أوصاني خليلي بثلاث

د. منصور الصقعوب
1442/05/23 - 2021/01/07 05:52AM

 

الخطبة الأولى    

وصايا الأكابر ينبغي أن تكون محط الاهتمام والعناية, فإن رأيت ذا عقل وديانة فأوصاك بوصية فاستمسك بها, والزم غرزها, ففيها الخير والمغنم

والأمر أعظم حين تكون الوصية من خير البرية, فلعمري إن وصاياه لَغُنمٌ, وإن الأخذَ بها لحتم.

كان النبي لا يدع أصحابه من التوجيه والتذكير بالخير والوصية به, وهكذا فليكن المربي, يتعاهد من حوله بذلك, يخصّ أفراداً بالوصية, وفي ذلك أثر عظيم, ويوصي الكافة والجماعةً كذلك, وكم نقل لنا التاريخ والسير وصايا عظيمة, تحكي تجربة, أو تحث لطاعة, فقمنٌ بالمربين أن يراعوا ذلك, ولا يذخروا, فكم من امرئٍ يموت وتبقى وصيته في الأرض يطبقها الموصى مدة ويعمل بها, والتوفيق من الله.

أما حديث اليوم فهو عن واحدةٌ من وصايا النبي , كان يعتني بها, ويوصي بها من رآه من أصحابة, لقي أبا ذر فأوصاه بها, ولقي أبا هريرة فأوصاه بها, ولقي أبا الدرداء فأوصاه بها.

فحدّثَ الثلاثةُ بذلك فقال كلٌ منهم: أوصاني خليلي بثلاث: «صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ» قال أبو هريرة: لَسْتُ بِتَارِكِهِنَّ, ولا أدعهن في حضر ولا سفر, وقال أبو الدرداء: لَا أَدَعُهُنَّ لِشَيْءٍ.

ليست هذه الثلاث بجديدة علينا, لكن المهم هل نحن ممن يعمل بها, وممن انتفع بهذه الوصية المتأكدة؟

أول هذه الثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر, وبصوم يومٍ يباعد الله الصائم عن النار مسافة سبعين سنة.

وليس بهيّنٍ على الله أن تدع طعامك وشرابك صائماً له نفلاً, والناس من حولك يطعمون ويشربون, ولذا كان الصيام جنةً يجتن بها الصائم من العذاب, وفي الصحيح "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجْزِي به"

وثلاثة أيام من الشهر, إذ ثواب اليوم عن عشرة, قال أبو ذر: " مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فَالْيَوْمُ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ " أخرجه ابن ماجه

هذه الأيام الثلاثة لا تحديد لوقتها, لِتنظُرَ الأيسرَ لك, والأرفق بك, وفي الحديث أن معاذة قالت لِعَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَتْ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَهْرٍ كَانَ يَصُومُ، قَالَتْ: «مَا كَانَ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ»

وإن كان وسط الشهر ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر فذاك أفضل, وهي الأيام البيض, فقد رغب بصومها المصطفى .

عباد الله: وثاني الوصايا النبوية: ركعتي الضحى, في وقت انشغال الناس بدنياهم, وصفقهم في الأسواق, المؤمن قلبه معلقٌ بالصلاة, فتراه ينسل من بين الجموع, إما من سوقه أو من مكتبه ليركع لربه ركعات الضحى.

ولا عجب فهي صلاة الأوابين, وتجزئ عن صدقات أعضاء البدن, وفي الصحيح «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى»

تأمل يا رعاك الله, في بدنك مفاصلُ عديدة, تتحرك فيه بلا عناء, وأقامت بدنك بفضل ربك بلا مقابل, عظام وأعصاب, ولحوم وجلودٌ, حقُ المنعم عليك أن تشكره عليها كل صبح أن أنعم بها, وخفّف عليك الصدقة بتسحبيات وتحميدات وتكبيرات بعدد المفاصل, ولكن سنة الضحى تجزئ عن كل هذه الصدقات, فيا غنيمة من وُفِّقَ وحافظ, على صلاةً لا تستغرق إلا دقائق يسيرة, لكن ثوابها عند الله عظيم.

وسنة الضحى لا حدّ لأكثرها, وتجزئ بركعتين, والأفضلُ بأربع, وقد كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ماشاء الله, ومن صلى أربع ركعات في الضحى كفاه الله بقية يومه, وفي الحديث " ابنَ آدمَ اركعْ لي أربعَ ركَعاتٍ من أولِ النهارِ أكْفِكَ آخِرَه".

ووقتها من بعد طلوع الشمس وارتفاعها, وأفضل وقتها آخره, قبيل وقت الظهر بدقائق, وفي الحديث (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) أي تقوم الفصلان الصغيرة من شدة حرارة الشمس

اللهم صل على محمد

 

الحمد لله وحده

وثالث الوصايا من نبينا : أن أوتر قبل أن تنام.

والوتر: ركعةٌ مفردة في الليل, أو ثلاث ركعات, أو أكثر تقف فيها على وتر, وهي أفضل الصلوات النوافل, وفي الصحيح ( أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)

وصلاةُ الليل هي العون في الشدة, واليسر عند تعسر الأحوال, والإعداد لتحمل الثقيل من التكاليف, ولذا أمر الله بها نبيه فقال (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا...إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً)

ومدرسة الليل, إذ يغيب المصلي عن الأنظار, مدرسة الإخلاص, فلا يراقب المصلي إلا ربه, ولا يرجو إلا ثوابه, غاب عن الناظرين, فحرّك جوارِحَه إخلاصُ قلبِه لربه, وقد قال قتادة: ما سهر الليل للصلاة منافق.

وحين يغط في النوم أقوامٌ, يثني ربنا على المؤمنين بأنهم (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ولما أخفوا عملهم عن الناظرين أخفى الله ثوابهم عن السامعين فقال رب العالمين (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) قال ابن عباس: الأمر في هذا أعظم وأجل من أن يُعرف تفسيره.

ما ظنك يا موفق بصلاة يحبها خالقك, في الحديث أنه قال (أوتروا فإن الله وترٌ يحب الوتر) فما لنا نفرط فيها.

ومن عجبٍ حين تعلم أن الوتر يستغرق منك دقائق يسيرة, وكثير منا يقصر فيه استثقالاً, في حين أننا قد نعكف على أجهزة الاتصال دقائق وساعات بلا ملل, والشأن كله توفيق وحرمان.

وتأمل قوله لهم: أوتر قبل أن أنام, برغم أن الوتر آخر الليل أفضل, لكن المرء إن خاف أن لا يقوم فليأخذ بالمتيقن, وليوتر قبل أن ينام, ولو بعد فراغه من صلاة العشاء, ليدرك الفضل, والقاعدة عند العلماء (أن حفظ أصل العبادة مقدم على تحصيل فضائلها إذا تعذر) قال ( من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله, ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخره فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل)

وبعد: فهذه واحدة من الوصايا النبوية, لصحبه الكرام, يجتمع في الثلاث الوصايا أنها أعمالٌ يسيرة يقدر عليها كل أحد, ويجتمع فيها أنها تكون غالباً أعمالٌ في الخفاء, فالصوم بينك وبين الله, والوتر في الليل حين تكون وحدك, والضحى كذلك, لأن أعمال الخفاء لها شأن عظيم عند الله, إذ لا يحافظ عليها ويدوم إلا أهل الإخلاص.

وصيتي لنفسي ولك أن لا يمر يوم إلا وقد حافظت عليها, وأوصيت بها أهل بيتك, وهذه هي التجارة الحقة

اللهم وفقنا للطاعات, واعصمنا من الزلل والسيئات.

 

 

 

 

 

المرفقات

1609998753_أوصاني خليلي بثلاث.docx

المشاهدات 1847 | التعليقات 1

أجزل الله مثوبتك