أهمية خطبة الجمعـة فـي عمليات التبليغ والإعـلام والتعـريف بحـقـائق الإسـلام..

الفريق العلمي
1440/08/09 - 2019/04/14 19:02PM

العلامة سيدي محمد التاويل رحمه الله

قبل الدخول في الموضوع بتفاصيله أود أن أشير بإيجاز إلى أهمية الخطابة في حد ذاتها والمكانة العظيمة التي بوأها الإسلام إياها؛ فالخطابة فن قديم عرفه الإنسان منذ شعر بحاجته إلى تبليغ أفكاره لغيره، والدفاع عنها أمامه، لإقناعه بحسن نظره وصواب رأيه، وحث مخاطبه على اقتناعه بمذهبه واتباع سبيله، أو تسفيه مقالة خصمه ودحض حجته.

 

ومنذ ذلك الحين والخطابة سلاح في يد الخطباء من مختلف الأمم والشعوب، وفي شتى البلاد والأوطان، يدافعون به عن مواقفهم وآرائهم بكل اللغات واللهجات، وفي كل المناسبات التي يجدون أنفسهم في حاجة إلى استعمال هذا السلاح وإشهاره في وجه خصومهم في مختلف المجالات السياسية والدينية والاجتماعية وغيرها من المجالات التي يحتك فيها الإنسان بأخيه الإنسان فيضطر لإقناعه برأيه وإخضاعه لمذهبه أو الدفاع عن نفسه، إلى أن جاء الإسلام فرفع من مكانة الخطابة وأعلى من شأنها بإعطائها الصبغة الدينية واعتبارها شعيرة أساسية من شعائره الدينية في الجُمَع والأعياد ومناسك الحج التي تتكرر بتكررها وتدوم بدوامها حرصا من الإسلام على بقائها منبرا دائما للدعوة الإسلامية ومدرسة للتعليم، ومركزا مستمرا للإعداد والتكوين وقلعة للدفاع عن الحق، ولسانا صادقا لنشره والتبشير به، ومحطة للإعلام النظيف الشريف الملتزم الهادف.

 

وأوجب على المسلمين السعي إليها والإنصات لسماعها واستقبال الخطيب عند إلقائها ونهى عن كل ما من شأنه أن يشغل عنها أو يشوش عليها، فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الجمعة: 9]، وقال: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الأعراف: 204].

قال جماعة من أهل العلم هذه الآية في الإنصات للخطبة يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت"، وفي حديث آخر؛ "ومن لغا فلا جمعة له"، وقال أيضا: "احضروا الذكر وادنوا من الإمام فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها"، وفي حديث رابع: "إذا قعد الإمام على المنبر يوم الجمعة فاستقبلوه بوجوهكم، واصغوا إليه بأسماعكم وارمقوه بأبصاركم".

 

من هذه الآيات والأحاديث تبرز أهمية الخطبة ومكانتها في الإسلام باحتلالها قمة القيادة الدينية وهرم الولايات الإسلامية بعد الإمامة العظمى التي لها الحق وحدها في اختيار وتعيين من يقوم بها بوصفه نائبا عن أمير المؤمنين في القائها.

 

وإن الحكمة من مشروعية الخطب الدينية في الجمع والأعياد هي الدعوة إلى الله -عز وجل-، واغتنام هذه المناسبات الدينية المتكررة والفرص الربانية المتاحة كل جمعة وكل عيد للقيام بتبليغ هذه الدعوة، وشرح مبادئها الصحيحة، ونشر تعاليمها السمحة، وقيمها المثلى بين جموع الحاضرين من مختلف الأعمار والمستويات والأعراق من جهة والعمل من جهة أخرى على دحض ما يثار حولها من شبهات باطلة وما يروّج ضدها من دعايات كاذبة ومغرضة، وذلك بغية تحصين الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي من عوامل الهدم وحمايته من دواعي التفسخ والانحلال، حتى يبقى الجميع الفرد والمجتمع وفيا لدينه مخلصا لعقيدته متمسكا بأخلاقه محافظا على شخصيته الإسلامية التي ورثها من آبائه وأجداده، معتزا بهويته الدينية لا يُخشى عليه من التنكر لها أو الانسلاخ منها والارتماء في أحضان غيرها في يوم من الأيام أو لسبب من الأسباب.

 

خاصة ونحن المسلمين دون غيرنا مستهدفون في ديننا وقيمنا، نُهاجم دون سائر الناس في حضارتنا وثقافتنا ونغزى في عقر دارنا، وداخل بيوتنا من طرف خصومنا وأهلينا على السواء بوسائل رهيبة فوق طاقتنا لا تملك أمامها حولا ولا قوة إلا قوة الإيمان بالله وقوة الصبر على دينه التي أشار إليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث "القابض على دينه كالقابض على الجمر".

 

ولتحقيق هذه الحكمة والوصول إلى النتيجة المرجوة من الخطب الدينية -بخاصة خطب الجمعة في بلاد المهجر- لابد أن يكون الخطيب أهلا للقيام بهذه المهمة النبيلة والمسؤولية الجسيمة متوفرا على المؤهلات الضرورية التي تساعده على تحقيق الهدف المنشود وبلوغ غايته وأهمها:

1- أن يكون الخطيب في نفسه أهلا لهذه المهمة يتمتع بأهلية الخطابة والإمامة وتتوفر فيه شروطهما التي نص الفقهاء عليها من إسلام وتكليف، وذكورة وقدرة على أداء الأركان والإقامة بالبلد إقامة تقطع حكم السفر على الأقل والسلامة من اللحن في القراءة، والفسق بالجوارح والاعتقاد، أو كما قال ابن رشد أن يكون من أهل الكمال، أخذا من حديث: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم"(رواه الدارقطني)، وحديث: "إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم"(رواه الحاكم).

 

كما تتطلب منه أن يكون معروف الأب والنسب مقبولا لدى الجميع مرضيا عنه غير مكروه عندهم، وأن لا يخص نفسه بالدعاء دونهم عملا بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة، عبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أم قوما وهم به راضون، ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كل ليلة"(رواه الترمذي).

 

وحديث أبي هريرة: "لا يحل لرجل يومن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوما إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم"(رواه أبو داود)، وفي حديث آخر: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: الرجل يؤم قوما وهم له كارهون، والرجل لا يأتي الصلاة إلا دبارا، ورجل استعبد محرّراً"(أخرجه أبو داود والترمذي).

 

2- أن يراعي في خطبه الحكمة من مشروعية الخطب الدينية، وهي الدعوة إلى الله -عز وجل- وفي إطارها الواسع في كل الميادين وفي مختلف المجالات الإسلامية: تعليم المسلمين أمور دينهم، تذكيرهم بربهم، وإرشادهم لما يصلح دينهم ودنياهم، تحسيسهم بحقوقهم وواجباتهم ترغيبهم في طاعة الله وتحذيرهم من معصيته، تخويفهم من ذنوبهم وعذاب ربهم، وتشويقهم لجنته ونعيمها؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حدود الشريعة الإسلامية، وبالطرق المشروعة إلى غير ذلك مما يحتاجه المسلم من أحكام العبادات والمعاملات وعلاقته بوطنه وأمته ودولته وما ينبغي له اتباعه ليكون صورة حية تمثل سماحة الإسلام والمسلمين.

 

3- أن يكون الخطيب نفسه مومنا بالدعوة التي يدعو إليها مقتنعا بها مشبعا بروحها مصدقا بمبادئها وأهدافها، موقنا بتعاليمها على بينة من أمرها لا يبغي بها بديلا ولا يقبل سواها سبيلا، مستعدا لتحمل المخاطر في سبيلها، والتضحية من أجلها، حتى تكون دعوته صادقة مخلصة، نابعة من القلب، خالية من شوائب النفاق والتصنع والرياء، مصداقا لقوله -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف: 108]؛ فإن الدعوة الصادقة تخرج من القلب وتقع في القلب. والدعوة باللسان لا تتجاوز الآذان.

 

4- أن يكون متضلعا في علوم الدين، عارفا بأحكام الشريعة الإسلامية مطلعا على حكمها وأسرارها عالما بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، وعلى دراية واسعة بتاريخ الدعوة الإسلامية، والسيرة النبوية، والفتوحات الإسلامية، وما تطلبته من تضحيات، ورافقها من بطولات واعترضها من صعوبات استطاعت التغلب عليها بفضل الإيمان بالله، وبما تقوم عليه الدعوة من مبادئ وما تخطط له من أهداف حتى يتمكن هذا الخطيب من تبليغ الدعوة على وجهها وكما هي في أصلها نقية بيضاء لا يشوبها تحريف المضلين ولا يكدر صفوها زيغ الزائغين ولا انتحال المنتحلين أو تنطع المتنطعين، دعوة قائمة على كتاب الله وسنة رسول الله وإجماع أمته.

 

وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يختار لتبليغ دعوته وحمل رسالته خيرة أتباعه، وأعلَم أصحابه، كما فعل حين بعث مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، وكما فعل حين أرسل إلى اليمن أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب، وكما فعل عمر حين بعث عبد الله بن مسعود إلى العراق، وأبا الدرداء إلى الشام، فقد كان هؤلاء الصحابة الدعاة من خيرة الصحابة علما وفضلا، وزهدا وورعا، انتدبهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخليفته لتقلد هذه الأمانة الغالية، والمهمة الصعبة والشاقة، وذلك حرصا على سلامة الدعوة وصيانة لها من التعثر الذي قد يصيبها من جراء أخطاء دعاة لا يتمتعون بالأهلية المطلوبة لذلك، والكفاءة الواجبة؛ لأن خطأ الدعاة تتحمله الدعوة، ويؤثر سلبا على نجاحها، وسمعتها وحركتها ونشاطها.

 

إن كثيرا من الناس لا يفرقون بين الدعوة والدعاة، ويحكمون على الدعوة من خلال تصرف الدعاة، كما يحكم اليوم على الإسلام من خلال سلوك بعض المسلمين هنا وهناك، ناسين أو متناسين أن الإسلام رسالة الله -تعالى- إلى خلقه، ودينه الذي ارتضاه لعباده معصوم من الخطأ منزه عن العيب والنقص، بينما الدعاة أو المسلمون بصفة عامة بشر يخطؤون ويصيبون في فهمه وطرق تبليغه، ويلقي الناس اللوم على الإسلام والدعوة الإسلامية ظلما وعدوانا، وهما بريئان من ذلك براءة الذئب من دم يوسف أو براءة الدعوة من الأدعياء.

 

5- أن يلتزم في دعوته بأسلوب الدعوة القرآني والمنهاج الرباني الذي رسمه الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُون)[المؤمنون: 96]، وقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 125].

 

فإن الهدف من الدعوة هو تبليغها ونجاحها، وإقناع الغير بها واعتناقه لها عن إيمان واقتناع، لا فرضها على الناس، وإكراههم على قبولها، والخضوع لها، مصداقا لقوله -تعالى- : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[يونس: 99]،  وقوله: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)[هود: 28]، وقوله: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[البقرة: 256].

 

ولا يتحقق ذلك إلا بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن، وهي ثلاثة شروط ضرورية لا بد منها لنجاح كل دعوة:

- والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة تتطلب من الداعية أن يكون رفيقا في دعوته، حكيما في موعظته، لا يشق على الناس شقا، ولا يصب عليهم التكاليف صبا، بل يراعي ظروفهم وأحوالهم. لا يواجه أحدا بعيبه، ولا يوبخه بذنبه، ولا يصرخ في وجهه بتجريحه أو تكفيره.

 

- وحسبه إذا أراد أن ينهى عن منكر بلغه، أو سلوك استهجنه أن يقول كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما بال أقوام؟ لا يعين أحدا باسمه، ولا يصفه بوصفه الخاص به، ولا يشير إليه؛ فإن ذلك أحفظ لمشاعر الناس، وأسرع تأثيرا في نفوسهم وأجلب لمودتهم وقلوبهم. وأدعى لانقيادهم وطاعتهم، وأنفع للدعوة، وأنجح لها من لغو الكلام، وسباب الناس، والتشهير بهم أمام أصدقائهم وأقربائهم. وفي بيوت الله التي أمر الله بتطهيرها في قوله: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[الحج: 26]، وصدق الله إذ يقول: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)[النساء: 148].

 

– وأما الجدال بالتي هي أحسن فإنه يفرض على الداعية استعمال المنطق السليم، والحجة الصحيحة، والبرهان الساطع، والدليل المقنع، والرفق في الحوار، واللباقة في الخطاب، للوصول إلى الحق بأخصر طريق وأوضح سبيل.

 

كما يفرض عليه استبعاد المجادلة بالباطل، والمغالطة في الحجاج، والخشونة في المنطق، والعنف في النقاش، والتحامل على الخصم، والاستكبار عليه، فإن ذلك يعطيه الانطباع بأن الهدف هو الانتصار عليه، وإلحاق الهزيمة به، وإبطال رأيه، دون البحث عن الحقيقة، ونصرة الحق مما يزيده تصلبا لرأيه، وعنادا في موقفه، وإعراضا عن قبول الحق، والإذعان له؛ رغم وضوحه وظهوره، لأن النفس البشرية تأنف الانقياد للعنف، وترفض الاعتراف بالهزيمة ولا تقبل الحق المفروض عليها. وقد أمر الله نبيه موسى وهارون أن يتلطفا بالدعوة حين بعثهما إلى فرعون فقال -تعالى-: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 43- 44].

 

كما ذم الله -تعالى- الجدال بغير علم فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيق)[الحج: 8، 9].

 

وقد جاء السيد بن حضر الأنصاري قبل إسلامه إلى مصعب بن عمير، يتهدده بالقتل لقيامه بالدعوة إلى الله في حيهم، وقال له ولرفيقه: "ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فرد عليه مصعب بهدوء. أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره. فاعترف السيد بإنصاف مصعب، واستمع إليه، ولم يقم من مجلسه إلا وقد آمن، وجاء ابن عمه سعد بن معاذ، ففعل معه نفس ما فعل مع السيد، فأسلم ورجع إلى قومه فقال لهم: كلام رجالكم ونسائكم علي حرام، حتى تؤمنوا بمحمد، فاستجابوا له، وآمنوا عن بكرة أبيهم"(سيرة ابن هشام 2/144-145).

 

فهذان أسلوبان للدعوة يصلح أحدهما حيث لا يصلح الآخر:

الأول: أسلوب اللين والتلطف في الدعوة، واعتماد أسلوب الإقناع الذي سلكه مصعب وهو غريب في غير وطنه.

 

والثاني: أسلوب التهديد بالمقاطعة الذي سلكه سعد بن معاذ وهو السيد المطاع في قومه وعشيرته.

 

6- الالتزام الصارم والدقيق بتعاليم الإسلام، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه في أقواله وأفعاله، وهذا الالتزام وإن كان واجبا في حق كل أحد، لا يعفى منه أي مسلم، ولا أية مسلمة، إلا أنه في حق الداعية والخطيب آكد وجوبا، وأشد إلزاما، حتى يعطي بالتزامه القدوة الحسنة من نفسه، ويبرهن بحسن أفعاله على صدق أقواله، وبحسن سيرته على سلامة سريرته، وطهارة باطنه، ويسلم من التناقض بين خطابه وسلوكه، ويكون كما قال شعيب عليه السلام: (يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود: 88]؛ لأن أخطر الناس على الدعوة، وأشدهم ضررا عليها، وأكثرهم تنفيرا للناس منها، وتزهيدا فيها وتشكيكا لهم فيها، وصدهم عنها هو ذلك الخطيب الذي يأمر الناس ولا يأتمر، وينهاهم ولا ينتهي، ينافق الناس بلسانه، ويعصي الله بسلوكه.

 

أولئك الذين قال الله في حقهم: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[البقرة: 44]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصف: 1 - 3].

المشاهدات 444 | التعليقات 0