(أوَ مخرجيَّ هم؟؟)
سامي بن محمد العمر
أما بعد:
لتُكذبَنَّه، ولتُؤذيَنَّه، ولتُخرَجَنَّه
كلمات خوّف بها ورقةُ بنُ نوفل نبينَا محمداً صلى الله عليه وسلم حين عرض عليه ما رأى في غار حراء؛ فلم تكن الأولى (لتُكذَبنَّه) ولا الثانية (ولتُؤذَينَّه) لِتُحرك منه شيئاً بأبي هو وأمي، ولكنّ الثالثة (ولتُخرَجنَّه) كانت هي الأقسى؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أوَ مُخرجِيَّ هم؟)) مستنكراً ذلك ومتألماً([1]).
وبعد فتح مكة وقف في سوقها فقال صلى الله عليه وسلم : ((والله إنك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منكِ ما خرجت))([2])
إنها غريزة حب الديار التي جعلها الله فطرة وجبلة في نفوس البشر جميعاً؛ وذكّر بها في آيات عديدة كقوله تعالى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40]
وأخرج البخاري من حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة [أي: الطرق المرتفعة منها] وفي رواية: دوحات المدينة [أي: أشجارها العظيمة] وفي رواية: جدران المدينة؛ قال أنس: أوضع ناقته [يعني أسرع] وإن كانت دابة [أي: غير الناقة] حركها [يعني عجلها] قال: من حبها)([3]) [أي من حبه للمدينة] عليه الصلاة والسلام.
قال ابن بطال - وهو أحد شُراح البخاري -: "يعني لأنها وطنه وفيها أهله وولده الذين هم أحب الناس إليه، وقد جبل الله النفوس على حب الأوطان والحنين إليها، وقد فعل ذلك عليه الصلاة والسلام وفيه أكرم الأسوة"([4]).
وحيث علمتم أن محبة الأوطان فطرة يشترك فيها جميع البشر - مؤمنهم وكافرهم - فليست المزية إذًا في حب الوطن لأنه وطن؛ إنما المزية أن تحب وطناً هو مبدأ الاسلام ومأرز الإيمان ورافع راية التوحيد وبلد المقدسات وأرض الرسالات وقبلة المسلمين ومهاجر الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم.
إنها البلاد التي عَلِم الناسُ فيها من نبينا محمدٍ صلّى الله عليه وآله وسلم معنى العزة والكرامة، وعرفوا قيمة العقل والعلم، وشَرَع لهم شرعة الإيمان والعدل والإحسان؛ ليفتحوا في التاريخ صفحة مجد وسموّ ونبل.. بدأ كتْبها أجدادُنا وضخوا معالمها السامية في العروق جيلا بعد جيل؛ مِلؤها الرحمة والهداية والنور الذي أضاء الدنيا من المشرق إلى المغرب، ووقودُها العزم الذي هدّ بروج الطغيان وتهاوت له التيجان، ورايتها التوحيد الذي يعلو في كل مكان، فيُخشع الرواسي ويُطأطِئُ الشامخات:
لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله.
إنها البلاد التي دعا لها إبراهيم عليه السلام كما حكى الله عنه:
(وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا ...)
لعلمه عليه الصلاة والسلام أنه بدون الأمن: لا هناء بطعم، ولا نماء لتجارة، ولا نشر لعلم، ولا خروج لعبادة، ولا اتساع في بنيان، ولا سفر بأمان، ولا زيادة في تنمية، ولا انبساط في حال، ولا سعادة بمال، ولا اطمئنان على عيال.
هذه البلاد كالدماء تجري في أجساد أبنائها؛ يذودون عن حياضها العمر كله، ويعرفون قيمتها السنة كلها ، فتراهم في ميادين الترقي والاجتهاد، ومدارج العلوم والمعالي، لا يرضون بالضعف ولا بالدون لأن الرفعة والمجد لأهل العلم {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ درجات}
حفظ الله لبلادنا أمنها واستقرارها وقيادتها وتكاتف أهلها، وردَّ عنا كيد الكائدين ومكر الماكرين، .
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإن المتقرر لكل من قرأ القرآن أن النعم والخيرات والأمن والمسرات تقرُّ بالشكر وتفرُّ بالطغيان والكفر {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]
خاصة إذا كانت العبر والعظات تُحيط بنا؛ والقوارع تتخطف الناس من حولنا، ونحن ههنا آمنون؛ في مواعظ يجب ألا تمر علينا كسحابة صيف أو خيال طيف.
فمن ذا يتخيل في لحظة أن تزول النعم، وتتبدل العافية، ويذهب الأمن، ويحل الدمار، وتكثر الأضرار؟
لذا كان لا بد من التواصي بدوام الحمد لله والشكر، والإقبال إليه بالطاعة والتوبة والذكر؛ والتقرب له بترك المعاصي والمنكرات؛ فما نحن إلا خلق من خلقه؛ تجري علينا أوامره ومقاديره؛ فإن لطف بنا فجعل غيرنا عبرة لنا؛ فلا يبعد مع بطرنا أن يجعلنا عبرة لغيرنا.
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41]
اللهم إنا نسألك أن تحفظ هذه البلاد وشعبها وقادتها بحفظك، وتكلأهم برعايتك، وأن تدفع عنا الغلاء والوباء ...
اللهم آمنا في بلادنا ووفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى واجعلهم مفاتيح لكل خير مغاليق لكل شر
([1]) سيرة ابن هشام (1/222) وأصل القصة في البخاري (3) وغيره.
([2]) أخرجه الترمذي (3925 ) وأحمد (18715 ) وغيرهما وصححه محققو المسند.
([3]) البخاري (1802)
([4]) شرح ابن بطال (4/453).
المرفقات
1726758120_((أوَ مُخرجِيَّ هم؟)) .pdf