أهميةُ الأمنِ وأثرُ إنزال العقوبة بالعابثين فيه. 1443/8/15هـ
عبد الله بن علي الطريف
أهميةُ الأمنِ وأثرُ إنزال العقوبة بالعابثين فيه. 1443/8/15هـ
الحمدُ لله القائل فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]
أما بعد أيها الأحبة: إن وقفات التأملِ والمراجعةِ للواقعِ الذي نعيشُهُ من النعمِ المتعددةِ مقروناً بالتأملِ بما صَحَّ من السنةِ الـمُطهرةِ يجعلُ المسلمَ يعرفُ أسرارَها، ويستضيءُ بأنوارِها، فتنشرحُ النفسُ.. وتحلو الحياةُ.. ويتفتقُ البيانُ بآياتِ الحمدِ والثناءِ على المنعمِ المنانِ بما أعطى من نعمٍ لا حُدُودَ لها.
ومن عَظِيمِ ما رُويَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا. وفي رواية: فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا». رواه الترمذي وابن ماجة والبخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وابن حبان عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وقال الألباني حسن لغيره.
الله أكبر أيها الإخوة: إنَّها كلماتٌ يسيرات، حوتْ معنى الحياةِ الحَقةِ والاستقرارِ الدائمِ، بل إنها كلماتٌ ترسمُ للمرءِ صورةَ الحياةِ بكلِ تفاصيلِها.. حُلوِها ومرِها.. سهلِها وصعبِها، على أَنَّها لا تتجاوزُ هذه المعاييرَ الثلاثة، والتي لا يمكنُ لأيِّ كائنٍ بشريٍ عاقلٍ أن يتصوَّرَ الحياةَ الدنيوية الهانئةَ بدونِ توافرِها، وماذا في الدنيا أكثرَ من هذا.؟ عافيةُ البدنِ.. وتوفرُ القوتِ الذي يشبعه.. والمأوى الآمنُ له.. ولو بحث الإنسانُ عن شيءٍ وراءَ ذلك لم يجدْ، فالدنيا كلُها بين يديه بمتعِها.
إنها عباراتٌ سهلةٌ على كلِ لسانٍ، غيرَ أنَّ وصفَ النبيِّ ﷺ لها بكونها تعادل حيازة الدنيا بحذافيرها يجعل ُكلَ واحدٍ منا يتأمّلُ ويدققُ النظرَ في أبعادِ هذه المعاني، وتنْزيلِها على واقعِ حياتِنا جميعاً، ومدى تأثيرها فينا وُجوداً وعدماً، إيجاباً وسلباً.
أمنُ المرءِ في سِرْبِهِ أيها الأحبة: مطلبُ الأفرادِ والمجتمعات على حدٍّ سواء، وهو الهدفُ المرتقبُ لكلِ المجتمعاتِ بلا استثناءٍ على اختلافِ مشارِبِـها، ثم إن إطراءَ الحياةِ الآمنةِ هو ديدنُ كافةِ المنابر؛ وذلك للصلةِ الوثيقةِ بينه وبين إمكانيةِ استقرارِ المجتمعات، وإلا فما قيمةُ لقمةٍ يأكلُها المرءُ وهو خائفٌ، أو شربةٍ يشربُـها الظمآنُ وهو متوجِّسٌ قلِق، أو غفوةِ نومٍ يتخللُها يقظةُ وسْنَانٍ هَلِعٍ، أو علمٍ وتعليمٍ وسطَ أجواءٍ محفوفةٍ بالمخاطر.؟!
وما لذةُ حياةٍ يخافُ فيها الفردُ من أنْ يكونَ عُرضةً لنهبِ الناهبين.. وجشعِ الطامعين.. يخشى في الصباحِ الدوائرَ... ويبيتُ الليلَ مشغولَ الخاطر.. إذا أصبح حمل همَ المساء.. وإذا أمسى حمل همَ الصباح.. هلع يترقب المخاطر ينتظرُ القوارع..
ومن أجلِ الأمنِ أحبتي: جاءتْ الشريعةُ الغراءُ بالعقوباتِ الصارمةِ، والحدودِ الرادعةِ تجاه كلِ مُخلٍ بالأمن كائناً من كان، بل وأغلقت أبواب التهاون في تطبيقها، أيّاً كانت مسوغات هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها.. أو في الاستحياء من الوقوع في وصمةِ نقدِ المجتمعاتِ التي تدعي الحضارةَ، ومعرّةَ وصفهم للغير بالتخلف بسبب تطبيقها.
وحين يدبُّ في الأمةِ داءُ التوجسِ الأمني فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على أمتهم، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة على الأجيالِ الحاضرةِ والآمالِ المرتقبة.
إن إصباح المرءِ المسلم آمناً في سربه لهو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحّة البدن وقُوت اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يصحُّ بدنُ الخائف.؟! وكيف يكتسبُ من لا يأمنُ على نفسه وبيته.؟!
ولأجل هذا كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن الذي نعيشه، وأن نستحضره نصب أعيننا بين الحين والآخر، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس له فاقدي الإحساس به، ولاسيما حينما نطالع يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع.. والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها واجتياح العدوان المسلّح لها، استباحةً لأرضها، وانتهاكاً لحرماتها.
أيها الأحبة: في نظري أن للأمن مصدران أساسيان، الأول: القوة القضائية والسلطة التنفيذية، ولن تتمكن أي دولة مهما أوتيت من الإمكانات البشرية والمادية والتقنية أن تحفظ الأمن على التمام بهذا المصدر وحده، إذا لم يصاحب هذه السلطة المصدر الثاني: وهو الوعي الشعبي بأهمية الأمن بصورته الكاملة.. والانتماء إلى الأمة والوطن.. وطاعة ولي الأمر بالمعروف.. والصدور بالأفعال عن أهل العلم والفتوى.. واعتبار ذلك من الدين.. واستجابة لرب العالمين القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59] وأن أي خرق لهذا الأمن، وأي انتماء لجهةٍ مشبوهة يعد خروجاً على ولي الأمر.. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر على توفيقه وامتنانه وأشهد ألا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المؤيد ببرهانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً..
أما بعد أيها الإخوة اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.. واعلموا أن خطرَ الفكرِ الضال واعتناقِ المناهج والمعتقدات المنحرفة، وتقديمِ الولاء لجهات خارجية لا يقتصر على معتنقيه، وإنما يعم الأمة بضرره وخطره؛ فيزعزع أمنها ويبث الفوضى فيها، ويسهل ويغري معتنقيه بالخروج على ولاة أمر بلادهم.
وهذا الانتساب يؤدي لا محالة بمعتنقيه لتنفيذ جريمة القتل العمد بأنفسٍ معصومة من رجال الأمن الذين يقومون بحراسة أمن هذا البلد وربما تعدى لغيرهم.. ودَافِعُ من يُقْدِمُ على هذه الجريمة؛ ما لُبِسَ عليهم من كُفرِ وضلال المجتمع وولاة أمره ورجال أمنه.!! وتناسوا في غمرة ضلالهم أَنَّ قتلَ الأَنفسِ من كبائر الذنوب بعد الشرك بالله وأنه مِنْ السَّبْعِ الـمُوبِقَاتِ، وهو حرامٌ بكتاب اللهِ حرامٌ بسنةِ رسولِ الله وبإجماع الأمة، وقد توعد اللهُ ورسولُه مقترفه بأعظمِ وعيد فقال الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93] وقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَالَ «لَنْ يَزَالَ الـمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» وَقَالَ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ» رواه البخاري [فِي فُسْحَةٍ] أي سَعَةٍ من دينه يرتجى رحمة الله ولطفه، ولو باشر الكبائر سوى القتل، فإذا قتل ضاقت عليه ودخل في زمرة الآيسين من رحمة الله تعالى، ومعنى (وَرَطَاتِ) جمع ورطة وهي الشيء الذي قلما ينجو منه، أو هي الهلاك. (لاَ مَخْرَجَ) لا سبيل للخلاص منها. (سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ) قتل النفس المعصومة. (بِغَيْرِ حِلِّهِ) بغير حق يبيح القتل.
وقَالَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاعْتَبَطَ بِقَتْلِهِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً». رواه أبو داود عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ وصححه الألباني. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الكَبَائِرَ، أَوْ سُئِلَ عَنِ الكَبَائِرِ فَقَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ..» رواه البخاري.
والقتل افتئاتٌ على ولي الأمر وانتهاك لسلطانه.. ذلك أن حفظ دماء الرعية، والأمر بالقتل من اختصاصه، ولا يجوز لكائن من كان أن ينتهك هذه الولاية، أو يستهين بها..
واستحلال جريمة القتل سبب لبث الخوف والذعر والفرقة بين المواطنين، ويَسُرُ كلَ عدوٍ ويُفْرِحُهُ.. ثم إن أمن هذا البلد ليس أمناً للمواطنين والمقيمين فيها، بل هو أمن لأمة الإسلام قاطبة التي تؤم هذه البلاد للحج والعمرة والزيارة..
أيها الإخوة: وبفضل الله وتوفيقه وفق الله ولاة أمر هذه البلاد لتطبيق حكم الله في كل مارق عن الحق، وكل من تسول له نفسه زعزعة أمن هذا البلاد المباركة، أو يعرضُ مصالحَها للخطر أو يروع الآمنين أو يسفك الدماء المعصومة؛ فأثمر أمناً ورخاً واجتماع كلمة، فلله الحمد والمنة.. وصدق الله القائل: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:179] ففي القصاص حياة نبيلة عظيمة قيمة سعيدة هانئة..
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيْكُم كَمَا أَمَرَكُم رَبُّكُم بِقُولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً، صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رواه مُسْلِمٌ وغَيرُهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا