أيام العمل الصالح.

عاصم بن محمد الغامدي
1437/12/01 - 2016/09/02 04:22AM
[align=justify]أيام العمل الصالح.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله مجيبِ الدَّعوات، جزيلِ العطايا والهِبات، إليه وحدَه تُرفعُ الأيدي بالحاجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ الأرضِ والسماواتِ، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبدُه ورسوله المُرسلُ بالآياتِ البَيِّناتِ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله الهداةِ، وأصحابِه الثِّقاتِ، والتابعين لهم بإحسان ٍوإيمانٍ إلى يومِ الممات.
أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، ولا يغرنكم سهل الدنيا، فبعد السهل حُزون، الفرِح فيها محزون، والحزن فيها غير مأمون، ما ضحكت فيها نفوسٌ إلا وبكت عيون، هي دار المنون، من ركن إليها فهو المغبون.
الدنيا قَنْطَرَة، فاعبرها ولا تعمرها، واعلم أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدوَ أجلك، وليس لك من دنياك إلا ما أصلحت به آخرتك، وأعظم الحسرات غدًا، أن ترى مالك في ميزان غيرك، فيا لها من عثرة لا تقال.
لم يهتم بالخلاص، إلا أهل التقى والإخلاص، أيامهم بالصلاح زاهرة، وأعينهم في الدجى ساهرة، في نفوس طاهرة، وقلوب بخشية الله عامرة، يعملون للدنيا والآخرة. {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}.
أيها المسلمون:
فَتحتِ الدنيا أبوابَها على مصراعيها، فتَخَرَّمَتْ شَهواتُها فئامًا، وتَخَطَّفت شُبُهَاتُها أقوامًا، وأغرقت همومُ عَيشِها، كثيرًا من أهلِها.
تغيرت في زماننا أمور، أشغلت العالم، وراجت عنها أحاديث المتخصصين، التضخم الاقتصادي، الانحراف الفكري، إرهاق الأعمال، تنوع مصادر التلقي، وغيرها مما يزيد معدلاتِ الفقر والحاجة، ويرفع نسب الذنوب والمعاصي.
والموفقُ في التعامل مع تلك المتغيرات، من ربط بين الأسباب الدنيوية، وبين التعلق بالله تعالى، واتخاذِ الأسباب الشرعية، فمقاومة الفقر والحاجة والإرهاق ممكن بتعلم سبلِ التوفيرِ، والبحث عن أسباب الراحة من أعباء الدنيا، وطرقِ أبواب الرزق المتعددة، والأحسنُ منه أن يطرقَ باب الرحمن قبل ذلك كلِّه.
جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى أبيها صلوات الله وسلامه عليه تطلب منه أن يبعث معها خادمًا يعينها على أعمال المنزل التي أرهقتها، فلم تجده، فأخبرت عائشة رضي الله عنها بطلبها، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام أخبرته عائشة، فانطلق إلى منزل علي وفاطمة رضي الله عنهما، وقد أخذا مضجعهما للنوم، فلما رأياه همَّا بالقيام فقال عليه الصلاة والسلام: "على مكانكما"، يقول علي رضي الله عنه، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على صدري، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ألا أعَلِّمُكُمَا خيرًا مِمَّا سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا أربعًا وثلاثين، وسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين فهو خير لكما من خادم" [أخرجه البخاري في صحيحه].
قال ابن القيم رحمه الله: قيل أن من داوم على ذلك وجد قوةً في يومه مغنيةً عن خادم.
عباد الله:
لقد أظلنا زمان عظيم، مليء بالخير والأجر، فيه علاج الفقر والذنوب، والعمل الصالح فيه أعظم من غيره، فعن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه قال: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب، والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة"، [رواه الترمذي وإسناده صحيح].
الله أكبر، ما أعظم هباته، وأجزل أعطياته، لقد كانت أعمار الأمم السابقة أطول من أعمارنا، فعوضنا الله تعالى بأوقات تتضاعف أجور الأعمال الصالحة فيها، فطوبى لمن أحسن استغلالها، وحسرة لمن مرت به كما يمر به غيرها.
هذه العشر المباركات، عشر ذي الحجة أقسم بها الله تعالى في كتابه، ولا يقسم الله إلا بعظيم، فقال سبحانه: {والفجر* وليال عشر}.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شرفها وفضل العمل الصالح فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: " ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".
فاعرفوا رحمكم الله شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم، ولا تضيعوا فرصة في غير قربة.
إحسان الظن ليس بالتمني، ولكنه بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان، ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع، ولكنه بترك ما تُخشى منه العقوبة.
عباد الله:
كل الأعمال الصالحة في هذه العشر، مندوب إليها، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الأعمال التي يتأكد في هذه الأيام فضلها.
من هذه الأعمال كثرة الذكر، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". [رواه أحمد]. وقال البخاري رحمه الله: كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما، وكان عمر يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرًا.
واعلموا أيها الصالحون أن الجهر بالتكبير في هذه الأيام مستحب، ووقتَه مطلق منذ دخول الشهر، فأحيوا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، وتأسوا بصحابته رضوان الله عليهم.
ومن الأعمال الصالحة، صيام هذه العشر، فصومها مستحب استحبابًا شديدًا، وخصوصًا يوم عرفة، فقد نبه الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، على فضله، وحث على صيامه، فقال: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده". [رواه مسلم].
ومن القربات التي لا يتكرر زمانها سائر العام، وقد دلنا النبي صلى الله عليه وسلم على فضلها بقوله وفعله، الأضحية، فقد ضحى عليه الصلاة والسلام بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده الشريفة، وقال في فضلها: "ما من عمل ابن آدم يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنه ليؤتى يوم القيام بقرونها، وأشعارها، وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان، قبل أن يقع بالأرض، فطيبوا بها نفسًا". [رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني].
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}.
وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟
قال: "سنة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام"، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟
قال: "بكل شعرة حسنة"، قالوا: فالصوف يا رسول الله؟
قال: "بكل شعرة من الصوف حسنة". [رواه الإمام أحمد وابن ماجه].
وتجوز النية في أي وقت من العشر، أو قبلها، ومن نوى كره له الأخذ من شعره وظفره.
يا سكان مكة، يا أهل الحرم، يا من اختاركم الله لمجاورة بيته:
إن لكم خصوصية في هذه الأيام، فقد أتاكم وفد الله وضيفه، فأكرموا وفادتهم، وأحسنوا ضيافتهم، وعاملوهم كما يعامَل الأضياف في المنازل، فتلك عبادة لا تتيسر لغيركم، ويغبطكم عليها إخوانكم.
اللهم اجعلنا ممن أحسن العمل، وأعنا على اغتنام هذه العشر، وافتح لنا أبواب الطاعة، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. 
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإن أشرف الأعمال في هذه العشر المباركات، وأكثرها أجرًا وفضلاً، وأعظمها مكانة وقدرًا، حج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلاً، فهو ركن الدين الخامس، قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}، وقال عليه الصلاة والسلام: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". [متفق عليه].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه". [متفق عليه]. أي: أن الحج يكفر جميع ذنوب الإنسان السابقة، حتى يعود كالطفل الرضيع بلا ذنوب.
وفي يوم عرفة ينزل الرب تبارك وتعالى نزولاً يليق بجلاله وعظمته، ويباهي الملائكة بحجاج بيته، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟". [رواه مسلم].
لبَّيك يا رب الحجيج جموعه وفدت عليك
ترجو المثابة في حماك وتبتغي الزلفى لديك
لبَّيك والآمال والأفضال من نعمى يديك
لبَّى لك العبد المطيع وجاء مبتهلاً إليك

هذي الجموع تدفقت منها المسالك والبطاح
قطعوا لك الغبراء والدأماء واجتازوا الرياح
متضرِّعين إليك مستهدين يرجون السماح
لبَّيك في الليل البهيم وفي الغدو وفي الرواح

هذا الصَّباح يعجُّ بالتهليل يتبعه الدعاء
هذا المساء يضِجُّ بالتكبير يبعثه الرجاء
في الأرض تلبيةٌ تُفيضُ بها القلوب إلى السماء
لبَّيك في حر الهجير وفي الصباح وفي المساء

بين المضارب في البطاح وفي حمى البيت الحرام
عند المحصَّب أو بأرجاء الحطيم أو المقام
مُهَجٌ وأرواح تطوف بها كما طاف الحمام
لبَّيك تسألك الهداية والعناية والسلام

لاذت بساحتك الخلائق واستقرَّت في حماك
وشَدَت بنجواك السرائر واستهامت في هداك
الوحش والإنسان والأطيار تستجدي رضاك
لبَّيك مبدؤها ومرجعها إليك وفي ثراك

سبحانك اللَّهم يا حامي حِمَى البيت الأمين
يا مسبل الرَّحمات تغسل من خطايا المذنبين
إيَّاك نعبد مخلصين وما بغيرك نستعين
لبَّيك سبَّحْنَا بحمدك فاهدنا نهج اليقين
أما بعد أيها المسلمون:
فاتقوا الله -رحمكم الله-، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة؛ فإن الشقي من حرم رحمة الله، عياذًا بالله، ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، وثمرة العلم العمل، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في هذه الأيام من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لتعظيم شعائرك، واجعلنا ممن خافك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين المصلحين، واغفر لنا خطايانا في يوم الدين.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
[/align]
المشاهدات 1069 | التعليقات 0