أول جريمة قتل على ظهر الأرض. دروس وعبر 9/8/1438هـ
عبد الله بن علي الطريف
1438/08/09 - 2017/05/05 12:16PM
أول جريمة قتل على ظهر الأرض. دروس وعبر 9/8/1438هـ
أيها الإخوة: حديثنا اليوم عن أول جريمة وقعتْ على ظهْر الأرض، وهي أول مُواجهة بين الخيرِ والشر في بني آدم..
وهذه الجريمة تقدم نموذجاً لطبيعة الشر والعدوان الصارخ الذي لا مبرر له.. وهي في ذات الوقت تقدم نموذجاً لطبيعة الخير والسماحة والطيبة والوداعة، وتوقفهما وجهاً لوجه، فيتصرف كل منهما وفق طبيعته..
نعم لقد كانت قصة عجيبة وحادثة مؤثرة رهيبةٌ، ولقد أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم فيها آيات تتلى إلى يوم القيامة، لما فيها من العبرة للمعتبرين صدقاً لا كذباً، وجداً لا لعباً، والظاهر أن القصة وقعت لابني آدم لصلبه كما يدل عليه ظاهر الآية والسياق والله أعلم، وهو قول جمهور المفسرين.. والقارئ للقصة في كتاب الله تعالى يجدها مجملة في سياقها، ومع ذلك فهي تؤدى الغرض من ذكرها ولا تضيف التفصيلات التي أضافها أهل السير إليها شيئاً..
أيها الأحبة: لقد صدر الله تعالى القصة بقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) اتل عليهم نبأ هذين النموذجين من نماذج البشرية في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيبة فهما في موقف طاعة بين يدي الله موقف تقديم قربان يتقربان به إلى الله؛ فقد أخرج كل منهما شيئا من ماله لقصد التقرب إلى الله، (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ) وعلم القبول بخبر من السماء، أو بالعادة السابقة في الأمم، أن علامة تقبل الله للقربان، بأن تنزل نار من السماء فتحرقه.. فـــــ(قَالَ) الابن، الذي لم يتقبل منه للآخر حسداً وبغياً (لأقْتُلَنَّكَ) فقال الذي تقبل منه: مترقِّقاً له في ذلك (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) هكذا في براءة تَرُدُ الأمر إلى وضعه وأصله، وفي إيمان يدرك أسباب القبول، وفي توجيه رَفِيقٍ للمعتدي أن يتقي الله، وهو في نفس الوقت تعريضٌ لطيفٌ به لا يُصرحُ بما يخدشه أو يستثيره.. يقول المهدد بالقتل أيُّ ذنبٍ لي وأي جناية توجبُ لك أن تقتلني.؟! إلا أني اتَّقيت الله تعالى، الذي تقواه واجبةٌ عليَّ وعليك، وعلى كلِّ أحد..
ثم يمضي الأخ المؤمن التقي الوديع المسالم يكسر من شِرْةِ الشرِ الهائج في نفس أخيه الشرير، مخبراً عن مَوْقِفِه بأنَّه لا يريدُ أن يتعرَّضَ لقتلِهِ، لا ابتداءً ولا مُدافعةً فقال: (لَئِن بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ) وليس ذلك جُبْناً مني ولا عجزاً. وإنَّما ذلك لأني (أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) والخائف لله لا يُقْدِمُ على الذُّنوب، خصوصاً الذُّنوب الكبار. وفي هذا تخويفٌ لمن يريدُ القتل، وأنَّهُ ينبغي له أن يتقيَ الله ويخافه. وفي هذا القول اللين ما يُسَكِّنُ الحقدَ، ويهدّئ الحسد، ويزيل الشر، ويمسح على الأعصاب المهتاجة، ويرد صاحبها إلى حنان الأخوة، وبشاشة الإيمان، وحساسية التقوى..
واستمر المهدد بالقتل في وعظه لأخيه بقوله: (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ) أي: ترجع (بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي: إنه إذا دار الأمر بين أن أكون قاتلا أو تقتلني فإني أوثر أن تقتلني، فتبوء بالوزرين، وعرض له وزرَ جريمة القتل لينفره منه، ويزين له الخلاص من الإثم المضاعف، بالخوف من الله رب العالمين، وبلغ من هذا وذلك أقصى ما يبلغه إنسانٌ في صرفِ الشرِ ودوافِعه عن قلب إنسان.. وبين له أن القتل ظلم وجزاء الظالم النار فقال: (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) ولقد بلغ المهددُ بالقتل أقصى ما يبلغه إنسانٌ في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان مقبل على الشر ولكن بدون جدوى..
فلم يرتدع ذلك الجاني ولم يَنزجِر، ولم يزلْ يُعَزِمُ نفسه ويجزمُها، حتَّى طوَّعت له قتل أخيه الذي يقتضي الشرع والطبع احترامه.. (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)..
نعم أيها الإخوة: بعد كل هذا التذكير والعظة والمسالمة والتحذير اندفعت النفس الشريرة، فوقعت الجريمة..!! وقعت الجريمة وقد ذللت له نفسُه كلَ عقبةٍ، وطوعت له كلَ مانع..!! لقد طوعت له نفسه القتل.. وقتل من.؟ إنه قتل أخيه..!!!
وحق عليه النذير (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك، وخسر أخاه فَفَقَدَ الناصرَ والرفيقَ، وخسرَ دنياه فما تهنأُ للقاتل حياة، وخسرَ آخرتَه فباء بإثمِه الأول عدمِ قبول القربان، وإثمه الأخير القتل.. وأصبح قد سن هذه السنة لكل قاتل.. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «..مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» رواه مسلم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولهذا ورد في الحديث الصحيح أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ أَوَّلًا» رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
فلما قتل أخاه مَثُلَتْ له سَوأةُ الجريمة في صورتها الحسية.. صورة الجثة التي فارفتها الحياة وباتت لحماً يسري فيه العفن، فهى سوأة لا تطيقها النفوس.. فحارت به الحيلة؛ فهو أول ميت مات من بني آدم، وشاءت حكمة الله أن تَقِفَهُ أمامَ عجزه عن أن يواري سوأة أخيه، وهو الباطش القاتل الفاتك.. لقد عجز عن أن يكون كالغراب في أمة الطير.. (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ) أي: يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتاً. (لِيُرِيَهُ) بذلك (كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) أي: بدنه، لأن بدن الميت يكون عورة (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) وهكذا عاقبة المعاصي الندامة والخسارة. نسأل الله أن يحمينا من أعظم ورطات الزمان وهو القتل.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد...
الثانية:
أيها الإخوة: ثم يقول الله تعالى معقباً على هذه الحادثة العظيمة والجريمة الشنيعة: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) [المائدة:32] أي: من أجل وجود هذه النماذج في البشرية.. ومن أجل الاعتداء على المسالمين الوادعين الخيرين الطيبين، الذين لا يريدون شراً ولا عدواناً.. ومن أجل أن الموعظة والتحذير لا يجديان في بعض الجبلات المطبوعة على الشر، وأن المسالمة والموادعة لا تكفان الاعتداء حين يكون الشرُ عميقَ الجذورِ في النفس.. من أجل ذلك جعلنا جريمة قتل النفس الواحدة كبيرة.. كبيرة تعدل جريمة قتل الناس جميعاً، وجعلنا العمل على دفعِ القتلِ واستبقاءِ نفسٍ واحدة عملاً عظيماً يعدل إنقاذَ الناسِ جميعاً.. وكتبنا ذلك على بني إسرائيل فيما شرعنا لهم من الشريعة..
ودلت الآية على أن القتل يجوز بأحد أمرين: إما أن يقتل نفسا بغير حق متعمدا في ذلك، وإما أن يكون مفسدا في الأرض، وهذا كله خاص بولي أمر المسلمين وليس لأحد أن يفعل ذلك لا جماعة ولا فرد فالدماء من أمور الولاية لا يجوز التعدي عليها.. عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ "رواه البخاري ومسلم. أيها الإخوة: ومن الدروس المستفادة، التأدب بالأدب المناسب عند الفتنة وهو الابتعاد عنها وكف النفس عنها وعن المواجَهة الدمويَّة؛ (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).. وعلى المسلم أن يتذكر عظيم العقوبة على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول.؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتْل صاحبه" متَّفق عليه.
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَفِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، كَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا بِسُيُوفِكُمُ الْحِجَارَةَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدٍ بَيْتَهُ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ» رواه ابو داود وابن ماجة وابن حبان وصححه الألباني.
وفي رواية: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ , أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَيَّ دَارِي، وَبَسَطَ يَدَهُ لِيَقْتُلَنِي؟ قال: " فَادْخُلْ بَيْتَكَ " قال: أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي؟ , قال: " فَادْخُلْ مَسْجِدَكَ وَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ وَاصْنَعْ هَكَذَا - وَقَبَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَمِينِهِ عَلَى الْكُوعِ - وَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ, حَتَّى تَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟, اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟, اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ , فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ, أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ, فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ, أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي مَاذَا يَكُونُ مِنْ شَأنِي؟ قَالَ: يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.
ومن الدروس المستفادة: أن أعظم رادع من المعاصي والخطأ الخوف من الله فعلينا أن نسعى جاهدين لغرس هذا الخلق بأنفسنا وبمن تحت أيدينا من الأزواج والذرية فقد كان المانع للمقتول من ابني آدم من القتل خوف الله تعالى فقد قال لما هدده بالقتل: (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)
وبعد أيها الإخوة: أما من شذ عن الجادة وركب سفينة الخطأ وخاض غمار الجريمة بِشُبَهٍ لبَّسها عليه أهلُ الزيغِ والضلال، وامتطى القتل والتخريب والتكفير وسيلة للتغيير فقتل نفسه بين المسلمين..!! وقتل معه الأبرياء من الناس، أو قتل رجال الأمن فأهلك الحرث والنسل وسمى عمله عملية استشهاية.!! فقد ضل سواء السبيل. ونسأل الله لهم الهداية.. وأن يمكن من المجرمين منهم عاجلاً غير آجل..
أيها الإخوة: حديثنا اليوم عن أول جريمة وقعتْ على ظهْر الأرض، وهي أول مُواجهة بين الخيرِ والشر في بني آدم..
وهذه الجريمة تقدم نموذجاً لطبيعة الشر والعدوان الصارخ الذي لا مبرر له.. وهي في ذات الوقت تقدم نموذجاً لطبيعة الخير والسماحة والطيبة والوداعة، وتوقفهما وجهاً لوجه، فيتصرف كل منهما وفق طبيعته..
نعم لقد كانت قصة عجيبة وحادثة مؤثرة رهيبةٌ، ولقد أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم فيها آيات تتلى إلى يوم القيامة، لما فيها من العبرة للمعتبرين صدقاً لا كذباً، وجداً لا لعباً، والظاهر أن القصة وقعت لابني آدم لصلبه كما يدل عليه ظاهر الآية والسياق والله أعلم، وهو قول جمهور المفسرين.. والقارئ للقصة في كتاب الله تعالى يجدها مجملة في سياقها، ومع ذلك فهي تؤدى الغرض من ذكرها ولا تضيف التفصيلات التي أضافها أهل السير إليها شيئاً..
أيها الأحبة: لقد صدر الله تعالى القصة بقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) اتل عليهم نبأ هذين النموذجين من نماذج البشرية في موقف لا يثور فيه خاطر الاعتداء في نفس طيبة فهما في موقف طاعة بين يدي الله موقف تقديم قربان يتقربان به إلى الله؛ فقد أخرج كل منهما شيئا من ماله لقصد التقرب إلى الله، (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ) وعلم القبول بخبر من السماء، أو بالعادة السابقة في الأمم، أن علامة تقبل الله للقربان، بأن تنزل نار من السماء فتحرقه.. فـــــ(قَالَ) الابن، الذي لم يتقبل منه للآخر حسداً وبغياً (لأقْتُلَنَّكَ) فقال الذي تقبل منه: مترقِّقاً له في ذلك (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) هكذا في براءة تَرُدُ الأمر إلى وضعه وأصله، وفي إيمان يدرك أسباب القبول، وفي توجيه رَفِيقٍ للمعتدي أن يتقي الله، وهو في نفس الوقت تعريضٌ لطيفٌ به لا يُصرحُ بما يخدشه أو يستثيره.. يقول المهدد بالقتل أيُّ ذنبٍ لي وأي جناية توجبُ لك أن تقتلني.؟! إلا أني اتَّقيت الله تعالى، الذي تقواه واجبةٌ عليَّ وعليك، وعلى كلِّ أحد..
ثم يمضي الأخ المؤمن التقي الوديع المسالم يكسر من شِرْةِ الشرِ الهائج في نفس أخيه الشرير، مخبراً عن مَوْقِفِه بأنَّه لا يريدُ أن يتعرَّضَ لقتلِهِ، لا ابتداءً ولا مُدافعةً فقال: (لَئِن بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ) وليس ذلك جُبْناً مني ولا عجزاً. وإنَّما ذلك لأني (أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) والخائف لله لا يُقْدِمُ على الذُّنوب، خصوصاً الذُّنوب الكبار. وفي هذا تخويفٌ لمن يريدُ القتل، وأنَّهُ ينبغي له أن يتقيَ الله ويخافه. وفي هذا القول اللين ما يُسَكِّنُ الحقدَ، ويهدّئ الحسد، ويزيل الشر، ويمسح على الأعصاب المهتاجة، ويرد صاحبها إلى حنان الأخوة، وبشاشة الإيمان، وحساسية التقوى..
واستمر المهدد بالقتل في وعظه لأخيه بقوله: (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ) أي: ترجع (بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي: إنه إذا دار الأمر بين أن أكون قاتلا أو تقتلني فإني أوثر أن تقتلني، فتبوء بالوزرين، وعرض له وزرَ جريمة القتل لينفره منه، ويزين له الخلاص من الإثم المضاعف، بالخوف من الله رب العالمين، وبلغ من هذا وذلك أقصى ما يبلغه إنسانٌ في صرفِ الشرِ ودوافِعه عن قلب إنسان.. وبين له أن القتل ظلم وجزاء الظالم النار فقال: (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) ولقد بلغ المهددُ بالقتل أقصى ما يبلغه إنسانٌ في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان مقبل على الشر ولكن بدون جدوى..
فلم يرتدع ذلك الجاني ولم يَنزجِر، ولم يزلْ يُعَزِمُ نفسه ويجزمُها، حتَّى طوَّعت له قتل أخيه الذي يقتضي الشرع والطبع احترامه.. (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)..
نعم أيها الإخوة: بعد كل هذا التذكير والعظة والمسالمة والتحذير اندفعت النفس الشريرة، فوقعت الجريمة..!! وقعت الجريمة وقد ذللت له نفسُه كلَ عقبةٍ، وطوعت له كلَ مانع..!! لقد طوعت له نفسه القتل.. وقتل من.؟ إنه قتل أخيه..!!!
وحق عليه النذير (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك، وخسر أخاه فَفَقَدَ الناصرَ والرفيقَ، وخسرَ دنياه فما تهنأُ للقاتل حياة، وخسرَ آخرتَه فباء بإثمِه الأول عدمِ قبول القربان، وإثمه الأخير القتل.. وأصبح قد سن هذه السنة لكل قاتل.. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «..مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» رواه مسلم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولهذا ورد في الحديث الصحيح أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ أَوَّلًا» رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
فلما قتل أخاه مَثُلَتْ له سَوأةُ الجريمة في صورتها الحسية.. صورة الجثة التي فارفتها الحياة وباتت لحماً يسري فيه العفن، فهى سوأة لا تطيقها النفوس.. فحارت به الحيلة؛ فهو أول ميت مات من بني آدم، وشاءت حكمة الله أن تَقِفَهُ أمامَ عجزه عن أن يواري سوأة أخيه، وهو الباطش القاتل الفاتك.. لقد عجز عن أن يكون كالغراب في أمة الطير.. (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ) أي: يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتاً. (لِيُرِيَهُ) بذلك (كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) أي: بدنه، لأن بدن الميت يكون عورة (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) وهكذا عاقبة المعاصي الندامة والخسارة. نسأل الله أن يحمينا من أعظم ورطات الزمان وهو القتل.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد...
الثانية:
أيها الإخوة: ثم يقول الله تعالى معقباً على هذه الحادثة العظيمة والجريمة الشنيعة: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) [المائدة:32] أي: من أجل وجود هذه النماذج في البشرية.. ومن أجل الاعتداء على المسالمين الوادعين الخيرين الطيبين، الذين لا يريدون شراً ولا عدواناً.. ومن أجل أن الموعظة والتحذير لا يجديان في بعض الجبلات المطبوعة على الشر، وأن المسالمة والموادعة لا تكفان الاعتداء حين يكون الشرُ عميقَ الجذورِ في النفس.. من أجل ذلك جعلنا جريمة قتل النفس الواحدة كبيرة.. كبيرة تعدل جريمة قتل الناس جميعاً، وجعلنا العمل على دفعِ القتلِ واستبقاءِ نفسٍ واحدة عملاً عظيماً يعدل إنقاذَ الناسِ جميعاً.. وكتبنا ذلك على بني إسرائيل فيما شرعنا لهم من الشريعة..
ودلت الآية على أن القتل يجوز بأحد أمرين: إما أن يقتل نفسا بغير حق متعمدا في ذلك، وإما أن يكون مفسدا في الأرض، وهذا كله خاص بولي أمر المسلمين وليس لأحد أن يفعل ذلك لا جماعة ولا فرد فالدماء من أمور الولاية لا يجوز التعدي عليها.. عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ "رواه البخاري ومسلم. أيها الإخوة: ومن الدروس المستفادة، التأدب بالأدب المناسب عند الفتنة وهو الابتعاد عنها وكف النفس عنها وعن المواجَهة الدمويَّة؛ (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).. وعلى المسلم أن يتذكر عظيم العقوبة على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول.؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتْل صاحبه" متَّفق عليه.
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَفِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، كَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا بِسُيُوفِكُمُ الْحِجَارَةَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدٍ بَيْتَهُ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ» رواه ابو داود وابن ماجة وابن حبان وصححه الألباني.
وفي رواية: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ , أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَيَّ دَارِي، وَبَسَطَ يَدَهُ لِيَقْتُلَنِي؟ قال: " فَادْخُلْ بَيْتَكَ " قال: أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي؟ , قال: " فَادْخُلْ مَسْجِدَكَ وَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ وَاصْنَعْ هَكَذَا - وَقَبَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَمِينِهِ عَلَى الْكُوعِ - وَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ, حَتَّى تَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟, اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟, اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ , فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ, أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ, فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ, أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي مَاذَا يَكُونُ مِنْ شَأنِي؟ قَالَ: يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.
ومن الدروس المستفادة: أن أعظم رادع من المعاصي والخطأ الخوف من الله فعلينا أن نسعى جاهدين لغرس هذا الخلق بأنفسنا وبمن تحت أيدينا من الأزواج والذرية فقد كان المانع للمقتول من ابني آدم من القتل خوف الله تعالى فقد قال لما هدده بالقتل: (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)
وبعد أيها الإخوة: أما من شذ عن الجادة وركب سفينة الخطأ وخاض غمار الجريمة بِشُبَهٍ لبَّسها عليه أهلُ الزيغِ والضلال، وامتطى القتل والتخريب والتكفير وسيلة للتغيير فقتل نفسه بين المسلمين..!! وقتل معه الأبرياء من الناس، أو قتل رجال الأمن فأهلك الحرث والنسل وسمى عمله عملية استشهاية.!! فقد ضل سواء السبيل. ونسأل الله لهم الهداية.. وأن يمكن من المجرمين منهم عاجلاً غير آجل..