أولُ منازلِ الآخرةِ

محمد بن سامر
1442/10/23 - 2021/06/04 05:12AM

أولُ منازلِ الآخرةِ-23-10-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري

    إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستغفره، ونعوذ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عليه وآلهِ صلاتُه وسلامُه وبركاتُه.

)يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون(.

أما بعد: فيا إخواني الكرام:

هل ذهبتَ يومًا إلى المقابرِ في تشييعِ قريبٍ أو زيارةِ حبيبٍ؟ هل رأيتَ هناكَ الحفرَ الضَّيقةَ المتقاربةَ؟ هل تخيلتَ يومًا أنَّكَ توضعُ فيها، وتترك الدُّنيا وما فيها؟ ومع إيمانِكَ بأن الموتَ حقٌ وأنَّه مصيرُ كلِّ حيٍّ، ولكن من الصعبِ أن تتخيَّلَ هذا الشُّعورَ، وقد أُنزلتَ إلى ظُلمةِ القبورِ، فلا أهلَ ولا أصحابَ، ولا أقاربَ ولا أحبابَ، لو استشعرتَ هذا الموقفَ حقَّ اليقينِ، لسالَ الدمعُ الغزيرُ مِنَ العينِ، كَانَ عُثْمَانُ-رضيَ اللهُ عنهُ-إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ، بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلاَ تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ-قَالَ: "إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ".

تنتهي في هذه الحفرةِ كلُّ أمانيِّ الـمَيِّتِ والآمالِ، وتنقطعُ فيها كلُّ المواعيدِ والأشغالِ، فها هو اليومَ في حياةٍ جديدةٍ، في سِنينَ طويلةٍ مَديدةٍ، وقد شاهَدَ فيها الحقيقةَ، سل الغنيَّ: أين ذهبَ غِناهُ؟، وسل الفقيرَ: هل انتهتْ المأساةُ؟، وسل المريضَ: هل انقطعتْ المعاناةُ؟، وسل المحزونَ: أينَ حزنُه الذي أعياهُ؟

أتيتُ القبورَ فناديتُها*أينَ المُعَظَّمُ والمُحتقَرْ

وأينَ المُدِلُّ بسلطانِه*وأين المُزَكَّى إذا ما افتَخَرْ

تَفانوا جَميعًا فمَا مُخبرٌ*ومَاتوا جميعًا ومَاتَ الخَبرْ

تروحُ وتغدو بَنَاتُ الثَّرى-الدودُ-*فتمحو مَحاسنَ تلكَ الصُّورْ

فيا سَائلي عن أُناسٍ مَضَوا*أَما لكَ فِيما مَضَى مُعتَبرْ

إنَّه ذلكَ اليومُ الذي ينتهي فيه الليلُ ويطلعُ الفَجرُ، إنَّها تلكَ السَّاعةُ التي ينقضي فيها العمرُ، إنَّها تلكَ اللحظةُ التي تـُحملُ فيها إلى القَبرِ، فهل حقًّا سيذهبُ بكَ الأقاربُ والأحبابُ إلى هذا البيتِ الذي يَنتظرُك؟ هل حقًّا سيتنافسونَ على حثوِّ التُّرابِ على قبرِكَ؟ وأنتَ تقولُ لهم: أفي هذهِ الحفرةِ تتركوني؟ باللهِ عليكم أَخرجوني، من سَيُؤْنِسُ وَحشتي؟، ومن سَيُؤَمِّنُ رَوعتي؟، ولكنهم لا يسمعونَ صوتَكَ، دخلَ عليُّ بنُ أبي طَالبٍ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-المقابرَ، فقَالَ للموتى: "أمَّا المنازلُ فقد سُكِنَتْ، وأمّا الأموالُ فقد قُسِمَتْ، وأمّا الأزواجُ فقد نُكِحَتْ، فهذا خبرُ ما عِندَنا، فما خَبرُ ما عِندَكم؟، ثم قَالَ: والذي نَفسي بيدِه، لو أُذِنَ لهم في الكلامِ لأخبَرُوا: أنَّ خيرَ الزّادِ التّقوَى".

في تلكَ اللحظاتِ ستعلمُ أنَّكَ كنتَ في غفلةٍ وغُرورٍ، وستندمُ لأنَّكَ استبدلْتَ الفانيةَ بدارِ الحُبورِ، كمْ أضعْتَ من الأيامِ والأوقاتِ، وكم انشغلتَ بالشَّهواتِ والمَلذَّاتِ، تقولُ لنفسِكَ: ليتني كُنتُ مُحافظًا على صلاةِ الفَجرِ، ليتَ لساني كانَ رطباً بالذِّكرِ، ليتَ لي صدقاتٌ في العَلنِ والسِّرِّ، ليتَ لي ركعاتٌ تنفعني اليومَ في القَبرِ، مطالبُ وأمنياتٌ، آمالٌ ورَغباتٌ، ولكن هيهاتَ هيهاتَ، مَرَّ رَسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ-بِقَبْرٍ فَقَالَ: "مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْقَبْر؟ فَقَالُوا: فُلانٌ، فَقَالَ: رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنياكمْ".

حِينها ستندمُ على خِصامٍ كانَ مع حبيبٍ، وخِلافٍ كانَ مع قريبٍ، وستعلمُ أنَّكَ قصَّرتَ في حقِّ زوجتِكَ وأبنائِكَ والبناتِ، وتتمنى لو كنتَ قضيتَ معهم كثيرًا مِنَ الأوقاتِ، ستعرفُ-حينَها-أنَّ الدنيا سرابٌ، وأنَّكَ قد انشغلتَ بدارِ الخرابِ، ونسيت الاستعدادَ ليومِ الحسابِ، حينَها يصرخُ المفرِّطُ: )رَبِّ ارجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ( فيأتيه الجوابُ مباشرةً: )كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ( وصدقَ أَبُو ذَرٍّ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-حِينَ قَالَ: "أَلا أخْبركُم بِيَوْمِ فَقري، يَوْمَ أُنزلُ قَبْرِي".

الموْتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ*يا ليْتَ شِعرِيَ بعدَ البابِ ما الدَّارُ؟

الدَّارُ جنَّة ُخلدٍ إنْ عمِلتَ بِمَا*يُرْضِي الإلَهَ وإنْ قصّرْتَ فالنّارُ

هُمَا مَحَلَّانِ مَا لِلنَّاسِ غَيْرُهُمَـا*فَانـْظُرْ لِنَفْسِك مَاذَا أَنْتَ مُخْتَارُ

أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:

فعن البراءِ بنِ عَازبٍ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-قَالَ: بينما نَحنُ معَ رَسولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلمَ-إذ أَبصرَ بجماعةٍ فَقَالَ: عَلامَ اجتمعَ هَؤلاء؟ قِيلَ: على قَبرٍ يَحفرونَه، قَالَ: ففَزِعَ رَسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلمَ-فبَدا بينَ يَدي أصحابِه مسرعًا، حتى انتهى إلى القبرِ فجَثا-على ركبتيه-عَليهِ، قَالَ البراءُ: فاستقبلتُه-واجهتُه-من بينِ يَديهِ لأنظرَ ما يَصنعُ، فبَكى حتى بَلَّ الثَّرى-الأرضَ-من دُموعِه، وأبكى من حَولَه، ثُمَّ أَقبلَ عَلينا فقَالَ: أَيْ إخواني، لمثلِ هذا اليومَ فأَعدِّوا".

يا لها من نصيحةِ ناصحٍ تستحقُّ التأمَّلَ كثيرًا، فما الذي يمنعُ أن نُعِدَّ لذلكَ اليومَ؟

تذَّكرْ تلكَ الليلةَ الأولى التي تبيتُها في قَبرِكَ، وليسَ تحتَك سريرُكَ الوَطيئُ، وليسَ فوقَك فِراشُكَ الهَنيئُ، وحيدًا بعيدًا عن بيتِكَ وأهلِكَ، فارقَ رجلٌ ليلةً مَرقدَه، فلم يستطعْ النومَ، فتذكَّرَ أولَ ليلةٍ في القبرِ، وأنشدَ:

فارقتُ موضِعَ مَرقدي*يَومًا ففَارقني السُّكونُ

القبرُ أولُ ليلةٍ*باللهِ قُلْ لي مَا يَكونُ؟

إنَّها واللهِ الليلةُ التي أنذرَ منها الأنبياءُ، وبَكى مِنها العلماءُ، وسهرَ لها الأتقياءِ، واستعَّدَّ لها الحُكماءُ، وعَجَزَ عن وصفِها البُلغاءُ، أنيسُكَ فيها العملُ الصَّالحُ، فأنعمْ بِهِ أنيسًا للمُؤمنِ الفالحِ، فيا مَنْ يحبُّ السَّعةَ في السَّكنِ والدُّورِ، اِعلمْ أنَّ عملَك اليومَ يُوَسِع القبورِ، فالزادَ الزادَ، والاستعدادَ الاستعدادَ.

أَمّا بُيوتُكَ في الدُنيا فَواسِعَةٌ*فَلَيتَ قَبرَكَ بَعدَ المَوتِ يَتَّسِعُ

لا إلهَ إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا اللهُ ربُ العرشِ العظيمِ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُ السماواتِ وربُ الأرضِ وربُ العرشِ الكريمِ، لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَك إنَّا كنا من الظالمينَ، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ، وأصلحْ بطانتَهم، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اهدنا والمسلمين لأحسن الأخلاق والأعمال، واصرف عنا وعنهم سيئها، اللهم اغفرْ لوالدينا وارحمهم واجعلهم في الفردوسِ الأعلى من الجنةِ وإيانا والمسلمين، اللهم إنَّا نسألُك لنا وللمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ الإسلامِ والمسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ، اللهمَ اسقنا وأغثنا(ثلاثًا).

اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ وأنبياءِ ورسلِه وآلِهِ وصحبِهِ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.

المرفقات

1622783530_أولُ منازلِ الآخرةِ-23-10-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx

1622783538_أولُ منازلِ الآخرةِ-23-10-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf

المشاهدات 1342 | التعليقات 0