أوصاف القرآن الكريم (15) ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
أوصاف القرآن الكريم (15)
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾
16 / 9 /1444هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ؛ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [الْبَقَرَةِ: 185]، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ رَمَضَانَ تَكْفِيرًا لِلسَّيِّئَاتِ، وَمُبَارَكَةً لِلْحَسَنَاتِ، وَرِفْعَةً لِلدَّرَجَاتِ، وَبَابًا إِلَى الْجَنَّاتِ، وَنَجَاةً مِنَ النِّيرَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ خَيْرُ مَنْ صَلَّى وَصَامَ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَقَامَ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَحْسِنُوا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ؛ فَإِنَّهُ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ، مَنْ فَاتَتْهُ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ. أَكْثِرُوا مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَابْذُلُوا الْإِحْسَانَ، وَأَتِمُّوا الشَّهْرَ بِخَيْرِ الْأَعْمَالِ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الْمُزَّمِّلِ: 20].
أَيُّهَا النَّاسُ: شَهْرُ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ الْقُرْآنِ، فِيهِ أُنْزِلَ وَفِيهِ تَكْثُرُ تِلَاوَتُهُ، وَيَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، وَذَلِكَ خَاصٌّ بِرَمَضَانَ دُونَ غَيْرِهِ.
وَلِلْقُرْآنِ أَوْصَافٌ كَثِيرَةٌ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَالْقُرْآنُ كَلَامُهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِكَلَامِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَفَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ.
وَمِنْ أَوْصَافِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ [الزُّمَرِ: 23]، فَوَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. كَلَامُ أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ.. كَلَامُ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ.. كَلَامُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.
وَالْقُرْآنُ حَدِيثُ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ؛ وَلِذَا وَصَفَهُ بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَحُسْنُ الْقُرْآنِ شَامِلٌ لِكُلِّ جَوَانِبِ الْحُسْنِ؛ فِي مُفْرَدَاتِهِ، وَجُمَلِهِ، وَتَرَاكِيبِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ وَبَلَاغَتِهِ، وَفِي أَخْبَارِهِ وَقَصَصِهِ، وَفِي أَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَفِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، كَمَا أَنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ لِلْحُسْنِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النِّسَاءِ: 82].
وَحُسْنُ مُفْرَدَاتِهِ وَمَعَانِيهِ وَبَلَاغَتِهِ اعْتَرَفَ بِهَا أَعْدَاءُ الْقُرْآنِ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ؛ كَمَا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فِي وَصْفِهِ: «إِنَّ لَهُ -وَاللَّهِ- لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ الْبَشَرِ». وَلِذَا كَانَ كُفَّارُ مَكَّةَ -وَهُمْ يُعَارِضُونَ الْقُرْآنَ- مَبْهُورِينَ بِهِ، مُتَعَجِّبِينَ مِنْهُ، مُقِرِّينَ بِحُسْنِهِ، مُعْتَرِفِينَ بِغَلَبَتِهِ، فَيَتَسَلَّلُونَ لَيْلًا لِسَمَاعِهِ يُتْلَى، وَلَا يُرِيدُونَ أَنْ يَشْعُرَ بِهِمْ أَحَدٌ. وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّأَثُّرِ بِهِ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ فَلَغَوْا فِيهِ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فُصِّلَتْ: 26].
وَمِنْ حُسْنِ الْقُرْآنِ: حُسْنُ قَصَصِهِ؛ فَفِيهِ أَحْسَنُ الْقَصَصِ، وَكُلُّ قِصَّةٍ فِيهَا أَحْسَنُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْقِصَّةُ مِمَّا يَنْفَعُ الْعَبْدَ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا لَا يَنْفَعُهُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ نَفْعٍ وَهِدَايَةٍ ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يُوسُفَ: 3]. وَمِنْ حُسْنِ الْقَصَصِ صِدْقُ أَحْدَاثِهَا، وَقَصَصُ الْقُرْآنِ أَصْدَقُ الْقَصَصِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَصَّهَا عَلَى عِبَادِهِ ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النِّسَاءِ: 87].
وَمِنْ حُسْنِ الْقُرْآنِ: حُسْنُ أَحْكَامِهِ وَتَشْرِيعَاتِهِ ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [الْبَقَرَةِ: 138]، وَصِبْغَةُ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ دِينُهُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَخْلَاقِ، فَلَا أَحْسَنَ صِبْغَةً مِنْ صِبْغَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. «وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ نَمُوذَجًا يُبَيِّنُ لَكَ الْفَرْقَ بَيْنَ صِبْغَةِ اللَّهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الصِّبَغِ، فَقِسِ الشَّيْءَ بِضِدِّهِ، فَكَيْفَ تَرَى فِي عَبْدٍ آمَنَ بِرَبِّهِ إِيمَانًا صَحِيحًا، أَثَّرَ مَعَهُ خُضُوعُ الْقَلْبِ وَانْقِيَادُ الْجَوَارِحِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَحَلَّى بِكُلِّ وَصْفٍ حَسَنٍ، وَفِعْلٍ جَمِيلٍ، وَخُلُقٍ كَامِلٍ، وَنَعْتٍ جَلِيلٍ، وَيَتَخَلَّى مِنْ كُلِّ وَصْفٍ قَبِيحٍ، وَرَذِيلَةٍ وَعَيْبٍ، فَوَصْفُهُ: الصِّدْقُ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَالصَّبْرُ وَالْحِلْمُ وَالْعِفَّةُ وَالشَّجَاعَةُ، وَالْإِحْسَانُ الْقَوْلِيُّ وَالْفِعْلِيُّ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَتُهُ وَخَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ، فَحَالُهُ الْإِخْلَاصُ لِلْمَعْبُودِ، وَالْإِحْسَانُ لِعَبِيدِهِ، فَقِسْهُ بِعَبْدٍ كَفَرَ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَشَرَدَ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، فَاتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ، مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَعَدَمِ الْعِفَّةِ، وَالْإِسَاءَةِ إِلَى الْخَلْقِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَلَا إِخْلَاصَ لِلْمَعْبُودِ، وَلَا إِحْسَانَ إِلَى عَبِيدِهِ. فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لَكَ الْفَرْقُ الْعَظِيمُ بَيْنَهُمَا، وَيَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّهُ لَا أَحْسَنَ صِبْغَةً مِنْ صِبْغَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي ضِمْنِهِ أَنَّهُ لَا أَقْبَحَ صِبْغَةً مِمَّنِ انْصَبَغَ بِغَيْرِ دِينِهِ».
وَمِنْ حُسْنِ الْقُرْآنِ: حُسْنُ التَّقَاضِي وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ عِبَادِهِ، وَحُكْمُهُ عَدْلٌ وَرَحْمَةٌ لِلْعِبَادِ ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [الْمَائِدَةِ: 50].
وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ بِحُسْنِهِ الشَّامِلِ لِكُلِّ الْحُسْنِ قَدْ كَفَرَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْبَشَرِ مِمَّنْ سَمِعُوهُ فَبِمَاذَا يُؤْمِنُونَ؟! كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 185]؛ «أَيْ: إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْكِتَابِ الْجَلِيلِ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ يُؤْمِنُونَ بِهِ؟ أَبِكُتُبِ الْكَذِبِ وَالضَّلَالِ؟ أَمْ بِحَدِيثِ كُلِّ مُفْتَرٍ دَجَّالٍ؟ وَلَكِنَّ الضَّالَّ لَا حِيلَةَ فِيهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى هِدَايَتِهِ»؛ وَلِذَا خَاطَبَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [الْجَاثِيَةِ: 6]، وَخَاطَبَ مَنْ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ﴾ [النَّجْمِ: 59]، أَيْ: إِنْكَارًا لِلْقُرْآنِ. وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ [الْوَاقِعَةِ: 81]، وَالْمُنْكِرُونَ لِحُسْنِ الْقُرْآنِ، الْمُكَذِّبُونَ بِهِ؛ مُتَوَعَّدُونَ بِالْعَذَابِ بَعْدَ الْإِمْلَاءِ وَالْإِمْهَالِ ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الْقَلَمِ: 44-45].
وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ بَلَغَ الْمُنْتَهَى فِي الْحُسْنِ كَانَ مُعْجِزًا لِلْخَلْقِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَأَخْبَارِهِ وَأَحْكَامِهِ؛ وَلِذَا تَحَدَّى اللَّهُ تَعَالَى الْبَشَرَ أَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَلَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى؛ تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ [الطُّورِ: 33-34].
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهُ وَخَاصَّتُهُ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِكَثْرَةِ تِلَاوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَثْمِرُوا مَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَقَدْ مَضَى نِصْفُهُ، وَبَقِيَ نِصْفُهُ، وَمَا بَقِيَ خَيْرٌ مِمَّا مَضَى؛ فَفِيهِ عُشْرُهُ الْأَخِيرَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الِاعْتِكَافُ، وَنُدِبَ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ»؛ فَأَرُوا اللَّهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا تَجِدُوا خَيْرًا.
أَيُّهَا النَّاسُ: الْقُرْآنُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ مُعْرِضُونَ عَنْهُ تِلَاوَةً وَحِفْظًا وَتَدَبُّرًا وَفَهْمًا وَعَمَلًا؛ فَالْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ حُرِمُوا أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَأَصْدَقَهُ وَأَنْفَعَهُ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ أَسْوَأَ الْحَدِيثِ وَأَكْذَبَهُ وَأَضَرَّهُ، وَلَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْبِيَّاتِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَصَابَتْهُمُ الْغَفْلَةُ عَنْ أَحْسَنِ الْحَدِيثِ، فَهَجَرُوا الْقُرْآنَ، وَلَا يَقْرَؤُونَهُ إِلَّا فِي رَمَضَانَ، وَيَسْتَبْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ لَغْوِ الْحَدِيثِ، وَسَاقِطِ الْكَلَامِ. وَضَرَرُهُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ. إِنَّ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَتَخَفَّفَ الْمُؤْمِنُ مِنْ لَغْوِ الْحَدِيثِ كَلَامًا وَسَمَاعًا وَقِرَاءَةً، وَيَسْتَبْدِلَ بِهِ كَثْرَةَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسَمَاعِهِ، وَإِدَامَةَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، مَعَ التَّدَبُّرِ وَالْفَهْمِ وَالْعَمَلِ.
وَإِيمَانُهُ بِأَنَّ قَصَصَ الْقُرْآنِ أَحْسَنُ الْقَصَصِ يُحَتِّمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ الْقُرْآنَ بِمَا يَقْرَأُ مِنْ قَصَصٍ وَرِوَايَاتٍ، وَمَا يُشَاهِدُ مِنْ أَفْلَامٍ وَمُسَلْسَلَاتٍ، وَمَا يُحْكَى عَلَيْهِ مِنْ أَخْبَارٍ وَأَحْدَاثٍ؛ فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِالْقَصَصِ، وَهِيَ صِدْقٌ وَحَقٌّ فِي كُلِّ تَفَاصِيلِهَا، وَمَمْلُوءٌ بِأَخْبَارِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَمَنِ اسْتَبْدَلَ الْخَيَالَ الْحَالِمَ بِالْوَاقِعِ الصَّادِقِ فَقَدِ اسْتَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
وَإِيمَانُهُ بِأَنَّ أَحْكَامَهُ وَشَرَائِعَهُ أَعْدَلُ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَأَحْكَمُهَا وَأَرْحَمُهَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ، وَيَسْتَبْدِلَ بِهِ زُبَالَةَ أَفْكَارِ الْبَشَرِ وَجَهْلَهُمْ وَضَلَالَهُمْ وَآرَاءَهُمْ، الْمُعَارِضَةَ لِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَنْ أَمْسَكَ عَنْ أَحَادِيثِ النَّاسِ وَلَغْوِهُمْ، وَقَضَى جُلَّ وَقْتِهِ مَعَ الْقُرْآنِ فَقَدِ اخْتَارَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، وَمَنْ جَالَسَ الْقُرْآنَ فَقَدْ جَالَسَ أَحْسَنَ جَلِيسٍ؛ فَإِنَّهُ يُنَاجِي اللَّهَ تَعَالَى بِكِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَكَلَامِهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يُحْرَمُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ إِلَّا مَحْرُومٌ، وَلَا يُعْرِضُ عَنْهُ إِلَّا مَخْذُولٌ مَرْذُولٌ ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ: 41-42].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق