أهمية العناية بالمساجد وفضائلها

عبد الله بن علي الطريف
1446/05/05 - 2024/11/07 22:41PM

أهمية العناية بالمساجد وفضائلها 1446/5/6هـ  موافقة للتعميم

 أما بعد: يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس...

أيها الإخوة: قَالَ أَحَدُ الأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ ﷺ مِنْ مَكّةَ، كَانَ أَوَلَ مَنْزِلٍ نَزَلَهُ قُباءً فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ ﷺ فِيْهِ أَيَامًا وَأَسّسَ مَسْجِدَهُ، وكَانَ ﷺ أَوّلَ مَنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي قِبْلَتِهِ، ثُمّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ ثُمّ جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ إلَى حَجَرِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمّ أَخَذَ النّاسُ فِي الْبُنْيَانِ.. ثم خرج ﷺ متوجها إلى المدينة.. وما وازن موكبُه ﷺ بيتًا من بيوتات الأنصار إلا اعترضوا طريقَه وقالوا يا رسولَ الله: أَقِمْ عِنْدَنَا فِي الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْمَنَعَةِ فيقَولَ ﷺ: «خَلّوا سَبِيلَهَا، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ» لِنَاقَتِهِ فَيخَلّون سَبِيلهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتّى إذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، بَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ ﷺ وَهُوَ يَوْمئِذٍ مِرْبَدٌ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النّجّارِ، فَلَمّا بَرَكَتْ وَرَسُولُ اللّهِ ﷺ عَلَيْهَا لَمْ يَنْزِلْ وَثَبَتَ فَسَارَتْ غَيْرَ بِعِيدٍ وَرَسُولُ اللّهِ ﷺ وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا لا يَثْنِيهَا بِهِ ثُمّ الْتَفَتَتْ إلَى خَلْفِهَا، فَرَجَعَتْ إلَى مَبْرَكِهَا أَوّلَ مَرّةٍ فَبَرَكَتْ فِيهِ ثُمّ تَحَلْحَلَتْ [أي تحركت وانزجرت] وَرَزَمَتْ [أي: أَقَامَت من الكلال] وَوَضَعَتْ جِرَانهَا.. فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ ﷺ وأَمَرَ بِهِ أَنْ يُبْنَى مَسْجِدًا وهو مسجده.. وكان ﷺ يعَمْلُ فِيهِ لِيُرَغّبَ الْمُسْلِمِينَ للْعَمَلِ فِيهِ... رواه أهل السير..

أيها الإخوة: إن المتأمل لفعلِ النبيِّ ﷺ ومبادرتِه ببناءِ المساجدِ عند نزوله أَيَّ دارٍ من دُورِ الإسلام؛ ليعلمُ علمَ اليقين أهميةَ المسجد، ودورَه الكبيرُ في الأمة، فلقد كان المسجدُ منطلقًا لكلِ خير، ومصدرًا لكلِ قرارٍ ينظمُ شؤون الدولةِ الفتية..

ولقد تضافرَ الكتابُ والسنةُ في بيانِ أهميةِ المساجدِ، وَرَتَّبَ رسولُ الله ﷺ الأجور الكبيرة لبُنَاتِها والمهتمين بها والمترددين عليها.. وخصَهم بمنحٍ عظامٍ لا تكون إلا لهم.. قال الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ). [النور:36 -37]. أي: يُتعبدُ للهُ (فِي بُيُوتٍ) عظيمة فاضلة، وهي المساجد، وهي أحب البلاد إلى الله، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَحَبُّ البِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ البِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا». رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ومعنى (أَذِنَ اللَّهُ) أي: أمر ووصى (أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ): هذان مجموع أحكام المساجد، فيدخل في رفعها، بناؤها، وكنسُها، وتنظيفُها من النجاسة والأذى، وأن تصان عن اللغو فيها، ورفع الأصوات بغير ذكر الله. وقد رغب رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في بناء المساجد فَقَالَ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» متفق عليه عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وأظهر رَسُولُ اللهِ اهتمامًا عظيمًا فيمن يعتني بالمسجد وينظفه فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ ‌تَقُمُّ ‌الْمَسْجِدَ، أَوْ شَابًّا فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَسَأَلَ عَنْهَا، أَوْ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتتَ قَالَ: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي» قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، أَوْ أَمْرَهُ فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا» فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» رواه مسلم.. ولقد رفع الله مكانةَ المساجدِ فسماها بيوتَه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً» رواه ابن ماجة عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني. وأعلى مكانة عُمْارِها حسيًا ومعنويًا فجعلهم مرةً جيرانَه قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ‌أَيْنَ ‌جِيرَانِي؟، ‌أَيْنَ ‌جِيرَانِي؟، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا وَمَنْ يَنْبَغِي أَنْ يُجَاوِرَكَ؟، فَيَقُولُ: أَيْنَ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ؟» مسند الحارث وذكره الهيثمي في الزوائد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني.

وقوله تعالى: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) يدخل في ذلك الصلاة كلها، فرضها، ونفلها، وقراءة القرآن، والتسبيح، والتهليل، وغيره من أنواع الذكر، وتعلم العلم وتعليمه، والمذاكرة فيها، والاعتكاف، وغير ذلك من العبادات التي تفعل في المساجد..

لذلك احتفى جل في علاه بزائري المساجد وجعلهم زواره، قَالَ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَهُوَ زَائِرُ اللَّهِ وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ الزَّائِرَ». رواه الطبراني عن سلمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني. ومن كرمه تعالى أنه يفرح برُوْادِ المساجد ومن ترددهم عدوا مستوطنين لها، قَالَ النَّبِيِّ ﷺ: «مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلاةِ وَالذِّكْرِ إِلا تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ». [والبشاشة: هي الفَرحُ بالقادم، والانبساطُ إليه، والأُنْس به، واللُّطف إليه، وَتَبَشْبَشَ أي: تلقاه ببره وتقريبه] رواه ابن ماجة وأحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني. ولكرامة رواد المساجد عليه أَعَدَّ لهم نُزُلًا بِكُلِّ غَدْوَة وَرَوْحَة، قَالَ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا، كُلَّمَا غَدَا، أَوْ رَاحَ». رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالنُّزُلُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُهَيَّأُ لِلنُّزُولِ فِيهِ، وَبِسُكُونِ الزَّاي: مَا يُهَيَّأُ لِلْقَادِمِ مِنْ الضِّيَافَة وَنَحْوِهَا..

أخي الحبيب: إذا خرجت إلى المسجد فأنت في خير كثير وحظ وفير من الأجور، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لا يَنْصِبُهُ إِلا إِيَّاهُ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ، وَصَلاةٌ عَلَى أَثَرِ صَلاةٍ لا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ». رواه أبو داوود عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وحسنه الألباني.. وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلا قَطْعِ رَحِمٍ.. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ.! قَالَ: أَفَلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ». رواه مسلم. أسأل الله أن يجعلنا من رواد المساجد المتعلقين بها وصلى الله...

الخطبة الثانية

أيها الأحبة: المساجد بقاعٌ أرضية تُنَضِّرُها الأنوارُ السماوية، وترفُّ عليها الملائكةُ بأجنحتِها، وهي أفضلُ المواقع عند الله، وأماكنُ المنافسةِ في الخيرات.. واجتماعِ المؤمنين، وأداءِ العبادات، ونزولِ الملائكة والرحمات..

في هذه البيوت تُغسل القلوب، وينجلي صدؤُها، وفيها يجتمعُ المؤمنون معاً، طاعةً لله عز وجل، وتتساوى الرؤوس مع الأجسادِ القائمة لله تعالى ركوعاً، وسجوداً، وقياماً، وخضوعاً.

هُنا السماواتُ تبدو قُـربَ طَالبِها
 
  هُنا الرحـابُ فضاءٌ حين يُلتـمسُ
هنا الطَهارةُ تحيــا في أماكِنِهــــــــــــــــــا
 
لا الطِّيبُ يَبْلَى ولا الأَصْدَاءُ تَنْدَرِسُ
 
أيها الإخوة: ولقد أدرك سلف الأمة هذا الفضل وسعوا إليه قال سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ: «مَا ‌أَذَّنَ ‌الْمُؤَذِّنُ ‌مُنْذُ ‌ثَلَاثِينَ ‌سَنَةً إِلَّا وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ». وقال رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ: "مَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ ‌الظُّهْرِ ‌مُنْذُ ‌أَرْبَعِينَ ‌سَنَةٍ إِلَّا وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا أَنْ أَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا"..

واعلموا وفقكم الله أن أراضي المساجد تعتبر وقفًا ولا يجوز استخدامها في غير ما خصصت له كما أفتت بذلك اللجنة الدائمة للفتوى وموضع الحاجة منه: "أن ما كان داخل أسوار المساجد سواء كان مسقوفًا أو غير مسقوف، أو سطحها ومنارتها والساحات المهيأة للصلاة بجوارها، لا ينبغي استغلالها في غير العبادة من صلاة وحلقات طلب علم أو تحفيظ قرآن" أهـ وعليه: لا يجوز التعدي على المساجد أو أراضيها أو مرافقها واستغلالها لغير ما خصصت له، أو إحداث أي إنشاءات عليها دون موافقة الوزارة.. والتعدي عليها من التعدي على بيوت الله وفساد يجب على المسلمين التعاون على منعه والإبلاغ عن المتعدين، ومن الاختلاس المحرم التعدي على خدمات الكهرباء والماء الخاصة بالمساجد واستغلالها لغير ما خصصت له ويجب الإبلاغ عنه.. وعلى المسلم الحفاظ على عموم المرافق العامة في البلاد، وأن نعلم جميعًا أن الانتفاع بها للجميع من غير إضرار أو استئثار...   

 

المشاهدات 3930 | التعليقات 0