أول سفير في الإسلام

عَلَمٌ مِن الأعلام ونجمٌ من النجوم الذين هم أهلٌ أن يُقتدَى بهم، إنه مصعب بن عمير t ذلكم الشاب التقي؛ الداعية المجاهد؛ الذي نوَّر اللهُ قلبه، فأسلم طائعًا؛ وهاجر معلمًا وداعيا، ومات مجاهدًا شهيدًا.

كان في صغره وقبل إسلامه شابًا غنيًا جميلاً مُدللاً مُنَعَّمًا، حسنَ الوجه؛ كان أعظمَ فتيان مكة شبابًا وجمالاً، وكانت أُمُّه تَكسُوه أحسنَ الثياب وأَرَقَّهُ وأغلاها، يعرفُه أهلُ مكةَ بعِطْره الذي يَفوحُ منه دائمًا، وأبواه كانا مِن أغنى أغنياء مكة، ويُحبانه حُبًّا عظيمًا، ولا يَرُدا له طلبًا، بل رغباتُه وطلباتُه كلها مستجابةً ومُنفَّذةً. كانتْ أمه تَضعُ أطايبَ الطعام عند رأسه وهو نائم، فإذا استيقظ أكل منه؛ فهل بعد ذلك رفاهية ونعيم دنيوي!! وكان رسول الله ﷺ يذكُره ويقول: "ما رأيتُ بمكةَ أحسنَ لِمَّــةً (شعرٌ جميل)، ولا أَرَقَّ حُلَّة (الثياب الناعمة)، ولا أنْعَمَ نِعْمَة مِن مصعب بن عمير".

يسمع مصعب بن عمير داعيًا يدعو إلى الله، ومناديًا ينادي للإيمان ]يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[.

فيسرع مصعب t نحو الداعي مستجيبًا لنداء الإيمان؛ ولسان حاله يقول ]رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ[ لم يمنعه ذلك النعيم مِن أن يدخل في دين الله، فآثر ما عند الله، آثر الآخرة ليحظى بنعيمها، ودخل في دين الله طاعة لله ولرسوله ﷺ، في وقتٍ كان المسلمون يعانون مِن أذى المشركين وتسلطهم، فأسرع للقاء النبي ﷺ في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهناك أعلن إسلامه، لينضم إلى قائمة السابقين الأولين وهم أعظم الأمة شرفًا وقدْراً وأجراً. أصبح مصعب مثالٌ للثبات على الدين مع كثرة الفتن والمغريات.

أسلمَ مصعب بن عُمير، فعلمتْ به أُمُّه وكانت تُحبه حباً شديداً، فحاولتْ أن تُثنِيَه عن الإسلام بعدة طرق في غاية القسوة، فلقد تعرَّض مصعب لجميع أنواع الأذى: الأذى النفسي والجسدي، حيث حُبِس مصعب، وقد ذَبُلَ جسمُه وتغيّر لونُه وأصابه مِن الجوع ما لا يستطيع الوقوف ولا المشي، بعد ما كان مرفهاً مدللاً. وتعرض للأذى المادي، إذ قُطعت عنه جميع الموارد المالية التي كان يحصل عليها لاسيما مِن قِبَلِ أُمّه، حتى أصبح لا يجد ما يَلبس إلا فروة لا تكاد تستره. لما رآه النبي ﷺ على هذه الحالة بكى وقال: " انْظُرُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ يُغَذِّوَانَهُ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَدَعَاهُ حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى مَا تَرَوْنَ" لم يتنازل مصعب عن دينه أمام حرمان أمه، ولم يزدَدْ إلا ثباتًا ورسوخًا ولسانُ حاله يقول ]وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[.

ولما اشتد الإيذاء بالمسلمين، هاجر مصعب إلى أرض الحبشة، ثم عاد منها إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة، لماذا يا تُرى؟ لقد أصبح معصب أول سفير للإسلام، اختاره النبي ﷺ أولَ وخيرَ سفيرٍ في الإسلامِ إلى يثرب (المدينة المنورة) إنه الشرف العظيم، والمكانة الرفيعة لهذا الشاب المؤمن.

وقَدَّر مصعبٌ t المسؤوليةَ التي أُنيطت به، وحَمَل لواء الدعوة إلى الله عقيدةً وسلوكًا وجهادًا، ليصل إلى يثرب (المدينة المنورة) ليُمهِّدها لتكون دارَ الهجرة ودولة الإسلام. وصل مصعب المدينة، وأخذ يدعو الناس إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان يتنقل من دار إلى دار، يتلو عليهم القرآن ويذكر لهم ما يحفظ من أحاديث الرسول ﷺ ضاربًا المثلَ الطيب في العبادة والتقوى. ولم يكن يمَّر يوم دون أن يُسلم الرجل أو الرجلان، ولم يترك بيتًا إلا ترك فيه أثرًا طيبًا. وقد أسلم على يديه في يوم واحد (سعد بن معاذ) و(أسيد بن حضير) من كبار زعماء يثرب، وكفى بذلك فخرًا وأثرًا فِي الإسلام، حيث وأسلم بإسلامهما خلق كثير.

مكث مصعب بن عمير t سنة كاملة يدعو أهلَ المدينة؛ ويعلمهم؛ حتى أسلمَ على يديه خلقٌ كثير، ثم خرج مِن المدينة حتى قدمَ مكة؛ فنزل أولَ ما نزل على منزلِ رسول الله ﷺ ولم يذهب إلى منزل أُمِّه، فجعلَ يخبرُ رسولَ الله ﷺ عن الأنصار؛ وسرعتِهم إلى الإسلام، وشوقهم إلى قدوم النبي ﷺ عليهم مهاجرًا، فسُرَّ رسولُ الله ﷺ بكلِّ ما أخبره.

ولم ينس مصعب أمَّه، فقام بدعوتها إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لكنها أبت. وفي هذا يظهر حرص مصعب t على هداية أُمِّه ودعوتها للإسلام بأسلوب كلِّه شفقة ورحمة، فإن دعوة الإنسان والديه للإسلام مِن أعظم البر الذي يقدمه لهما. ولكنَّ الهداية بيد لله ]إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[.

أقول ما تسمعون ...

 

الحمد لله رب العالمين ...

معاشر المؤمنين ... تمضي الأيام والأعوام، وفي غزوة أحد، اختار الرسول ﷺ مُصعبًا ليحمل لواءَ المسلمين، وتقعُ المعركة ويشتدّ القتال، وكان النصرُ بداية للمسلمين، ولكن سرعان ما تحوَّل النصرُ إلى هزيمة لمَّا خالفَ الرماةُ أمرَ رسول الله ﷺ ونزلوا مِن فوق الجبل يجمعون الغنائم، فأخذ المشركون يقتلون المسلمين الذين بدأت صفوفُهم تتمزق، فرَكَّزَ الأعداءُ على رسول الله ﷺ وأخذوا يتعقبونه ليقتلوه، فأدركَ مصعبٌ هذا الخطر، ومضى يقاتل، وهمُّه أن يُلفِتَ أنظارَ الأعداءِ إليه ليشغلهم عن رسول الله ﷺ، فتجمَّع الأعداءُ حول مصعب، فضربَ أحدُهم يدَه اليمنى فقطعها، فحمل اللواء بيده اليسرى فقطعها عدو الله، فضمَّ اللواء إلى صدره بعضديه، وهو يقول ]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[ فضربه ضربة ثالثة فقتله، فمات مصعب شهيدًا t.

فلما انتهت المعركة وقف عليه رسول الله ﷺ ودعا له وقرأ  ]مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[ وسام شرف وتزكية من سيد البشر -صلى الله عليه وسلم- لهذا البطل الذي ثبت على دينه وعقيدته، ثبات الجبال إلى آخر لحظة من حياته، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ]وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ[.

مصعب بن عمير t ذلك الشاب الذي كانت تنظرُ إليه العيون إكبارًا وإعجابًا؛ لحُسْنِه وغناه ومكانته، ينسلخ من ذلك الترف والنعيم كلِّه مبتغيًا وجهَ الله تعالى، وما أعدَّه لعباده المؤمنين، يُقتل شهيدًا في سبيل الله، فلا يجد المسلمون عند موته كفنًا يكفنوه فيه؛ إلا ثوبًا قصيرًا، إذا غطوا به رأسه بَدَتْ رجلاه، وإذا غطوا به رجليه بدا رأسه، فغطوا رأسه بالكفن ووضعوا على رجليه شجر الإذخر، لأمر رسول الله ﷺ.

هذا مصعب بن عمير t باع الدنيا، ففاز بالآخرة، يأتي يوم القيامة وفي ميزان حسناته كلُّ الذين أسلموا على يديه، "فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ".

رحل مصعب الشاب كما سيرحل جميع الناس، ولكنه رحلَ عزيزًا وكبيرًا، لأنه عاش لدينه وعقيدته، ومن عاش لدينه وعقيدته عاش كبيرًا، ومات كبيرا.

رحل مصعب ولم ترحل ذكراه، ولا ذكرى بطولاته، ولا ذكرى تضحياته من قلوب المؤمنين الأتقياء في كل زمان ومكان.

رحل مصعب ليقول لكل فردٍ مِن هذه الأمة، من كان يريد الرفعة والعزة والسعادة فليطلبها في طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله ﷺ ]وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ[.

هذه بعض الإضاءات من سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير، فهل لشبابنا ورجالنا أن يتخذوه قدوة لهم في الدعوة إلى الله والعبادة والعمل الصالح!!

جَزى اللهُ (مُصعبًا) خيراً عن الإسلام والمسلمين، ورضي اللهُ عنه وعن الصحابة أجمعين، وحشرنا معهم في جنات النعيم، بجوار نبينا محمد ﷺ.

فتشبّهوا إنْ لم تكونوا مثلَهم. . . إنّ التشبّهَ بالكِرامِ فَلاحُ

وصل اللهم على نبينا محمد

 

المرفقات

1716499260_سفير الإسلام.pdf

1716499269_سفير الإسلام.docx

المشاهدات 573 | التعليقات 0