أيتولى أمرنا ويغفل عنا ..

عبدالله حمود الحبيشي
1435/01/16 - 2013/11/19 10:38AM
هذه خطبة أعددتها للجمعة القادمة وأسعد بتوجيه الأخوة وملاحظاتهم


أما بعد ..

أيتولى أمرنا ويغفل عنا .. كلمة قوة وعبارة عظيمة .. وقعها كبير على القلوب قبل المسامع .. فمن قالها ، ولمن قيلت ، وما هي مناسبتها .
إن هذه الكلمة لم يُقلها معارض سياسي ولا برلماني محنك بل قالتها إمرأة عجوز بسيطة .. قالتها بفطرتها العادية تخاطب فيها رجل لم يتولى بلدا لينهب مقدراتها ، ويتنعم بخيراتها ، ويستأثر بثرواتها .. قيلت لرجل يرى الولاية تكليف لا تشريف .. رجل قال كلمة تناقلتها الأجيال ودونها الحفاظ حتى وصلت إلينا وكدنا أن نكذبها من غرابتها وتناقضها مع واقعنا الذي نعيشه .. لقد قال هذا الرجل : لو عثرت بغلة بالعراق (على أطراف الدولة الإسلامية يومئذ) لسألني الله عنها يوم القيامة: لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر .
لما لم تصلح لها الطريق .. يعلم أنه سيسأل عن إصلاح الطريق لبغلة .. فكم والله ممن سيسألون عن كوارث الطريق التي ذهبت بأرواح بشرية من رجال ونساء وأطفال .
لو عثرت بغله بالعراق لسالني الله عنها يوم القيامة لم لم تصلح لها الطريق يا عمر ..
ومن عمر ..
إنه عمر بن الخطاب عمر الفاروق ..
عمر الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام (والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك) .
عمر الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام (قَدْ كان فيما مضى قبلَكم مِنَ الأمَمِ أناسٌ محَدَّثونَ فإِنْ يكُ في أمَّتِي أحدٌ منهم فهو عمرُ بنُ الخطابَ) .
إنه عمر العبقري كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام .. إنه عمر المبشر بالجنة أمير المؤمنين وخليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. هذا الرجل تعاتبه أمرأة وتعيب عليه صنيعه فلم يمنعها ولم ينهرها فضلا عن حبسها وعقابها .
خرج عمر ذات ليلة يطوف كعادته وقد كان مهتما بأمور الرعية صغيرها وكبيرها .. وكان معه مولاه أسلم فإذا نار تسعر فقال : يا أسلم ما أظن هؤلاء إلا ركبا قصر بهم الليل والبرد فلما وصل مكانها إذا هي امرأة معها صبيان يتضاغون من الجوع قد نصبت لهم قدر ماء على النار تُسكتهم به ليناموا . فقال عمر: السلام عليكم يا أهل الضوء -وكره أن يقول يا أهل النار- ما بالكم وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت المرأة : يتضاغون من الجوع قال: فأي شيء في هذا القدر قالت : ماء أسكتهم به أوهمه أني أصنع طعاما حتى يناموا والله بيننا وبين عمر فقال: يرحمك الله وما يُدري عمر بكم قالت: أيتولى أمرنا ويغفل عنا ..
أيتولى أمرنا ويغفل عنا .. كلمة عظيمة حريٌ بكلِ أبٍ وكلِ مسؤولٍ وكلِ وزيرٍ وأميرٍ وملكٍ أن يضعها أمام عينيه .. أيتولى أمرنا ويغفل عنا .
فبكى عمر رضى الله عنه ورجع مهرولا فأتى بعدل من دقيق وجراب من شحم وقال لأسلم أحمله على ظهري قال أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين مرتين أو ثلاثه ، فقال أنت تحمل وزري يوم القيامة .. لنعلم جميعا أننا مسؤولين يوم القيامة عن كل ولاية صغيرة أو كبيرة ولن يحمل أوزارنا عنا أحد إن قصرنا أو أسأنا .
فحمله حتى أتى المرأة فجعل يُصلح الطعام لها ، وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل من لحيته حتى نضج الطعام ، فأنزل القدر وأفرغ منه في صحفة لها ، فأكل الصبية حتى شبعوا ، وجعلوا يضحكون ويتصارعون ، فقالت: المرأة جزاك الله خيرا أنت أولى بهذا الأمر من عمر ، فقال لها عمر: قولي خيرا .
هكذا تكون الولاية ، وهكذا تَحمّل المسؤولية .. إن المناصب والوظائف وإن علت ليست تشريفا ولا تكريما ، بل هي مسؤولية ومحاسبة ، وتكليف شاق لا يعرف قدرها إلا من عرف أنه سيقف أمام الله .
وكم والله ضاعت مقدرات ، وفسدت إدارات ، وسرقت ميزانيات ، بل كم تعثرت مشاريع لأن القائمين عليها لم يراعوا الله ، ولم يقوموا بما أَوكله إليهم ولي الأمر من مسؤولية ، وحملهم من أمانه .
مَنْ المسؤول عن المشاريع الفاسدة ؟ والتي بان عوارها مع أول غيث نزل على البلاد .
قال الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ المفتي عام يحفظه الله كلاما شافيا وكافيا وصريحا حين وصف الجهات التي نفذت المشروعات المتضررة فانكشف حالها المتردي، بعد سقوط أمطار غزيرة يوم السبت الماضي على مدينة الرياض، وصفهم بالخائنين للأمانة.
وقال : إن كل من أوكل إليه أمر من أمور الأمة فعليه أن يسعى في تنفيذه بأمانة وإخلاص وأن يكون على قدر المسؤولية، وإلا فهو خائن للأمانة وضعيف الإيمان .
وشدد على أن انكشاف سوء المشروع عند الأمطار والذي بسببه غرقت الأنفاق وانهارت الخطوط وتعطلت شبكة التصريف فهذا أمر ينبغي معاقبة المسؤول عنه وكل من تهاون في هذا الموضوع .
كما بين أن تلك التجاوزات تشير إلى ضعف الإيمان ، وأن أي مال أخذوه فهو مال خبيث حرام عليهم .
لقد عرف عمر حجم المسؤولية وعظم الأمانة .. كان يرى الولاية والخلافه حملا ثقيلا على ظهره .
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : إن الله أعز به الإسلام وأذل به الشرك وأهله أقام شعائر الدين الحنيف ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام مطيعا في ذلك الله ورسوله وقافا عند كتاب الله ممتثلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم محتذيا حذو صاحبيه مشاورا في أموره السابقين الأولين مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضى الله عنهم ممن له علم أو رأي أو نصيحة للإسلام وأهله .. ولقد كان يمنع من استعمال الكفار في أمور الأمة أو إعزازهم بعد أن أذلهم الله ، قال أبو موسى الأشعري قلت لعمر : إن لي كاتبا نصرانيا فقال مالك : قاتلك الله أما سمعت الله يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ألا اتخذت حنيفا - يعني مسلما – قال: قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أُكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله .
وكتب إليه خالد بن الوليد يقول: إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به فكتب إليه عمر: لا تستعمله فكتب خالد إلى عمر: إنه لا غنى بنا عنه فرد عليه لا تستعمله فكتب إليه خالد: إذا لم نستعمله ضاع المال فكتب إليه عمر: مات النصراني والسلام.
كان يكتب إلى عماله يحذرهم من الترفع والإسراف .
كتب إلى عتبة بن فرقد وهو في أذربيجان فقال: يا عتبة إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تَشبع منه في رحلك وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولباس الحرير.
كان لا يحابي في دين الله قريبا ولا صديقا .. الناس عنده سواء. يُروى عنه أنه كان إذا نهى عن شيء جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنه لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم والله لا أجد أحدا منكم فعل ما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة.
كان يقوم في الناس في مواسم الحج فيقول : إني لا أبعث عليكم عمالي ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم ويحكموا فيكم بسنة نبيكم فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي .
يقول الشيخ الإمام محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله : هكذا كانت سيرة الخلفاء في صدر هذه الأمة حين كانت الرعية قائمة بأمر الله خائفة من عقابه راجية لثوابه فلما بدلت الرعية وغيرت وظلمت نفسها تبدلت أحوال الرعاة و(كما تكونون يولى عليكم) .
نسأل الله أن يولي على المسلمين خيارهم ويجعلهم هادين مهديين قائمين بأمر المسلمين .. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية ..
أما بعد ..
عباد الله .. أختم كلامي في الحديث عن أمير المؤمنين عمر بهذا الموقف حيث قدمت رفقة من التجار فنزلوا المصلى فقال عمر لعبدالرحمن بن عوف : هل لك أن نحرسهم الليلة من السرق ؟ فبات يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما ، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه ، فقال لأمه : اتقي الله وأحسني إلى صبيك ، ثم عاد إلى مكانه ، فسمع بكاء ، فعاد إلى أمه فقال لها ذلك ، ثم عاد إلى مكانه ، فلما كان عن آخر الليل سمع بكاء فقال : ويحك ؟ !! إني أراكِ أم سوء!!! مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة !!! قالت يا عبدالله –هي لا تعرف من يكلمها- قالت يا عبدالله ؛ قد أبرمتني –آذيتني وأثقلت علي- قد أبرمتني هذه الليلة ، إني أربعه على الفطام فيأبى علي . قال : ولم ؟ قالت : لأن عمر لا يفرض إلا للمفطم . قال : وكم له ؟ قالت : كذا وكذا شهراً . قال لها: ويحك لا تعجليه .
فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء فلما سلم قال: يا بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين ، ثم أمر منادياً فنادى لا تعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنَّا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق أن يفرض لكل مولود في الإسلام .
هكذا تكون الولاية وهكذا يكون حمل المسؤولية ..
وقد يصعب أن يوجد مثل عمر .. ونقول نعم ولكن لِمَ لا نتشبه بسيرته ونجتهد أن نكون مثله فإن لم نصل نكون قاربنا الكمال .. ولن تُعدم الأمة أن يكون فيها مثل عمر .. والكلام ليس قاصرا على الولاية العامة بل كل ولاية يتوالها المسلم سوف يُسأل عنها .. فالأب في بيته والمدير في مدرسة أو مع موظفيه وكذا الوزير والأمير والملك كلها ولايات وكلها مسؤولية فمن أراد النجاة في الدنيا والفلاح في الآخرة فليقم بحقها (كُلُّكُم راعٍ ، وكُلُّكُم مَسْؤُولٌ عَن رَعِيَّتِه ، الإِمامُ راعٍ ومَسؤُولٌ عنْ رعِيَّتِه ، والرَّجُلُ راعٍ في أهلِه وهو مَسْؤُولٌ عن رعيَّتِهِ ، والمرْأةُ راعِيةٌ في بيتِ زوجِها ومَسْؤُولةٌ عن رعِيَّتِها ، والخادِمُ راعٍ في مالِ سيِّدِه ومَسْؤُولٌ عن رعيَّتِه) .
نسأل الله أن يولي على المسلمين خيارهم
المشاهدات 7310 | التعليقات 1

جزا الله صانعها وكاتبها ورضي الله عن صاحبة القصة وجزى الله عمر بن الخطاب المسؤول الحق والقيم الكفء على حسن رعايته

نفع الله بعلم شيخ عبدالله