أول الرسل نوح عليه السلام-1-  7/6 /1439هـ

عبد الله بن علي الطريف
1439/07/06 - 2018/03/23 11:19AM
أول الرسل نوح عليه السلام-1-  7/6 /1439هـ
إن الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
أيها الإخوة: كان الناس على الهُدى والصلاحِ قروناً طويلة بعد أن أهبط الله آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ وحواء إلى الأرض، فقد كان آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ نبياً ونشأت ذريتُه على الإيمان قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) [يونس:19] وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ.؟ قَالَ: «نَعَمْ، مُكَلَّمٌ»، قَالَ: فَكَمْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ.؟ قَالَ: «عَشَرَةُ قُرُونٍ» والْمُرَادَ بِالْقَرْنِ الْجِيلُ أَوِ الْمُدَّةُ رواه ابن حبان وصححه الألباني.
قال ابن كثير وَبِالْجُمْلَةِ فَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ وَالطَّوَاغِيتُ، وَشَرَعَ النَّاسُ فِي الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ فَبَعْثَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا يَقُولُ لَهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ففي حديث الشفاعة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يَــأْتِي النَّاسُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ آدَمُ: اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ.؟.». رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. ثم قال ابن كثير: وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. أ هـ
قال ابن كثير رحمه الله: وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّتَهُ وَمَا كَانَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَا أَنْزَلَ بِمَنْ كَفَرَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِالطُّوفَانِ، وَكَيْفَ أَنْجَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ، فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ.. ثم سرد الآيات ثم قال: وَأَمَّا مَضْمُونُ مَا جَرَى لَهُ مَعَ قَوْمِهِ مَأْخُوذًا مِنَ الْكِتَابِ والسُّنة وَالْآثَارِ.. فبَعْدَ تِلْكَ الْقُرُونِ الصَّالِحَةِ حَدَثَتْ أُمُورٌ اقْتَضَتْ أَنْ آلَ الْحَالُ بِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذكره ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ نسرا) [نوح:23] قَالَ: «أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ، أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا [وهي حجارة أو أصنام تنصب تخليدا لذكرى رجال أو غيرهم] وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ [أي: مات الذين نصبوا الأنصاب , وكانوا يعلمون لماذا نُصِبَت.] وَتَنَسَّخَ العِلْمُ [أي: زالت معرفة الناس بأصل نصبها] عُبِدَتْ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاء.ٍ
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قال أصْحَابُـهم الَّذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى الْعِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ؛ فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ فَعَبَدُوهُمْ.. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، وَأُمّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَتَا أَرْضَ الحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ» خرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ.
أيها الإخوة: ولم يزل هذا البلاء وهذه المصيدة الشيطانية موجودة، ففي كثيرٍ من بلاد المسلمين توجد المزارات والأضرحة يأتيها بعض المسلمين ويطوفون بها ويسألون الأموات قضاءَ حوائجهم، ويذبحون النذور ويرمون الأوراق النقدية والقطع الذهبية في أضرحتهم، أو في صناديق خاصة، ويأخذها من يقوم بسدانة هذه الأضرحة من الضالين.! الذين سماهم رسول الله بقوله: «أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ». وإني من هذا المقام أدعو كلَ مَنْ مَنَّ اللهُ عليه بالهداية لدين الله تعالى ألا يذهب لتلك الأضرحة لا متعبداً ولا متفرجاً، ولا يصلي بمسجد بني على قبر من قبور الصالحين أو القادة أو غيرهم، فمن فعل ذلك فقد ضلَ عن الطريق المستقيم، وهو على خطر عظيم، وعليه أن يعود للتوحيد الصريح ويستغفر الله مما وقع منه، ولا يعودنَّ ومن عاد بعدما علم فلا يلومن إلا نفسه..
أيها الإخوة: وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفَسَادَ لَمَّا انْتَشَرَ فِي الْأَرْضِ وعم البلاءُ بعبادِة الْأَصْنَامِ فِيهَا بَعَثَ اللَّهُ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ مَا سواه فكان أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا ذكرنا.
فدَعَاهُمْ إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا مَعَهُ صَنَمًا وَلَا تِمْثَالًا وَلَا طَاغُوتًا، وَأَنْ يَعْتَرِفُوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسلِ بذلك.. وَذَكَرَ أنَّه دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الدَّعْوَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسِّرِّ وَالْإِجْهَارِ بِالتَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى، وَكُلُّ هَذَا فَلَمْ يَنْجَحْ فِيهِمْ بَلِ اسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ والطغيان وعبادة الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ وَتَنَقَّصُوهُ وَتَنَقَّصُوا مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَوَعَّدُوهُمْ بِالرَّجْمِ وَالْإِخْرَاجِ وَنَالُوا مِنْهُمْ وَبَالَغُوا فِي أَمْرِهِمْ (قَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِهِ) أَيِ السَّادَةُ الْكُبَرَاءُ مِنْهُمْ (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العالمين) أَيْ لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنِّي ضَالٌّ بَلْ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العالمين أي الذي يقول للشيء كُنْ فَيَكُونُ (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:60-62] وَهَذَا شَأْنُ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ بَلِيغًا نَاصِحًا أَعْلَمَ النَّاسِ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالُوا لَهُ فِيمَا قَالُوا: (مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بادئ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) [هود:27] تَعَجَّبُوا أَنْ يَكُونَ بَشَرًا رَسُولًا وَتَنَقَّصُوا بِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَرَأَوْهُمْ أَرَاذِلَهُمْ وَكَانُوا مِنْ ضُعَفَاء النَّاسِ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ لهم من اتباع الحق وقولهم: (بادئ الرَّأْيِ) أَيْ بِمُجَرَّدِ مَا دَعَوْتَهُمُ اسْتَجَابُوا لَكَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ، وَهَذَا الَّذِي رموهم بِهِ هُوَ عَيْنُ مَا يُمْدَحُونَ بِسَبَبِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ الْحَقَّ الظَّاهِرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رَوِيَّةٍ وَلَا فِكْرٍ وَلَا نَظَرٍ بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ مَتَى ظَهَرَ.
وَقَوْلُ كَفَرَةِ قَوْمِ نُوحٍ لَهُ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ: (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) [هود:27] أَيْ لَمْ يَظْهَرْ لَكُمْ أَمْرٌ بَعْدَ اتِّصَافِكُمْ بِالْإِيمَانِ وَلَا مَزِيَّةٌ عَلَيْنَا (بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ. قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي النبوة والرسالة (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أَيْ فَلَمْ تَفْهَمُوهَا وَلَمْ تَهْتَدُوا إِلَيْهَا (أَنُلْزِمُكُمُوهَا) أي انغضبكم بها ونجبركم عليها (وَأَنْتُمْ لَهَا كارهون) أَيْ لَيْسَ لِي فِيكُمْ حِيلَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ [هُودٍ:28].
(وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) أَيْ لَسْتُ أُرِيدُ مِنْكُمْ أُجْرَةً عَلَى إِبْلَاغِي إِيَّاكُمْ مَا يَنْفَعُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَأُخَرَاكُمْ إِنْ أَطْلُبْ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ الَّذِي ثَوَابُهُ خَيْرٌ لِي وَأَبْقَى مِمَّا تُعْطُونَنِي أَنْتُمْ.
وَقَوْلُهُ (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا انهم ملاقوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قوما تجهلون) كَأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُبْعِدَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ وَوَعَدُوهُ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِهِ إِذَا هُوَ فَعَلَ ذلك فأبى عليهم ذلك وقال (انهم ملاقوا رَبِّهِمْ) أي فَأَخَافُ إِنْ طَرَدَتْهُمْ أَنْ يَشْكُونِي إِلَى اللَّهِ عز وجل وَلِهَذَا قَالَ (وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أَيْ بَلْ أَنَا عَبْدٌ رَسُولٌ لَا أَعْلَمُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مَا أَعْلَمَنِي بِهِ وَلَا أَقْدِرُ إِلَّا عَلَى مَا أَقْدَرَنِي عَلَيْهِ وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) يَعْنِي مِنْ أَتْبَاعِهِ (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [هود:31] أَيْ لَا أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا خَيْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فشر.. بارك الله لي ولكم..
الثانية:
أيها الإخوة: وَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ وَالْمُجَادَلَةُ بَيْنَ نوحٍ وقومه  كَمَا قَالَ تَعَالَى (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) [العنكبوت:14] أَيْ وَمَعَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَمَا آمَنَ به إلا القليل منهم وكان كل ما انقرض جيل وصُّوا مَنْ بَعْدَهُمْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ وَمُحَارَبَتِهِ ومخالفته، وكان الْوَالِدُ إِذَا بَلَغَ وَلَدُهُ وَعَقَلَ عَنْهُ كَلَامَهُ وصَّاه فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَنْ لَا يُؤْمِنَ بِنُوحٍ أَبَدًا مَا عَاشَ وَدَائِمًا مَا بَقِيَ.. وَكَانَتْ سَجَايَاهُمْ تَأْبَى الْإِيمَانَ وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ وَلِهَذَا قال (وَلَا يلدوا إلا فاجرا كَفَّارَاً) ولهذا قالوا (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [هود:32:33] أي إنما يقدر على ذلك الله عز وجل فإنه الذي لا يعجزه شيء ولا يكترثه أمر بل هو الذي يقول للشيء كن فيكون (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وإليه ترجعون) [هود:34] أي من يرد اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ هِدَايَتَهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِوَايَةَ.
وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا من قد آمن) [هود:36] تسلية لَهُ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) وَهَذِهِ تَعْزِيَةٌ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قَدْ آمن أَيْ لَا يَسُوأَنَّكَ مَا جَرَى فَإِنَّ النَّصْرَ قَرِيبٌ وَالنَّبَأَ عَجِيبٌ.. وللحديث بقية إن شاء الله..
وصلوا وسلموا...
 المرجع: البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله.
 
المشاهدات 997 | التعليقات 0