إجازتنا ... عبادة وعادة

الحمد لله الذي جعل الدنيا دار ابتلاءٍ وامتحان والآخرة دار قرار وجزاء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً ندخرها ليومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة اٌيمان والعقيدة ... فبعد عام من الكفاح والجد والاجتهاد أقبلت الإجازة الصيفية لتحمل في طياتها معانٍ كثيرةٍ وأحداثٍ مثيرة ودروسٍ وعبر وتأملٍ وفكر .
إنها أيامٌ مضت وليالٍ انقضت طويت صفحاتها وتصرمت ساعاتها باء فيها الكسالى اللاهون بالخيبة والخسارة والحسرة والندامة ، واستبشر المجدون بالنصر والسلامة والفوز والكرامة .
إنها عظةٌ وعبرةٌ للمعتبرين الذين يقرنون بين الحياتين ، فأيام الدراسة كأيام الحياة فكما انقضت أيام الدراسة ستنقضي أيام الحياة ، وكما يحتاج الطالب للجد والمذاكرة للنجاح في حياته الدراسية يحتاج المؤمن للجد والاجتهاد والصبر على أوامر الله والكف عن محارم الله ، وساعات الاختبار تذكرنا بساعة الاحتضار إذ هو الاختبار النهائي في هذه الحياة فناطقٌ بالشهادتين ومحرومٌ منهما أو قائلٌ بضدهما . ثم النتائج في الدار الآخرة فيا فوز العاملين المجدين حين يأخذون صحائفهم باليمين لينطلقوا مستبشرين مبشرين ويقال ادخلوا الجنة بسلامٍ آمنين حيث مجالس الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين .
ويا خيبة الكسالى المفرطين اللاهين المذنبين حين يأخذون صحائفهم بالشمال ويقال هلموا إلى دار المذلة والهوان حيث الحميم والغساق والغسلين ومردة الإنس والشياطين .
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها - إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكــنه - وإن بناها بشـــــــــرٍ خاب بانيها
أيها الأحبة الكرام ... لقد جاء الإسلام بالحث على الجد والاجتهاد وبذل الأسباب لتحصيل سعادة الدارين ، ولمَّا كان الشرع منزلاً من لدن حكيمٍ عليم ، عالم بطبيعة النفس البشرية وما تحمله من ضعفٍ وحاجةٍ إلى الراحة وما تحمله من كلالة العمل وسآمة الروتين ، جعل لها حقاً في الراحة واجباً فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( إن لنفسك عليك حقاً )) لأن النفس تمل فتحتاج إلى وقتٍ أطول في الراحة وإنما راحتها بالترويح والممازحة واللعب الذي لا يخرج عن حدود الحشمة والرجولة كالسباحة والرماية وركوب الخيل والمسابقات وغيرها .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره وعظم منزلته يسابق زوجاته ويمازح أصحابه ومن ذلك ما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : خرجت مع رسول الله وأنا خفيفة اللحم، فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه ( تقدموا ) ثم قال لي ( تعالَي حتى أسابِقكِ ) فسابقني ، فسبقته، ثم خرجت معه في سفر آخر، وقد حملتُ اللحم، فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه ( تقدموا ) ثم قال لي ( تعالَي أسابقك ) . فسابقني، فسبقني، فضرب بيده كتفي، وقال ( هذه بتلك) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما .
ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام التزم أحد أصحابه من خلفه وهو يبيع متاعه فقال من يشتري العبد فقال إذاً تجدني كاسداً فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لكن عند الله لست بكاسد . رواه في شرح السنة
فالحاصل أن الترويح عن النفس مطلبٌ شرعي حتى يعود للنفس نشاطها ويستمر عطائها ، ولكن مع الأسف الشديد أن كثيراً من الناس استغل وقت الإجازة أسوأ استغلال وظن أن الإجازة هي التفلت من الواجبات الدينية والدنيوية فأضاع نفسه وأهله وأولاده وربما ترك الفرائض والواجبات وفعل الفواحش والمنكرات وضيع الأمانات وأغضب رب الأرض والسماوات ، بحثاً عن قضاء الأوقات في المتعة والسعادة بزعمه ، وأي سعادة يرجوها من يواقع الفجور ويمارس الشرور ويرتكب المحظور ، كيف يذوق لذة الحياة من ركب هواه وتمرد على مولاه قال تعالى ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا ).


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
معاشر المؤمنين ... إن وقت المسلم ثمين فينبغي أن لا يضيع منه ساعة فيما لا ينفعه في دينه أو دنياه، وليعلم المؤمن أنه مسئول عن من يعوله من أهله وذريته، ولذلك فينبغي أن يجلس مع نفسه ومع أهله ساعةً يخططون فيما سوف يقضون فيه إجازتهم، وكيف يستثمرون وقت الإجازة فيما يعود عليهم وعلى أبنائهم ومجتمعهم بالنفع.
فيمكن أن تستغل فيها الإجازة وتكون نافعة بإذن الله في زيارة الأقارب والأرحام وخاصة الوالدين والأجداد والأعمام والأخوال وذرياتهم وبقية الأقارب وهي واجبة ، والقطيعة محرمة ومن كبائر الذنوب.
إن تيسر زيارة الحرمين لأداء العمرة والصلاة فإن ذلك يجمع بين العبادة والترويح والنزهة.
كما يباح السفر إلى الأماكن السياحية والمصائف التي لا يوجد فيها منكرات وبلادنا مليئة بمثل ذلك.
كما يمكن استغلال الإجازة في طلب علم نافع دينيٍ أو دنيوي وتعقد في بلادنا كثير من الدورات في العلوم الشرعية والحاسب واللغة وغيرها من العلوم التي يحسن قضاء الوقت في تحصيلها.
وإني لأدعو نفسي وإياكم إلى تسجيل الأبناء في المراكز الصيفية والأندية المأمونة النافعة فإن ذلك يملأ وقتهم، فإن الفراغ له مفاسد – أيها الأحبة_
إن الفراغ والشباب والجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة
ومن المهم - وهو الأهم من كل ذلك - أن تستغل الإجازة في الإكثار من العبادات كالصيام والقيام وقراءة القران ونحوها وخاصة مع قرب شهر رمضان المبارك، وإن الإنسان قد لا يستطيع مثل ذلك في أيام العمل لكثرة الأشغال ومشقة الجمع بين العمل ونوافل العبادات، فيستريح في الإجازة بأداء العبادات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( أرحنا بها يا بلال ) أي بالصلاة فالعبادة راحة للنفس وطمأنينة للبال على أن لا يضيع حق نفسه وأهله بالترويح واللعب المباح.
المشاهدات 1285 | التعليقات 0