أينَ أثرُ الصِّبْغَةِ؟
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ الهادي، والشكرُ للهِ ربِّ الحاضرِ والبادي، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه جاء بالشرعِ الظاهرِ، والمَحَجّةِ البيضاءِ التي لا يزغُ عنها إلا هالكٌ ، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلهِ وصحابته أولي الأمجادِ، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ التنادِ.
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، فأهلُ التقوى همْ أهلُ النجاةِ "ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا"
معاشرَ المؤمنين: دِيْنُ المسلمِ رأسُ مالِهِ، وأساسُ حياتِه، وسببُ خَلْقِهِ وإيجادِهِ "وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا ليعبدون" وعليه مدارُ نجاتِهِ وفوزِهِ "فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ" و يَصْحبُه المسلمُ في حياتِه كلِّها؛ بكلِّ أحداثِها وتفاصيلِها " قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"
وسمّاهُ اللهُ صِبغَةً فقالَ "صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَٰبِدُونَ" قالَ البغويُّ رحمَهُ اللهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ: دِينَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ صِبْغَةً لِأَنَّهُ يَظْهَرُ أَثَرُ الدِّينِ عَلَى الْمُتَدَيِّنِ، كَمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الصَّبْغِ عَلَى الثَّوْبِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمُتَدَيِّنَ يَلْزَمُهُ وَلَا يُفَارِقُهُ كَالصَّبْغِ يَلْزَمُ الثَّوْبَ) انتهى كلامُه.
يا لَهُ مِنْ اسمٍ بليْغٍ؛ ذي مَدلولِ عميْقٍ؛ ومَفهومٍ شاملٍ دقيقٍ؛ فآثارُ الديْنِ الإسلاميِّ، وشعائرُ الرسالةِ المحمّديَّةِ؛ صِبْغَةٌ لا بدَّ أنْ تظهَرَ على كلِّ مسلمٍ؛ تُميِّزهُ عن غيْره، وتُبْرِزُه عمّنْ سواهُ، وتُلَمِّعُه بيْنَ الغُثاءِ، وتُعْزِلُه عن الدَّهْمِاءِ.
فَكَمْ نظْلِمُ أنفسَنا حينما نقولُ:(الإيمانُ بالقلب) ونُغْفِلُ عَمَلَ الجَوارحِ، وقولَ اللِسانِ، فإنَّ الإيمانَ ليسَ في القلبِ فقط، بلْ الإيمانُ كمَا عرَّفَه أهلُ السُّنَةِ والجماعةِ: قولٌ باللِّسانِ، واعتقادٌ بالقلبِ، وعملٌ بالجوارحِ.
فأثرُ الدِّيْنِ على المسلمِ؛ صِبْغَةٌ تَصْبَغُهُ في مَظْهَرِهِ الخارجيِّ؛ من هيئتِه في مَلْبَسِهِ، ونَعْلِهِ، ومِشْيَتِهِ، وإطلاقِ لِحْيَتِه، وحَفِّ شارِبه، ومَنْطِقِه، وتعامُلِه، وسائرِ ما يَظْهَرُ عليهِ ويَعْرِفُهُ الناسُ به.
وحِفَاظاً على هذه الصِّبْغَةِ مِنَ الفَسَادِ، وخوفاً عليها مِنَ البُهُوتِ؛ أَمَرَنا الشَّارِعُ الحكيمُ بكلِّ ما يُبقيْها بَهِيْجَةً ناصِعَةً، فقدْ أَمَرَنا بمخَالَفَةِ أهلِ الكتابِ ونهانا عن التَّشبُّهِ بهم، ونهانا عن التَّشبُّهِ بالشياطينِ ومُشَاكَلَتِهِم، وشدَّدَ علينا في الحِفَاظِ على شعائرِ الإسلامِ؛ كالأذانِ، وصلاةِ الجماعةِ، وصيامِ رمضانَ، وحجِّ البيتِ الحرامِ، والعيدينِ وإفشاءِ السلامِ، والتكبيرِ في أوقاتِه المشروعَةِ، ونَحْرِ الأضاحي، وعيادةِ المريضِ، وتشميتِ العاطسِ، واتباعِ الجنازةِ وغيرِها مِنَ الشعائرِ الظاهرةِ التي مدحَ اللهُ مُعَظِّمِيْها فقالَ جلَّ شأنُه "ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ"
معاشر المؤمنين: صِبغةُ المسلمِينَ الفريدةُ؛ تجعلُ المسلمَ يعرفُ أخاهُ المسلمَ مِنْ بينِ آلافِ البشرِ؛ فَيُسَلِّم عليه إنْ لقيَه فتَأْتَلِفُ قلوبُهم وتفشوا المحبّةُ بينهم، ويشمّتُه إّذا سَمِعَهُ يَحْمَدُ اللهَ بَعْدَ عَطْسِهِ، ويَجْمَعُهُمُ الأذانُ للصلاةِ وإنْ لم يتعارفوا، حتى ولو كانوا في مجتمعٍ غيرِ مسلِمٍ، وهذه الصِّبْغَةُ الفريدةُ؛ تجعلُ المجتمعَ المُسلمَ مجتمعاً متميزاً بطهارتِه ونَقَائِه، وبِرَوْنَقِه وبهائِه؛ يسرُّ كلَّ خاطرٍ، ويأسِرُ كلَّ ناظرٍ.
وبَقَدْرِ حِفَاظِ كلِّ جِيْلٍ مِنْ هذه الأمةِ على هذه الصِّبْغةِ فإنهمْ يوَّرِّثُونَها للجيْلِ الذينَ بعدَهم سليمةً صافيةً، وبتفريطِ جيلٍ واحدٍ؛ فإنَّهم يَجْنُونَ على الأجيَالِ اللاَّحقةِ لهم؛ تماماً كما تَفْسُدُ الصَّبْغةُ بإهمالِها وتعريضِها للمتلفات.
وشعائرُ الإسلامِ هي عُرَاهُ الوثيقَةُ التي حذّر من نقْضِها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ حيثُ قالَ: "لتُنقَضَنَّ عُرى الإسلامِ عُروةً عُروةً ، فكلما انتقضَت عُروةٌ تشبَّثَ الناسُ بالتي تليها ، فأَوَّلُهنَّ نقضًا الحكمُ ، وآخرُهُنَّ الصلاةُ" رواهُ الإمامُ أحمدُ وغيرُه عن أبي أُمامَةَ الباهِلِيِّ، وصحَّحَه الألباني.
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنةِ، ونفعنا بما صرّف فيهما مِنَ العبَرِ والحكمَة.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ إنَّه هو الغفورُ الرحيم
الخطبة الثانيةُ:
الحمدُ للهِ على نعمَةِ الإسلامِ، والشكرُ للهِ على كلِّ إنْعَامٍ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شرَيْكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آله وصحابتِه الأعلامِ، وعلى من تبعهمْ على الملَّةِ واستقامَ..
أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ"
معاشرَ المؤمنينَ: الحفاظُ على صِبْغَةِ اللهِ نوعٌ مِنَ الجِهادِ، شبّهَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ المحافِظَ عليها بالقابضِ على الجَمْرِ؛ فعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أنّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ" رواه الترمذيُّ.
وتأملوا عبادَ اللهِ: في قوله تعالى" وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً" فهذا يَدُلُّ على بلُوغِ هذه الصِّبغَةِ أكْمَلَ الكَمَالَ في الحُسْنِ والتّمامِ؛ قالَ العلاّمةُ السعديُّ رحمهُ اللهُ: "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً" أي: لا أحسنَ صِبْغَةً مَنْ صِبْغَتِه، وإذا أردتَ أنْ تَعْرِفَ نموذجاً يبينُ لكَ الفرقَ بينَ صِبْغَةِ اللهِ وبينَ غيرِها مِنَ الصِّبَغِ؛ فَقِسْ الشيءَ بضدِّهِ، فكيفَ ترى في عبدٍ آمنَ بِربِّه إيماناً صحيحاً؛ أثَّرَ معهُ خُضُوعَ القَلْبِ وانقيادَ الجوارحِ، فلمْ يزلْ يتحلّى بكلِّ وصفٍ حسنٍ، وفعلٍ جميلٍ، وخُلُقٍ كاملٍ، ونَعْتٍ جَلِيْلٍ، ويتخلَّى مِنْ كلِّ وصفٍ قبيحٍ، ورذيلةٍ وعيْبٍ، فوصْفُهُ: الصدقُ في قولِه وفعلِه، والصبرُ والحلمُ، والعفَّةُ، والشَّجَاعَةُ، والإحسانُ القوليُّ والفعليُّ، ومحبّةُ اللهِ وخشيتُهُ، وخوفُهُ، ورجاؤهُ؛ فحالُه الإخلاصُ للمعبودِ، والإحسانُ لعبيدِهِ، فَقِسْهُ بعبدٍ كَفَرَ بربِّه، وشَرَدَ عنه، وأقبلَ على غيرِه مِنَ المخلوقين؛ فاتّصَفَ بالصفاتِ القبيْحَةِ، مِنَ الْكُفْرِ، والشركِ، والكذبِ، والخيَانَةِ، والمَكْرِ، والخِدَاعِ، وعدمِ العِفَّةِ، والإساءةِ إلى الخلقِ، في أقوالِهِ، وأفْعَالِهِ، فلا إخلاصَ للمعبودِ، ولا إحسانَ إلى عبيدِهِ.
فإنَّه يَظْهَرُ لك الفرقُ العظيمُ بينهما، ويتبيَّنُ لك أنَّه لا أحسنَ صِبْغَةً مِنْ صِبْغَةِ اللهِ، وفي ضِمْنِهِ أنَّهُ لا أقبحَ صِبْغَةً مِمَّنْ انْصَبَغَ بغيرِ دِيْنِه. وفي قولِه" :وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُون" بيانٌ لهذهِ الصِّبْغَةِ، وهي القيامُ بهذينِ الأصلينِ: الإخلاصِ والمتابعةِ؛ لأنَّ " العبادةَ " اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحِبُّه اللهُ ويرضاهُ مِنَ الأعمالِ والأقوالِ الظاهرةِ والباطنةِ، ولا تكونُ كذلك، حتى يشرَعَهَا اللهُ على لسانِ رسولِه.
وبعدُ عبادَ اللهِ: أينَ أثرُ الصِّبغةِ في حياةِ كثيرٍ من المسلمينَ اليومَ؟ قلَّ وتلاشى، وربما اختفى بالكُلِيَّة
ولم يبق له أثرٌ يذكرولافضل ينشر، والله المستعان
فاللهَ اللهَ ــ عبادَ اللهِ ــ في الحفاظِ على صِبْغَةِ اللهِ التي صَبَغ الناسَ عليها، وصيانتِها مِنْ كلِّ ما يَخْدِشها، أو يُشوِّهُهَا.
هذا وصلواو سلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاةِ والسلامِ عليه...