أهمية العبادات الخفية وثمارها. 1438/1/27هـ
عبد الله بن علي الطريف
1438/01/27 - 2016/10/28 04:43AM
أهمية العبادات الخفية وثمارها. . 1438/1/27هـ
أيها الأحبة: حديثنا اليوم نصدره بما روي عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ" رواه الخطيب في التاريخ, والضياء في الأحاديث المختارة وصححه الألباني أَيْ: طاعة مخبوءة وعمل صالحٌ مُدَّخَر في السر.. وهذا النوع من العبادة زينة العبد في خلوته، وزاده من دنياه لآخرته، بها تُفرجُ الكُربات، وتسمو الدرجات، وتُكفرُ السيئات.
عبادة السر وطاعة الخفاء.. لا تخرج إلا من قلبٍ كريمٍ قد ملأ حبُ اللهِ سويداءَه، وعمرت الرغبةُ فيما عندَ اللهِ أرجاءَه، فأنكر نفسه، وأخفى عمله، وتجرد لله يريدُ قبولَه من مولاه...
فما أجمل هذه النفوس الطيبة، والقلوب النقية، والنيات الصافية.. التي تخفى عن شمالها ما تنفق يمينها.
عبادة السر وطاعة الخفاء.. دليل الصدق، وعنوان الإخلاص، وعلامة المحبة، وأثر الإيمان.
عبادة السر وطاعة الخفاء.. لا يستطيعها المنافقون، ولا يقوى عليها الكذابون، ولا يعرفها المدعون.. يقول الحسن رحمه الله: "ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عملٍ يقدرون أن يعملوه في السرِ فيكون علانية أبدا".
أيها الإخوة: عبادات السّرِّ تحتاج إلى خلوةٍ أو عُزْلَةٍ وهي إنحباس للنفس بعيداً عن مخالطةِ النّاس؛ لمراجعةِ النّفسِ والوقوفِ على أخطائِها، أو التفكرِ في ملكوتِ السمواتِ والأرضِ وتمجيدِ باريها، أو الزيادةِ في العبادات والتلذذِ بالمناجاة، ولقد كان السلف الصالح يقدرون الخلوة أو العزلة حق قدرها؛ لذلك جاءت أقوالُهم مثنيةً عليها داعيةً لها:
قال عمر رضي الله عنه: "خذوا بحظِّكم من العزلة"، وقال: "العزلةُ راحةٌ من خُلَّاطِ السّوءِ" وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "نِعْمَ صومعة الرجل بيته يكفُّ فيه بصره ولسانه، وإيّاكم والسّوق فإنّها تُلهي وتُلغِي" وقال ابنُ المسيب: "العزلةُ عبادةٌ وذكر"، وقال مسروق: "إنَّ الْمَرْءَ لَحَقِيقٌ أَنْ تَكُونَ لَهُ مَجَالِسُ يَخْلُو فِيهَا يَذْكُرُ فِيهَا ذُنُوبَهُ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهَا."، وقال آخر: لابدَّ للعبدِ من عزلةٍ لعبادتِه وذكرِه وتلاوتِه، ومحاسبتِه لنفسِه، ودعائِه واستغفارِه، وبُعدِه عن الشرِّ، ونحوِ ذلك"
نعم أيها الإخوة: إنّ العباداتِ الخفيّة، وقُرَبَ السّرِّ المشتملة على تعظيمِ الرّبِّ سبحانه وتعالى وأوامرِه ونواهيه، والإكثارِ من مناجاتِه في الخلوات، لتفضلُ الأعمال الجليِّة غير الفرائض الظّاهرة، فضلاً عظيماً يجده العبدُ صقلاً في قلبه من أدران الرّياء، والتّطلعِ لحبِّ الثناءِ من الناس..
ويحكي الخُرَيْبِي عن السّلف أنّهم "كانوا يستحبّون أن يكون للرّجل خبيئةٌ من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها"..، وقال مسلم بن يسار: "ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عزّ وجل".. ويقول وهب بن منبه رحمه الله تعالى: «يَا بُنَيَّ، أَخْلِصْ طَاعَةَ اللهِ بِسَرِيرَةٍ نَاصِحَةٍ يُصَدِّقُ اللهُ فِيهَا فِعْلَكَ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ خَيْرًا ثُمَّ أَسَرَهُ إِلَى اللهِ فَقَدْ أَصَابَ مَوْضِعَهُ، وَأَبْلَغَهُ قَرَارَهُ, وَإِنَّ مَنْ أَسَرَّ عَمَلًا صَالِحًا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ حَسْبُهُ، وَاسْتَوْدَعَهُ حَفِيظًا لَا يُضَيِّعُ أَجْرَهُ، فَلَا تَخَافَنَّ عَلَى عَمَلٍ.
أيها الإخوة: ومن خواطر ابن الجوزي في صيده قوله: نظرت في الأدلةِ على الحقِ سبحانه وتعالى فوجدتها أكثرَ من الرملِ، ورأيتُ من أعجبِها أن الإنسانَ قد يخفي ما لا يرضاه اللهُ عز وجل، فيظهره الله سبحانه عليه ولو بعد حين، وينطقُ الألسنةِ به وإن لم يشاهده الناس.
وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق، فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع من قَدَرِهِ وقُدْرَتِهِ حجابٌ ولا استتار، ولا يُضاعُ لديه عملٌ.
وكذلك يخفي الإنسانُ الطاعةَ فتظهرُ عليه، ويتحدثُ الناسُ بها وبأكثرِ منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً ولا يذكرونه إلا بالمحاسن، ليُعلمَ أن هنالك رباً لا يُضِيْعُ عملَ عامل.
وإِنَّ قلوبَ الناسِ لتعرفُ حالَ الشخصِ وتحبه، أو تأباه، وتذمُه أو تمدحه وفق ما يتحقق بينه وبين الله تعالى فإنه يكفيه كل هم، ويدفع عنه كل شر.
وما أصلح عبدٌ ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر الحق، إلا انعكس مقصوده وعاد حامده ذاماً".
وقال الحسن: "لقد أدركت أقوامًا ما كان أحدهم يقدرُ على أن يُسِرَّ عمَلَهُ فيعلنه، قد علموا أنَّ أحرزَ العَمَلين من الشيطان عملُ السرِّ، قال:وإن كان أحدهم ليكون عنده الزَّوْرُ[أي الزوار] وإنه ليصلّى وما يشعر به زوره.
ولقد طفق بعض الصالحين من السلف رحمهم الله تعالى على إسرار قراءته حتى لا يرى أنه أكثر الناس تلاوة للقرآن فقد ذكر ابن الجوزي في صفوة الصفوة.عن سفيان قال: أخبرتني مرية الربيع بن خثيم قالت: "كان عمل الربيع كله سرا، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه".
أي إذا قدم الرّجل على الرّبيع قام الرّبيع فغطّى المصحف بثوبه حتىّ لا يرى الرّجل أنّه يقرأ القرآن. أسأل الله بمنه وكرمه أن يرزقنا عبادة الخلوة ويمتعنا بها...
الثانية:
أيها الإخوة: وللعبادات الخفية ثمرات وفضائل منها: أنها علامة صدق الإيمان فلا يَتقربُ إلى اللهِ في الخلوة إلا رجلٌ يوقن أن اللهَ يعلمُ سرَّه ونجواه، وما أعلنه وما أخفاه، وهذا يبلغُ بالعبدِ مرتبةَ الإحسانِ العالية، التي عرفها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِحْسَانُ.؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ..» متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ومن ثمارها الثبات في المحن والشدائد والفتن، ذلك أن عبادة السر من أعظم أسباب الثبات في المحن والفتن، و من أكبر أسباب القوة في ترك الشهوات والشعور بلذة العبادات، ونور الوجه والقلب، وانشراح الصدر، والتوفيق في القول والعمل.. قال ابن القيم رحمه الله: "الذنوب الخفيات أسباب الانتكاسات، وعبادة الخفاء أصل الثبات"... وقال آخر "كلما زاد المسلم في إخفاء الطاعات كلما زاد ثباته، كالوتد المنصوب يثبت ظاهره بقدر خفاء أسفله في الأرض، فيقتلع الوتد العظيم، ويعجز عن قلع الصغير.. والسر فيما خفي."
وجل المنتكسين عن طريق الحق أصحاب ظواهر صالحة لكنهم أصحاب ذنوب خفية يبارزون بها العليم الخبير ويستخفون بها من العبد الحقير..
وقد قيل: "إن من أسباب الثبات: طاعة الخلوات فيما بينك وبين الله، والمحاسبة فيما بينك وبين نفسك، والصحبة الصالحة فيما بينك وبين الناس".
ومن ثمارها أنها أكثر أجرا وأعظم أثرا.. فصدقة السر أفضل من صدقة العلانية، (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة:271]، وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا). [المزمل:6]، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء:79]، وفي الحديث: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ». رواه الترمذي عن عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصححه الألباني. ولذا صلاة النوافل في البيت أفضل، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، صنفان يحرصان على إخفاء أعمالهم الصالحة «ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ، فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنْفِقْ يمينُهُ، ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عيناهُ». رواه البخاري.
ومن ثمار عبادة الخلوة صلاح القلب واستقامته وطهارته وتنقيته من شوائبه، وتطهيره من سواده وبوائقه.. قال بعض الصالحين: "من أكثر عبادة السر أصلح الله له قلبه شاء العبد أم أبى". وقال آخر: "من اشتكى ضعفا [أي في إيمانه] فخلوته بربه نادرة" لذا كان زادُ النبيِ صلى الله عليه وسلم خلوةَ الليل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:1-4]
ومن ثمارها رصيد ينفع عند الشدائد والأزمات، قال الله تعالى عن يونس عليه السلام: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:143،144] وفي حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أنهم بحثوا عن الخبيئة الصالحة الخالصة ليخرجوا من أحلك الظروف، فساتجاب الله لهم وخرجوا يمشون.
وبعد أيها الإخوة: يقول ابن الجوزي: "من أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في إصلاح السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح الظاهر". وقال ابن المبارك: "ما رأيت أحدا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون السريرة".. ومجالات عبادة الخلوات كثيرة منها صلاة الليل الذكر في خلوتك عندما تكون وحدك أو في سيارتك لوحدك، والصدقة بطرق مخفية للجهات الخيرية ورعاية الأيتام، وصوم النوافل وغيرها.. ولنعلم أن أهل العلم قالوا: من يشكو من الرياء فالغالب أن عبادته في السر قليلة أو معدومة..
فالله الله أحبتي لننفرد مع أنفسنا وقتاً خالياً في كل يوم، أو في كل أسبوع؛ نراجع فيه عملنا ونحاسب فيه النفس وننظر بأي مجالٍ تقدمنا وبما تأخرنا، ونذكر الله في الخلوة ونكثر فيها من التسبيح والاستغفار؛ لعلها تعدل لنا المسار...
أيها الأحبة: حديثنا اليوم نصدره بما روي عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ" رواه الخطيب في التاريخ, والضياء في الأحاديث المختارة وصححه الألباني أَيْ: طاعة مخبوءة وعمل صالحٌ مُدَّخَر في السر.. وهذا النوع من العبادة زينة العبد في خلوته، وزاده من دنياه لآخرته، بها تُفرجُ الكُربات، وتسمو الدرجات، وتُكفرُ السيئات.
عبادة السر وطاعة الخفاء.. لا تخرج إلا من قلبٍ كريمٍ قد ملأ حبُ اللهِ سويداءَه، وعمرت الرغبةُ فيما عندَ اللهِ أرجاءَه، فأنكر نفسه، وأخفى عمله، وتجرد لله يريدُ قبولَه من مولاه...
فما أجمل هذه النفوس الطيبة، والقلوب النقية، والنيات الصافية.. التي تخفى عن شمالها ما تنفق يمينها.
عبادة السر وطاعة الخفاء.. دليل الصدق، وعنوان الإخلاص، وعلامة المحبة، وأثر الإيمان.
عبادة السر وطاعة الخفاء.. لا يستطيعها المنافقون، ولا يقوى عليها الكذابون، ولا يعرفها المدعون.. يقول الحسن رحمه الله: "ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عملٍ يقدرون أن يعملوه في السرِ فيكون علانية أبدا".
أيها الإخوة: عبادات السّرِّ تحتاج إلى خلوةٍ أو عُزْلَةٍ وهي إنحباس للنفس بعيداً عن مخالطةِ النّاس؛ لمراجعةِ النّفسِ والوقوفِ على أخطائِها، أو التفكرِ في ملكوتِ السمواتِ والأرضِ وتمجيدِ باريها، أو الزيادةِ في العبادات والتلذذِ بالمناجاة، ولقد كان السلف الصالح يقدرون الخلوة أو العزلة حق قدرها؛ لذلك جاءت أقوالُهم مثنيةً عليها داعيةً لها:
قال عمر رضي الله عنه: "خذوا بحظِّكم من العزلة"، وقال: "العزلةُ راحةٌ من خُلَّاطِ السّوءِ" وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "نِعْمَ صومعة الرجل بيته يكفُّ فيه بصره ولسانه، وإيّاكم والسّوق فإنّها تُلهي وتُلغِي" وقال ابنُ المسيب: "العزلةُ عبادةٌ وذكر"، وقال مسروق: "إنَّ الْمَرْءَ لَحَقِيقٌ أَنْ تَكُونَ لَهُ مَجَالِسُ يَخْلُو فِيهَا يَذْكُرُ فِيهَا ذُنُوبَهُ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهَا."، وقال آخر: لابدَّ للعبدِ من عزلةٍ لعبادتِه وذكرِه وتلاوتِه، ومحاسبتِه لنفسِه، ودعائِه واستغفارِه، وبُعدِه عن الشرِّ، ونحوِ ذلك"
نعم أيها الإخوة: إنّ العباداتِ الخفيّة، وقُرَبَ السّرِّ المشتملة على تعظيمِ الرّبِّ سبحانه وتعالى وأوامرِه ونواهيه، والإكثارِ من مناجاتِه في الخلوات، لتفضلُ الأعمال الجليِّة غير الفرائض الظّاهرة، فضلاً عظيماً يجده العبدُ صقلاً في قلبه من أدران الرّياء، والتّطلعِ لحبِّ الثناءِ من الناس..
ويحكي الخُرَيْبِي عن السّلف أنّهم "كانوا يستحبّون أن يكون للرّجل خبيئةٌ من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها"..، وقال مسلم بن يسار: "ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عزّ وجل".. ويقول وهب بن منبه رحمه الله تعالى: «يَا بُنَيَّ، أَخْلِصْ طَاعَةَ اللهِ بِسَرِيرَةٍ نَاصِحَةٍ يُصَدِّقُ اللهُ فِيهَا فِعْلَكَ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ خَيْرًا ثُمَّ أَسَرَهُ إِلَى اللهِ فَقَدْ أَصَابَ مَوْضِعَهُ، وَأَبْلَغَهُ قَرَارَهُ, وَإِنَّ مَنْ أَسَرَّ عَمَلًا صَالِحًا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ حَسْبُهُ، وَاسْتَوْدَعَهُ حَفِيظًا لَا يُضَيِّعُ أَجْرَهُ، فَلَا تَخَافَنَّ عَلَى عَمَلٍ.
أيها الإخوة: ومن خواطر ابن الجوزي في صيده قوله: نظرت في الأدلةِ على الحقِ سبحانه وتعالى فوجدتها أكثرَ من الرملِ، ورأيتُ من أعجبِها أن الإنسانَ قد يخفي ما لا يرضاه اللهُ عز وجل، فيظهره الله سبحانه عليه ولو بعد حين، وينطقُ الألسنةِ به وإن لم يشاهده الناس.
وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق، فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع من قَدَرِهِ وقُدْرَتِهِ حجابٌ ولا استتار، ولا يُضاعُ لديه عملٌ.
وكذلك يخفي الإنسانُ الطاعةَ فتظهرُ عليه، ويتحدثُ الناسُ بها وبأكثرِ منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً ولا يذكرونه إلا بالمحاسن، ليُعلمَ أن هنالك رباً لا يُضِيْعُ عملَ عامل.
وإِنَّ قلوبَ الناسِ لتعرفُ حالَ الشخصِ وتحبه، أو تأباه، وتذمُه أو تمدحه وفق ما يتحقق بينه وبين الله تعالى فإنه يكفيه كل هم، ويدفع عنه كل شر.
وما أصلح عبدٌ ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر الحق، إلا انعكس مقصوده وعاد حامده ذاماً".
وقال الحسن: "لقد أدركت أقوامًا ما كان أحدهم يقدرُ على أن يُسِرَّ عمَلَهُ فيعلنه، قد علموا أنَّ أحرزَ العَمَلين من الشيطان عملُ السرِّ، قال:وإن كان أحدهم ليكون عنده الزَّوْرُ[أي الزوار] وإنه ليصلّى وما يشعر به زوره.
ولقد طفق بعض الصالحين من السلف رحمهم الله تعالى على إسرار قراءته حتى لا يرى أنه أكثر الناس تلاوة للقرآن فقد ذكر ابن الجوزي في صفوة الصفوة.عن سفيان قال: أخبرتني مرية الربيع بن خثيم قالت: "كان عمل الربيع كله سرا، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه".
أي إذا قدم الرّجل على الرّبيع قام الرّبيع فغطّى المصحف بثوبه حتىّ لا يرى الرّجل أنّه يقرأ القرآن. أسأل الله بمنه وكرمه أن يرزقنا عبادة الخلوة ويمتعنا بها...
الثانية:
أيها الإخوة: وللعبادات الخفية ثمرات وفضائل منها: أنها علامة صدق الإيمان فلا يَتقربُ إلى اللهِ في الخلوة إلا رجلٌ يوقن أن اللهَ يعلمُ سرَّه ونجواه، وما أعلنه وما أخفاه، وهذا يبلغُ بالعبدِ مرتبةَ الإحسانِ العالية، التي عرفها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِحْسَانُ.؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ..» متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ومن ثمارها الثبات في المحن والشدائد والفتن، ذلك أن عبادة السر من أعظم أسباب الثبات في المحن والفتن، و من أكبر أسباب القوة في ترك الشهوات والشعور بلذة العبادات، ونور الوجه والقلب، وانشراح الصدر، والتوفيق في القول والعمل.. قال ابن القيم رحمه الله: "الذنوب الخفيات أسباب الانتكاسات، وعبادة الخفاء أصل الثبات"... وقال آخر "كلما زاد المسلم في إخفاء الطاعات كلما زاد ثباته، كالوتد المنصوب يثبت ظاهره بقدر خفاء أسفله في الأرض، فيقتلع الوتد العظيم، ويعجز عن قلع الصغير.. والسر فيما خفي."
وجل المنتكسين عن طريق الحق أصحاب ظواهر صالحة لكنهم أصحاب ذنوب خفية يبارزون بها العليم الخبير ويستخفون بها من العبد الحقير..
وقد قيل: "إن من أسباب الثبات: طاعة الخلوات فيما بينك وبين الله، والمحاسبة فيما بينك وبين نفسك، والصحبة الصالحة فيما بينك وبين الناس".
ومن ثمارها أنها أكثر أجرا وأعظم أثرا.. فصدقة السر أفضل من صدقة العلانية، (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة:271]، وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا). [المزمل:6]، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء:79]، وفي الحديث: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ». رواه الترمذي عن عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصححه الألباني. ولذا صلاة النوافل في البيت أفضل، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، صنفان يحرصان على إخفاء أعمالهم الصالحة «ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ، فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنْفِقْ يمينُهُ، ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عيناهُ». رواه البخاري.
ومن ثمار عبادة الخلوة صلاح القلب واستقامته وطهارته وتنقيته من شوائبه، وتطهيره من سواده وبوائقه.. قال بعض الصالحين: "من أكثر عبادة السر أصلح الله له قلبه شاء العبد أم أبى". وقال آخر: "من اشتكى ضعفا [أي في إيمانه] فخلوته بربه نادرة" لذا كان زادُ النبيِ صلى الله عليه وسلم خلوةَ الليل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:1-4]
ومن ثمارها رصيد ينفع عند الشدائد والأزمات، قال الله تعالى عن يونس عليه السلام: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:143،144] وفي حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أنهم بحثوا عن الخبيئة الصالحة الخالصة ليخرجوا من أحلك الظروف، فساتجاب الله لهم وخرجوا يمشون.
وبعد أيها الإخوة: يقول ابن الجوزي: "من أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في إصلاح السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح الظاهر". وقال ابن المبارك: "ما رأيت أحدا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون السريرة".. ومجالات عبادة الخلوات كثيرة منها صلاة الليل الذكر في خلوتك عندما تكون وحدك أو في سيارتك لوحدك، والصدقة بطرق مخفية للجهات الخيرية ورعاية الأيتام، وصوم النوافل وغيرها.. ولنعلم أن أهل العلم قالوا: من يشكو من الرياء فالغالب أن عبادته في السر قليلة أو معدومة..
فالله الله أحبتي لننفرد مع أنفسنا وقتاً خالياً في كل يوم، أو في كل أسبوع؛ نراجع فيه عملنا ونحاسب فيه النفس وننظر بأي مجالٍ تقدمنا وبما تأخرنا، ونذكر الله في الخلوة ونكثر فيها من التسبيح والاستغفار؛ لعلها تعدل لنا المسار...
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق