أوثق عرى الإيمان (الولاء والبراء)
عبدالله اليابس
الولاء والبراء الجمعة 19/11/1438هـ
الحمد لله الذي أراد فقدر, وملك فقهر, وخلق فأمر, وعُبد فأثاب وشكر, وعُصي فعَذَّب وغفر, جعل مصير الذين كفروا إلى سقر, والذين اتقوا ربهم إلى جنات ونهر, {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.
وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله, وصفيه من خلقه وحبيبه.
بَلَّغ الرسالة, وأدى الأمانة, وكشف الله به الظلمة, وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
صلوا على من جاء صبحًا ساطعًا *** فأزال ليلاً للضلال بهيمًا
صلوا على من جاء يدعو رحمةً *** كيما تنالوا جنة ونعيمًا
صلوا عليه فمن يصلي مرة *** يُجزى بعشر فلنزد تصميمًا
الله زاد محمداً تعظيمًا *** صلوا عليه وسلموا تسليمًا
أما بعد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. في زمن العولمة وتقارب الأزمان والأماكن, حتى أصبح العالم ــ كما يقال ــ قرية واحدة, وأصبح الإنسان ينتقل من شرق الأرض إلى غربها في يوم واحد.
وفي زمن فتح الله فيه على أهل هذه البلاد من بركات السماء والأرض, فأصبحت مركزًا لاجتماع مختلف الأعراق والأديان طلباً للقمة العيش ..
في هذا الزمن وهذا الحال .. يتأكد أن يُذكَّر بشعيرة هي من صميم ديننا الحنيف, غابت عن بال كثير من الناس .. أو غُيِّبت ..
شعيرة سماها النبي صلى الله عليه وسلم أوثقَ عرى الإيمان ..
إنها الحب في الله والبغض في الله .. أو ما يسمى بالولاء والبراء.
أيها المسلمون .. يُقصد بالولاء والبراء النصرة والمحبة والإكرام والاحترام للمؤمنين .. وضد ذلك للكافرين.
من والى المؤمنين لإيمانهم .. وأبغض الكافرين لكفرهم .. نال بذلك محبة الله تعالى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من أحب في الله، وأبغض في الله ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً" أ.هـ.
إن الولاء والبراء شرط في الإيمان، قال سبحانه: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ* وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
الولاء والبراء أوثق عرى الإيمان، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما وحسنه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أوْثَقُ عُرَى الإيمانِ المُوَالاةُ في اللهِ، و المُعادَاةُ في اللهِ, والحُبُّ في اللهِ، والبغضُ في اللهِ)).
ولأهمية هذا الأمر كان النبي صلى الله عليه وسلـم يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم، فعن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله, أبسط يدك حتى أبايعك, واشترِط علي فأنت أعلم, قال: ((أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين)).
واسمع إلى ما قاله العالم الجليل أبو الوفاء بن عقيل, قال رحمه الله: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهـم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة".
أيها الإخوة .. إن معاداة الكفار لا يقصد بها تعمد أذيتهم أو ضربهم أو الإساءة إليهم, وإنما تكون ببغضهم - ديناً - ومفارقتهم، وعدم الركون إليهم، أو الإعجاب بهم، والحذر من التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم شرعاً.
أما الإحسان إليهم فهو أمر مأمور به إذا كان في ذلك مصلحة دينية.
يقول الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
واسمع إلى قصة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما كما روى البخاري ومسلم, قالت رضي الله عنها: ((قَدِمَت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم, قلت: إن أمي قدمت علي وهي راغبة, أفأصل أمي؟ قال: نعم صلي أمك))
قال ابن حجر: البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه.
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: ((كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم, فأسلَم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار)).
وينبغي التنبيه إلى أمر مهم, وهو أن الإحسان إلى الكفار ينبغي ألا يكون على حساب دين المرء أو أن يشاركهم في معصية, قال ابن القيم رحمه الله: (أما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرام بالاتفاق، وذلك مثل أن يهنأهم بأعيادهم فيقول: عيدك مبارك، أو تَهَنأُ بهذا العيد، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه).
أيها المسلمون .. إن من المظاهر المنتشرة في بعض المجتمعات اليوم محبة وإعجاب بعض المسلمين ببعض الكافرين, سواء كان أولئك الكفار لاعبين أو مغنين أو ممثلين أو حتى سياسيين, ففي هذا خطر عظيم كما تقدم, فالله تعالى يقول: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}.
فالحذر الحذر من هذا الأمر .. فإنه خطر على الدين .. يُنقص من إيمان العبد, لا مانع من أن يعجب الإنسان بصنعة الكافر أو مهارته أو خُلُقه, ولا مانع أيضًا من الإحسان إليه, لكن كل ذلك ينبغي أن لا يحمل المسلم على أن يفضل هذا الكافر الذي يُحاد الله بكفره على المؤمنين الذين يحملون في قلوبهم لا إله إلا الله.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. إن من أعظم ما تنبغي الإشارة عليه عند الحديث عن الولاء والبراء التنبيه على مسألة التشبه بالكافرين.
فأفعال الكفار على ثلاثة أنواع:
الأول: ما كان من جنس العبادات أي ما فعلوه على سبيل الديانة، كالأعياد وحمل الصليب فهذه لا يجوز أن نتشبه بهم فيها، سواء انتشر عند المسلمين أو لم ينتشر.
النوع الثاني: العادات والأخلاق، فما كان من عاداتهم وأخلاقهم، فهذا إن كان من خصائصهم فلا يجوز لنا أن نتشبه فيه، فإذا تفشى في الناس فلا بأس من فعله، ما لم تتصادم هذه الأخلاق والمعاملات مع شريعتنا.
النوع الثالث: ما كان من الصنائع والأعمال، فذلك جائز لأن العلم رحم بين الناس، ولا يختص بأمة دون الأمم، فهذه الصناعات والمبتكرات والعلوم التجريبية النافعة وما توصلوا إليه من ألوان التقدم المادي لا شك أنه مطلوب، والأمة يجب عليها أن تُحِّصل أسباب القوة، وأن تأخذ بها؛ لتكون أمة قوية ممكنة في الأرض، فالتقدم المادي لا يختص بهؤلاء الكفار، بل إننا مأمورون به شرعًا.
أيها المسلمون .. لقد انتشرت بين بعض الشباب عادات فيها تشبه بالكفار, كلبس السلاسل والأساور والقلائد, وبعضها فيه نص صريح بالنهي عنه كالقزع بحلق بعض شعر الرأس وترك البعض الآخر, فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القَزَع"؛ متفق عليه, وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآخر أن صبيًّا أُتي به إلى النبيَ صلى الله عليه وسلم وقد حُلق بعض رأسه وترك بعضه، قال: (احلقوه كله أو اترُكوه كله).
ومن صور التشبه بالكفار الموجودة عن بعض الناس وفيها نهي خاص اقتناء الكلاب وتربيتها, سوى كلاب الصيد والماشية, فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَنِ اقْتَنَى كَلْباً إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أوْ ضَارِياً, نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ), وروى ابن ماجه وصححه الألباني عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صُورَةٌ).
أيها الإخوة .. دِين الإنسان رأس ماله .. وهو مقبل على حفرة صغيرة, وسيواجه ما عمل وحده, فأحسنوا عملكم, وطهروا قلوبكم وسرائركم, {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
والبراء-19-11-1438
والبراء-19-11-1438