أَيَّامٌ مُبَارَكَةٌ 1445/12/1ه
يوسف العوض
الخطبة الأولى
عِبَادَ اللَّهِ: مِن رَحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بعِبادِه أنْ مَنَّ عليهِم بأيامٍ مُبارَكةٍ، يُضاعِفُ لهم فيها الأجرَ، ويُعطي فيها جَزيلَ الثَّوابِ؛ رَحمةً منه وكرَمًا، ومنها: الأيامُ العَشرُ الأُوَلُ مِن ذي الحِجَّةِ ، ومِن مِنّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبدِهِ المُؤمِنِ أَن يُوَفّقَهُ لِاغتِنَامِ فُرَصِ العُمُرِ، فَالعُمُرُ يَمضِي وَيَنصَرِمُ، وَلَيسَ لِابنِ آدَمَ مِنهُ إِلَّا مَا استَودَعَهُ فِيهِ مِن صَالِحِ العَمَلِ، قَالَ تَعَالَى:" وَسَارِعُوا إِلَى مَغفِرَةٍ مِن "رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدّتْ لِلمُتَّقِينَ" ، ولَقَد جَعَلَ اللَّهُ الأَيَّامَ مُستَودَعًا لِلطَّاعَاتِ، وَمَحَلًّا لِلقُرُبَاتِ، وَجَعَلَ اللَّيلَ وَالنّهَارَ خِلفَةً لِمَن أَرَادَ ان يَذّكّرَ أَو أَرَادَ شُكُورًا.
فَالسّعِيدُ مَن استَغَلَّ الأَوقَات، وَازدَادَ فِي مَوَاسِمِ الخَيرِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَتَعَرَّضَ فِيهَا لِنَفَحَاتِ الرَّحَمَاتِ، فَاللَّيلُ وَالنَّهَارُ لَا يَنتَظِرَانِ، بَل يَتَعَاقَبَانِ وَلَا يُفتَرَانِ، وَالعُمُرُ أَمَانَةٌ سَيُسأَلُ العَبدُ عَنهَا يَومَ القِيَامَةِ، كَمَا قَالَ ﷺ: «لا تَزُولُ قَدَمَا عَبدٍ يومَ القيامةِ، حتَّى يُسأَلَ عَن عُمُرِهِ؛ فِيمَ أَفناهُ؟ وعَن عِلمِه؛ فِيمَ فَعَلَ؟ وعَن مَالِه؛ مِن أَين اكتَسَبَه؟ وفِيمَ أَنفَقَه؟ وعَن جِسمِهِ؛ فِيمَ أَبلاهُ؟». رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ ، وَقَالَ ﷺ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغتَنِمْ خَمسًا قَبلَ خَمسٍ: شَبَابَكَ قَبلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبلَ فَقرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبلَ مَوتِكَ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِن حِكمَةِ اللَّهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ فَاضَلَ بَينَ الأَيَّامِ، فَمَنَّ عَلَينَا بِمَوَاسِمَ لِلعِبَادَةِ، ضَاعَفَ فِيهَا الأُجُورَ، وَشَرَعَ فِيهَا أَنوَاعَ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ، لِيَزدَادَ المُؤمِنُونَ رِفعَةً فِي دَرَجَاتِهِم، وَيَستَدرِكَ المُقَصِّرُونَ مَا فَاتَ مِن زَلَاتِهِم.
وَمِنَ الأَيَّامِ الفَاضِلَةِ الَّتِي أَعلَى اللَّهُ شَأنَهَا، وَعَظَّمَ أَمْرَهَا: أَيَّامُ عَشرِ ذِي الحِجَّةِ، فَهِيَ أَيَّامٌ عَظِيمَةٌ مُبَارَكَةٌ، لَيسَ فِي الأَيَّامِ مَا يُمَاثِلُهَا، وَلَا فِي أُجُورِ الأَعمَالِ مَا يَعدِلُهَا.
أَقسَمَ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلَا بِهَا فَقَالَ:" وَالفَجرِ وَلَيَالٍ عَشرٍ " جَاءَ عَن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَنّهَا عَشرُ ذِي الحِجَّةِ.
وَهِيَ الأَيَّامُ المَعلُومَاتُ الَّتِي أَخبَرَ اللَّهُ عَنهَا بِقَولِهِ:" لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الأَنعَامِ" قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: أَيَّامُ العَشرِ.
وَقَد خَصَّ اللَّهُ هَذِهِ الأَيَّامَ بِأُجُورٍ كَبِيرَةٍ، وَرَتّبَ عَلَى الطَّاعَاتِ فِيهَا خَيرَاتٍ كَثِيرَةً، فَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنهُ فِي غَيرِهَا، قَالَ ﷺ: «مَا مِنْ أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلى اللهِ مِن هَذهِ الأيَّامِ العَشرِ. قَالوا: يا رَسُولَ اللهِ! ولا الجِهادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ: ولا الجِهَادُ فِي سَبيلِ اللهِ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرجِع مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ». رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا مِن عَمَلٍ أَزكَى عِندَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا أَعظَمَ أَجرًاً مِن خَيرٍ يَعمَلُهُ فِي عَشرِ الأَضحَى». رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
وَقَد خُصَّتْ هَذِهِ الأَيَّامُ الفَوَاضِلُ بِهَذِهِ الفَضَائِلِ لِاجتِمَاعِ أُمَّهَاتِ العِبَادَةِ فِيهَا؛ مِن صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي غَيرِهَا، وَلِأَنَّ فِي أَيَّامِهَا مَا لَيسَ فِي مِثلِهَا.
فَاليَومُ الثَّامِنُ مِنهَا هُوَ يَومُ التَّروِيَةِ، مُبتَدَأُ أَعمَالِ الحَجِّ، فِيهِ يُهِلّ الحُجَّاجُ وَيُلَبُّونَ، وَمِنهُ إِلَى مِنَى وَعَرَفَةَ يَنطَلِقُونَ.
وَاليَومُ التَّاسِعُ مِنهَا هُوَ يَومُ عَرَفَةَ، وَهُوَ يَومٌ عَظِيمٌ، قَالَ عَنهُ ﷺ: «مَا مِنْ يَومٍ أَكثَرُ مِن أَنْ يُعتِقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ عَبدًا مِن النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟»، رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَقَالَ ﷺ: «خَيرُ الدّعَاءِ دُعَاءُ يَومِ عَرَفَةَ، وَخَيرُ مَا قُلتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ، وَلَهُ الحَمدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ». رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ، وَصِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ، يُكَفّرُ سَنَتَينِ: المَاضِيَةَ وَالقَادِمَةَ.
وَاليَومُ العَاشِرُ مِن هَذِهِ العَشرِ هُوَ يَومُ النَّحرِ، وَقَد قَالَ ﷺ: «إِنَّ أَعظَمَ الأَيَّامِ عِندَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَومُ النَّحرِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
فَهِيَ -كَمَا نَرَى- أَيَّامٌ مُبَارَكَةٌ، وَأَوقَاتٌ بِالخَيرِ عَامِرَةٌ، فَاَللَّهَ اللَّهَ فِي الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوبَةِ وَالِاجتِهَادِ فِي هَذِهِ الأَزمِنَةِ المُبَارَكَةِ الفَاضِلَةِ: وَتَزَوّدُوا فَإِنّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى.
الخطبة الثانية
عِبَادَ اللَّهِ: إِنّ مِنْ أَعظَمِ الأَعمَالِ الَّتِي يَنبَغِي لِلعَبدِ أَنْ يَحرِصَ عَلَيهَا فِي هَذِهِ العَشرِ: تَجدِيدَ النِّيَّةِ وَإِخلَاصَ العَمَلِ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَيَحرِصُ العَبدُ كُلَّ الحِرصِ أَن تَكُونَ سَكَنَاتُهُ وَحَرَكَاتُهُ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وَتَكُونَ أَعمَالُهُ مُرَادًا بِهَا وَجهُهُ سُبحَانَهُ، مُتَّبِعًا فِيهَا سُنَّةَ نَبِيِّهِ ﷺ، قَالَ تَعَالَى في الحَديثِ القُدسِيّ: «أَنَا أَغنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّركِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أَشرَكَ فِيهِ مَعِيَ غَيرِي تَرَكتُهُ وَشِركَهُ» رَوَاهُ مُسلِم.
وَمِمَّا يُشرَعُ مِن الأَعمَالِ فِي هَذِهِ العَشرِ: المُحَافِظَةُ عَلَى الفَرَائِضِ وَالوَاجِبَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدسِيّ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افتَرَضتُهُ عَلَيهِ...» الحَدِيثَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَمِمَّا يُشرَعُ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ العَشرِ: الصِّيَامُ، قَالَت حَفصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا: «أَربَعٌ لَم يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ ﷺ: صِيَامَ عَاشُورَاءَ، وَالعَشرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِن كُلِّ شَهرٍ، وَالرَّكعَتَينِ قَبلَ الغَدَاةِ». رَوَاهُ أَحمَدُ.
وَمِمَّا يُشرَعُ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الفَاضِلَةِ: كَثرَةُ الذِّكرِ وَالتَّهلِيلِ وَالتَّسبِيحِ وَالتَّكبِيرِ وَالتَّحمِيدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِن أَيَّامٍ أَعظَمُ عِندَ اللَّهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيهِ العَمَلُ فِيهِنَّ، مِن هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ، فَأَكثِرُوا فِيهِنَّ مِن التَّهلِيلِ وَالتَّكبِيرِ وَالتَّحمِيدِ». رَوَاهُ أَحمَدُ.
(وَكَانَ ابنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا يَخرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشرِ يُكَبّرَانِ، وَيُكَبّرُ النَّاسُ بِتَكبِيرِهِمَا).
وَالتَّكبِيرُ النَّافِعُ، هُوَ مَا وَاطَأَ فِيهِ القَلبُ اللِّسَانَ، بِأَلّا يَكُونَ فِي القَلبِ أَكبَرُ مِن اللَّهِ فِي خَلقِهِ وَتَدبِيرِهِ، وَلَا أَحَدَ أَكبَرُ مِنهُ فِي حُكمِهِ وَتَشرِيعِهِ، وَلَا أَحَدَ أَكبَرُ مِنهُ فِي تَعظِيمِهِ وَتَمجِيدِهِ، وَلَا أَحَدَ أَكبَرُ مِنهُ فِي مَحَبّتِهِ وَخَشيَتِهِ، فَهَذَا تَكبِيرُ المُؤمِنِينَ الَّذِي يَملَأُ قُلُوبَهُم إِسلَامًا وَإِيمَانًا، وَيَزدَادُونَ بِهِ عَلَى الحَقّ ثَبَاتًا وَإِيقَانًا، وَيَنَالُونَ بِهِ مِن رَبّهِم فَضلًا وَرِضوَانًا.
وَمِمّا يُشرَعُ فِي هَذِهِ العَشرِ: الأُضحِيَةُ فِي يَومِ النَّحرِ، وَيُسَنُّ لِمَن أَرَادَ أَن يُضَحّيَ أَن لا يَأخُذَ مِن شَعرِهِ وَلَا أَظفَارِهِ شَيئًا مِن دُخُولِ شَهرِ ذِي الحِجَّة إِلَى أَن يُضَحّيَ، فَعَن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِذَا رَأَيتُمْ هِلَالَ ذِي الحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُم أَن يُضَحّيَ فَليُمسِكْ عَن شَعرِهِ وَأَظفَارِهِ حَتَّى يُضَحّيَ» رَوَاهُ مُسلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عِندَهُ أَيضًا: «فَلَا يَمَسَّ مِن شَعرِهِ وَبَشَرِهِ شَيئًا».
فَاستَعِينُوا بِاللَّهِ عَلَى اغتِنَامِ عَشرِكُم، وَجِدُّوا وَاجتَهِدُوا، فَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّامٌ قَلِيلَةٌ، يَنقَضِي تَعَبُهَا، وَيَبقَى عَظِيمُ أَجرِهَا.
المرفقات
1717477022_عشر.docx