخاطرَها الكبيرةَ، وإنما هذه نفثةُ مهمومٍ، وزفرةُ مكلومٍ، على ما سلبتْه مِنَّا هذه الأجهزةُ من أوقاتٍ، وعلى ما فرطنا بسببِه من أجورٍ وحسناتٍ.

لقد أصبحَ وجودَ هذه الهواتفِ ضرورةً وإدماناً، وبدونَها يصبحُ المرءُ ضائعاً حيراناً، يُدخلُ يدَه في جيبِه ليُخرجَ الجِهازَ لينظرَ فيه، وقبلَ أن يُرجعَهُ إلى جيبِه، يُخرجُه لينظرَ في شاشتِه مرةً أخرى، دونما سببٌ، إنما هو الإدمانُ، وأما إذا نساهُ يوماً في بيتِه، فلا تسلْ عن المزاجِ والحالِ، فهو حزينٌ مشغولُ البالِ، حتى يرجعَ إليه سريعاً ملهوفاً يُستقبلُ به عندَ البابِ، فيضمُّهُ بينَ يديه كأنَّه أمَّاً لقتْ ابنَها بعدَ طولِ غيابٍ.

يدخلُ أحدُنا في الصَّلاةِ وهي أعظمُ أعمالِنا، وقد أرسلَ رسالةً إلى صديقٍ أو قريبٍ، أو ينتظرُ مكالمةً من خليلٍ أو حبيبٍ، فهو مشغولٌ عن الصَّلاةِ وقراءةِ الإمامِ وأذكارِ الصَّلاةِ، فتكونُ الصَّلاةُ عليه أطولُ من ليلِ المحزونِ، فإذا سلَّمَ الإمامُ قفزَ من مكانِه كالمجنونِ، فيخرجُ ليرى شاشةَ جوَّالِه، هل وصلَ ما كانَ ينتظرُ من اتصالٍ أو رسالةٍ، فحتى صلاتَنا لم تسلمْ من هذه الأجهزةِ، كان محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاري يُصلي ذاتَ ليلةٍ، فلسعَه الزُّنبورُ سَبعَ عَشرةَ مَرةً، فلما قَضى الصلاةَ، قَالَ: (انظروا أيش آذاني).

نقضي ليالينا في تقليبٍ للشَّاشةِ ما بينَ رسالةٍ ومقطعٍ وردٍّ وتعقيبٍ، رسائلُ مختلطةٌ بالغثِّ والسَّمينِ والصِّدقِ والأعاجيبِ .. فآهٍ على ساعاتنِا وأيامِنا .. المفضَّلُ بنُ يونسَ رأى محمداً بنَ النَّضرِ حزيناً كئيباً، فقالَ له: ما شأنُكَ؟، قَالَ: مَضتْ الليلةُ من عُمري، ولم أكتسبْ شيئاً، فإنَّا للهِ وإنا إليه راجعونَ.

عبادَ اللهِ: أمَّةُ (اقرأ) أصبحتْ لا تقرأُ إلا الرسائلَ ولو كانتْ طويلةً، والرُّدودَ ولو كانتْ ثقيلةً، كانَ الخليلُ بنُ أحمدٍ رحمَه اللهُ يقولُ: (أثقلُ السَّاعاتِ علي ساعةٌ آكلُ فيها)، أتعلمونَ لماذا؟، لأنَّها ساعةٌ لا يستطيعُ أن يقرأَ فيها ولا يكتبَ، وأما نحنُ فقد وجدنا حلَّاً لهذه المشكلةِ، فنحنُ نأكلُ باليُمنى ونقرأُ ونكتبُ ونصوِّرُ باليسرى، حتى لا تضيعَ علينا الأوقاتُ .. والمحزنُ جِدَّاً .. أنَّه لم يسلمْ من هذه الأجهزةِ، صغيرٌ ولا كبيرٌ، ولا ذكرٌ ولا أُنثى، ولم يخلُ منها وقتٌ في اللِّيلِ والنَّهارِ، والعجيبُ أن ترى من اشتعلْ رأسُه شيباً وقاربَ الزَّوالِ، قد أشغلتْه هذه الأجهزةُ عن خواتيمِ الأعمالِ، فهو يخوضُ مع الخائضينَ، وتضيعُ أوقاتُه مع الجاهلينَ، وصدقَ الشَّاعرُ:

وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا *** فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ للرَّأْسِ شَاعِلُ

تَرَحَّلْ مِنَ الدنْيَا بِزَادٍ مِن التُّقَى *** فَعُمْرُكَ أَيْامٌ وَهُنَّ قَلائِلُ

باركَ اللهُ لي ولكم في الأوقاتِ، وجعلَها عامرةً بالطَّاعاتِ، وجعلني وإياكم من الصَّالحينَ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أمرَ بالمسارعةِ إلى الخيراتِ، ومبادرةِ الوقتِ قبلَ الفواتِ، وصلى اللهُ على نبينا محمدٍ وعلى آلِه واصحابِه ذوي المناقبِ والكراماتِ، وسلمَ تسليماً كثيراً، أما بعدُ:

أخبروني كم ساعةٌ نقضي على هذه الأجهزةِ يوميَّاً؟، وصارحوني كم دقيقةٌ نفتحُ المصحفَ يوميَّاً؟، تخيَّلوا لو قضينا نصفَ الوقتِ الذي نقضيه على الجوَّالِ في قراءةِ القُرآنِ كلَّ يومٍ ونحن نعلمُ حديثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ)، فيا الله .. كم حسنةٌ نفوزُ بها في ذلكَ اليومِ؟، وكم ختمةً سنختمُ في الشَّهرِ؟، بل واللهِ لأصبحنا حفظةً لكتابِ اللهِ تعالى، لا ننسى منه حرفاً واحداً.

والوقتُ أنفسُ ما عُنِيتَ بحفظِه *** وأراهُ أسهلَ ما عَلَيْكَ يَضيعُ

أينَ الأذكارُ وتلكَ القراءةُ النَّافعةُ؟، وأينَ الزياراتُ وتلكَ الأحاديثُ الماتعةُ؟، أينَ الرِّياضةُ والخروجُ إلى الصَّحاري الواسعةِ؟، أينَ أنا .. ذلك الذي كانَ قبلَ هذه الأجهزةِ الخادعةِ؟.

أتمنى أن نكونَ قد وضعنا يدَنا على مكانِ الألمِ، ولعلَّ أن يكونَ مِنَّا فيما مضى من أوقاتِنا بعضُ النَّدمِ، وعسى ربُّنا أن يُنقذَنا من الخسارةِ والإفلاسِ، في نعمةٍ قد خَسِر فيها كثيرٌ من النَّاسِ، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (نِعْمَتانِ مغبونٌ فيهمَا كثيرٌ منَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ) .. فاسألِ اللهَ تعالى النَّجاءَ، وعليكَ بكثرةِ الدُّعاءِ، ووقتُك وقتُكَ، فإنَّه حياتُكَ وعمرُكَ، فعسى يوماً أن تكونَ فخوراً بإنجازِكَ، أنَّك قد تعافيتَ من إدمانِ جِهازِكَ.

اللهمَّ باركْ لنا في أوقاتِنا وأعمارِنا يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ أصلح ذاتَ بينِنا، وألِّف بينَ قلوبِنا، واهدنا سبلَ السلامِ، وأخرجنا من الظلماتِ إلى النَّورِ، وبارك لنا في أسماعِنا وأبصارِنا وأزواجِنا وذرياتِنا وأموالِنا وأوقاتِنا، واجعلنا مباركينَ أينما كُنَّا، اللهم أعِنَّا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرينَ، لك شاكرينَ، إليك أواهينَ منيبينَ، لك مخبتينَ لك مطيعينَ، اللهم تقبَّل توبتَنا، واغسل حوبتَنا، وثبِّت حجتَنا، واهد قلوبَنا، وسدد ألسنتَنا، واسلل سخيمةَ صدورِنا، اللهم اقسم لنا من خشيتِك ما يحولُ بيننا وبين معاصيكَ، ومن طاعتِك ما تبلِّغنا به جنتَك، ومن اليقينِ ما تهوِّن به علينا مصائبَ الدنيا، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةَ وقنا عذابَ النارِ.

المرفقات

1613537278_إدمان الجوال.docx

1613537300_إدمان الجوال.pdf

المشاهدات 1766 | التعليقات 0