إحدى سوءاتك يا مقداد
عبدالعزيز أبو يوسف
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم ، أحمده حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، وأصلي وأُسلم على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين .
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن فهي خير زاد لمعادكم، وخير زينة لكم في دنياكم، ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) أما بعد:
أيها المسلمون: من كنوز السنة وهداياتها ودررها ما أورده الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه ،عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: ( أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي، وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الجَهْدِ، فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ أَنْفُسَنَا علَى أَصْحَابِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فليْس أَحَدٌ منهمْ يَقْبَلُنَا، فأتَيْنَا النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ بنَا إلى أَهْلِهِ، فَإِذَا ثَلَاثَةُ أَعْنُزٍ، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: احْتَلِبُوا هذا اللَّبَنَ بيْنَنَا، قالَ: فَكُنَّا نَحْتَلِبُ فَيَشْرَبُ كُلُّ إنْسَانٍ مِنَّا نَصِيبَهُ، وَنَرْفَعُ للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ نَصِيبَهُ، قالَ: فَيَجِيءُ مِنَ اللَّيْلِ فيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لا يُوقِظُ نَائِمًا وَيُسْمِعُ اليَقْظَانَ، قالَ: ثُمَّ يَأْتي المَسْجِدَ فيُصَلِّي، ثُمَّ يَأْتي شَرَابَهُ فَيَشْرَبُ، فأتَانِي الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ شَرِبْتُ نصيبي فَقالَ: مُحَمَّدٌ يَأْتي الأنْصَارَ فيُتْحِفُونَهُ، وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ، ما به حَاجَةٌ إلى هذِه الجُرْعَةِ، فأتَيْتُهَا فَشَرِبْتُهَا، فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ في بَطْنِي، وَعَلِمْتُ أنَّهُ ليسَ إلَيْهَا سَبِيلٌ، قالَ: نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ، فَقالَ: وَيْحَكَ! ما صَنَعْتَ؟! أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ، فَيَجِيءُ فلا يَجِدُهُ فَيَدْعُو عَلَيْكَ، فَتَهْلِكُ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ؟! وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا علَى قَدَمَيَّ خَرَجَ رَأْسِي، وإذَا وَضَعْتُهَا علَى رَأْسِي خَرَجَ قَدَمَايَ، وَجَعَلَ لا يَجِيئُنِي النَّوْمُ، وَأَمَّا صَاحِبَايَ فَنَاما وَلَمْ يَصْنَعَا ما صَنَعْتُ. قالَ: فَجَاءَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ كما كانَ يُسَلِّمُ، ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ فَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى شَرَابَهُ فَكَشَفَ عنْه، فَلَمْ يَجِدْ فيه شيئًا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّمَاءِ، فَقُلتُ: الآنَ يَدْعُو عَلَيَّ فأهْلِكُ، فَقالَ: اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَن أَطْعَمَنِي، وَأَسْقِ مَن أَسْقَانِي، قالَ: فَعَمَدْتُ إلى الشَّمْلَةِ فَشَدَدْتُهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ فَانْطَلَقْتُ إلى الأعْنُزِ أَيُّهَا أَسْمَنُ؟ فأذْبَحُهَا لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَإِذَا هي حَافِلَةٌ، وإذَا هُنَّ حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ، فَعَمَدْتُ إلى إنَاءٍ لِآلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ما كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَحْتَلِبُوا فِيهِ، قالَ: فَحَلَبْتُ فيه حتَّى عَلَتْهُ رَغْوَةٌ، فَجِئْتُ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ، قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فلما عَرَفْتُ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى قدْ رَوِيَ وَأَصَبْتُ دَعْوَتَهُ، ضَحِكْتُ حتَّى أُلْقِيتُ إلى الأرْضِ، قالَ: فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إحْدَى سوءاتك يا مِقْدَادُ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، كانَ مِن أَمْرِي كَذَا وَكَذَا وَفَعَلْتُ كَذَا، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ما هذِه إلَّا رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ، أَفلا كُنْتَ آذَنْتَنِي فَنُوقِظَ صَاحِبيْنَا فيُصِيبَانِ منها، قالَ: فَقُلتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ، ما أُبَالِي إذَا أَصَبْتَهَا وَأَصَبْتُهَا معكَ مَن أَصَابَهَا مِنَ النَّاسِ(
أيها المؤمنون: من هدايات هذا الحديث ودروسه: بيان ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكثير من صحبه الكرام رضي الله عنهم في بداية البعثة والهجرة للمدينة من شظف العيش وقلة ذات اليد ، حتى وصف ذلك المقداد رضي الله عنه بقوله: ( قد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من شدة الجوع ، ونعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله فلا يقبلنا أحد) ، لا لبخل حاشاهم رضي الله عنهم، وإنما لقلة ذات يدهم وفقرهم وحاجتهم ، ومع ذلك لم تُثنهم الحاجة والفقر للتخلف عن نصرة الإسلام ورسول رب العالمين، والتضحية بالنفس والنفيس لإعلاء كلمة الله تعالى ، فإن الدنيا يعطيها الله تعالى من يُحب ومن لا يُحب ، أما دينه وتقواه فلا يعطيه جل وعلا إلا من يُحب.
وفي الحديث أيها المباركون بيان ما كان عليه الصلاة والسلام من خُلق وهدي عظيم ورأفة بالناس وكرم ، فقد كان في أوَّلِ الهجرةِ إلى المدينةِ يَجمَعُ فُقراءَ المهاجِرِين في مَكانٍ في المسجدِ النَّبويِّ يُطعِمُهم ممَّا يُهْدى إليه ويَأكُلُ معهم.وما هذه القصة إلا أحد الشواهد لحاله صلى الله عليه وسلم مع فقراء الصحابة والمحتاجون منهم من رأفة وكرم بهم ، وتفقد لحالهم ومشاركتهم طعامهم وشرابهم تواضعاً منه عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث أيها الفضلاء بيان خطر وسوسة الشيطان وأنه يُزين المنكر وفعل المعصية أو التخاذل عن الطاعة للعبد حتى إذا أطاعه واتبعه تبرأ منه وخذله، فليحذر العباد وسوسة الشيطان ومكره وتزيينه للمعاصي وترك الواجبات ما دموا في زمن العمل والمهلة قبل أن يجمع لهم الشيطان مع البراءة في الدنيا البراءة منهم في الآخرة كما قال تعالى : ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ).
وفي الحديث أيها المؤمنون أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي من الليل وهم نائمون فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويُسمع اليقظان ، فما أجمل مراعاة أحوال الناس وتحري عدم إزعاجهم ومُضايقتهم، ومن ذلك حال النائمين أو المرضى أو المحزونون بعدم إزعاجهم أو إلحاق الأذى بهم بأي صورة ، فإن ما لا يرضاه المسلم لنفسه لا يرضاه لغيره ، وما أجمل أن يكون السلام على لسان العبد عند دخول المسجد ودخول المنزل والمجالس وغيرها اقتداءً به صلى الله عليه وسلم ، روى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ ، يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ) رواه الترمذي.
وفي الحديث رعاكم الله حرص النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل لما فيه من فضل وعظيم أجر ، فلا ينبغي للمسلم أن يفرط في هذا الخير العظيم ولو بركعات يسيرة ، وكذا تحية المسجد .
وفي الحديث عباد الله سعة حلمه وطيب خلقه صلى الله عليه وسلم فلم يغضب حين لم يجد نصيبه من اللبن مع حاجته إليه أو يرفع صوتاً أو غير ذلك من التصرفات المشينة ، بل بادر بالدعاء بطيب نفس وحُسن ظن بربه عز وجل، فما أجمل أن يعيش المرء طيب النفس هاجراً للإنفعال السريع والغضب على كل أمر مما يجعل حياته مشوبة بالنكد والمرارة بسبب هذا الخلق الذميم.
وفي الحديثِ: دليل من دَلائل نبوته صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومعجزاته حين امتلئت ضروع الماعز باللبن بعد الحلب بصفة لم تكن من قبل.
وفي الحديث الحرص على نيل دعوة الصالحين ومن يظن بهم خيراً ومشروعيتها والفرح بها.
وفي الحديث المكافأة على المعروف فإن عجز العبد عن ذلك فليدعو لمن صنع له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ومن صَنَع إليكم معروفًا فكافِئوه، فإنْ لم تَجِدوا ما تكافِئونَه فادْعُوا له حتى تَرَوا أنَّكم قد كافَأْتُموه) رواه أبو داود.
عباد الله : هذا شيء يسير من هدايات هذا الحديث المبارك ودروسه .اللهم ارزقنا حُسن الاتباع والاقتداء بنبيك صلى الله عليه وسلم.
الخطبة الثانية
اللهم لك الحمد عدد خلقك ، ورضا نفسك ، وزنة عرشك، ومداد كلماتك، أما بعد:
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى الكريم بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر ، وأرضى اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ، ومُدهما بعنوك وتوفيقك ، اللهم انصر واحفظ جنودنا المرابطين على حدودنا ، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وألف ذات بينهم ، وأهدهم سُبل السلام، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا ، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا ، وحرم على النار أجسادنا ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.