أنذرتكم النار

محمد بن خالد الخضير
1433/02/25 - 2012/01/19 10:35AM
الخطبة الأولى

ان الْحَمْد لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا "
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " أَمَّا بَعْدُ :
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالة و كل ضلالة في النار
عباد الله
لقد قست القلوب فهي ما بين شواغل الدنيا وصوادفها وملهياتها.
الى الله نشكو قسوة في قلوبنا و في كل يوم واعظ الموت يندب
ثم إذا أفاقت فإذا هي تفيق إلى نكبات وهموم وغموم تتجاذبها، فإذا حديث الرقائق والرغائب الحديث المخّوف والحديث المرقق غريب عن القلوب، غريب على الآذان، قل ما تنصت إليه وقلّ ما تسمعه.
كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد أصحابه بمواعظ توجل منها القلوب، وتذرف منه العيون، وترتعد منها الفرائص.
يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب أصحابه بكلمات قليلات يسيرات مباركات.
فيقول لهم أيها الناس: ((أُريت الجنة والنار فلم أرى كاليوم في الخير والشر، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)).
فما أن يتم هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يخفض الصحابة رؤوسهم، ويكبوا بوجوههم، ولهم ضجيج وخنين بالبكاء.
أما إن نفوسنا بحاجة إلى أن نوردها المواعظ والنذر، ونذكرها بما خوف الله به عباده، وحذرهم منه، وقد حذر المولى جل وعلا وأنذر، حذر عباده أشد التحذير وأنذرهم غاية الإنذار من عذاب النار ومن دار الخزي والبوار، فقال المولى جل جلاله وتقدست أسماؤه: ( فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ ) وقال: ( إِنَّهَا لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ نَذِيراً لّلْبَشَرِ) .
فوالله ما أنذر العباد وخوفهم بشيء قط هو أشد وأدهى من النار. وصف لهم حرها ولظاها، وصف لهم طعامها وشرابها، وصف أغلالها ونكالها، وصف حميمها وغساقها، وصف أصفادها وسرابيلها.
وصف ذلك كله حتى إن من يقرأ القرآن بقلب حاضر، ويسمع وصف جهنم فكأنما أقيم على شفيرها فهو يراها يحطم بعضها بعضاً، كأنما يرى أهل النار يتقلبون في دركاتها، ويجرجرون في أوديتها.
كل ذلك من المولى جل وعلا إنذار وتحذير.
وكذا خوف نبينا صلى الله عليه وسلم من النار وحذر وأنذر، وتوعد وحذر، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الإنذار، شديد التحذير من النار.
وقف صلى الله عليه وسلم على منبره فجعل ينادي ويقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)).
وعلا صوته صلى الله عليه وسلم حتى سمعه أهل السوق جميعاً، وحتى وقعت خليصة كانت على كتفيه صلى الله عليه وسلم، فوقعت عند رجليه من شدة تأثره وانفعاله بما يقول عليه الصلاة والسلام.
أيها الأخوةالمؤمنون
فإن سألت عن النار فقد سألت عن دار مهولة، وعذاب شديد.
إن سألت عن حرّها وعن قعرها وحميمها وزقومها وأصفادها وأغلالها وعذابها وأهوالها وحال أهلها؟
فما ظنك بحر نار أوقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة.
ما ظننا بحر نار، نارنا هذه التي نوقدها جزء واحد من سبعين جزءً من نار الآخرة.
أما بُعد قعرها:فما ظننا بقعر نار يلقى الحجر العظيم من شفيرها فيهوي فيها سبعين سنة لا يدرك قعرها، والله لتملأن والله لتملأن والله لتملأن.
أما طعامها وشرابها؟ فاستمع إلى قول خالقها والمتوعد بعذابها:
( إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلاْثِيمِ كَٱلْمُهْلِ يَغْلِى فِى ٱلْبُطُونِ كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ )
( وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا )
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حال طعام أهل النار: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم)).
فكيف بمن تكون طعامه؟؟، فكيف بمن تكون طعامه؟؟
يلقى على أهل النار الجوع فإذا استغاثوا أغيثوا بشجر الزقوم.
فإذا أكلوه غلى في بطونهم كغلي الحميم، فيستسقون فيُسقون بماء حميم إذا أدناه إلى وجهه شوى وجهه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره: وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ
أما حال أهلها فشر حال وهوانهم أعظم هوان وعذابهم أشد عذاب؟
ما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، حتى انقطعت أعناقهم عطشاً، واحترقت أكبادهم جوعاً.
ثم انصرف بهم بعد ذلك إلى النار، فيسقون من عين آنية قد آذى حرها واشتد نضجها.
فلو رأيتهم وقد أسكنوا داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، يسحبون فيها على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، النار من تحتهم، النار عن أيمانهم، النار عن شمائلهم: لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلظَّـٰلِمِينَ [الأعراف:41].
فغطاؤهم من نار، وطعامهم من نار، وشرابهم من نار، ولباسهم من نار، ومهادهم من نار.
فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع، وجر السلاسل، يتجلجلون في أوديتها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها.
تغلي بهم كغلي القدور وهم يهتفون بالويل ويدعون بالثبور: يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ [الحج:19-22].
يتفجر الصديد من أفواههم، وتتقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود عيونهم وأهدابهم، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ

بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروا اللهَ إنّه كان غفّارًا

الخطبة الثانية

الحمد لله عظم شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عم امتنانه وجزل إحسانه، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
أيها المسلمون يقول الله تعالى في محكم التنزيل : (رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً )
ما حال دار أماني أهلها إذا تمنوا فيها، أن يموتوا؟
كيف بك إذا رأيتهم وقد اسودت وجوههم فهي أشد سواداً من الحمم. وعميت أبصارهم، وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم، ومزقت جلودهم، وغلت أيديهم إلى أعناقهم، وجمع بين نواصيهم وأقدامهم، يمشون على النار بوجوههم، ويطئون حسك الحديد بأحداقهم. ينادون من أكنافها ويصيحون من أقطارها: ((يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك قد تفتت من الكبود، يا مالك العدم خير من هذا الوجود)).
فيجيبهم بعد ألف عام بأشد وأقسى خطاب وأغلظ جواب: ( إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ ).
فينادون ربهم وقد اشتد بكاؤهم وعلا صياحهم وارتفع صراخهم: ( قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ ).
فلا يجيبهم الجبار جل جلاله إلا بعد سنين، فيجيبه بتوبيخ أشد من العذاب: ( قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ).
فعند ذلك أطبقت عليهم النار وغلقت، فيئس القوم بعد تلك الكلمة أيما إياس، فتزداد حسراتهم وتنقطع أصواتهم، فلا يسمع لهم إلا الأنين والزفير والشهيق والبكاء.
يبكون على تضييع أوقات الشباب، ويتأسفون أسفاً أعظم من المصاب. ولكن هيهات هيهات، ذهب العمل وجاء العقاب.
لقد خاب من أولاد آدم من مشى إلى النار مغلول القيادة أزرقا
يساق إلى نار الجحيـم مسربلا سرابيل قطران لباساً محرقـا
إذا شربوا منها الصديد رأيتهـم يذوبون من حر الصديد تمزقا
ويزيدهم عذابهم شدة، وحسرتهم حسرة تذكرهم ماذا فاتهم بدخول النار.
لقد فاتهم دخول الجنان، ورؤية وجه الرحمن، ورضوان رب الأرض والسماء جل جلاله.
ويزيد حسرتهم حسرة، وألمهم ألماً أن هذا العذاب الأليم والهوان المقيم ثمن اشتروه للذة فانية، وشهوة ذاهبة، لقد باعوا جنة عرضها السماوات والأرض بثمن بخس، دراهم معدودة.
بشهوات تمتعوا بها في الدنيا ثم ذهبت وذهبوا فكأنها وكأنهم ما كانوا وما كانت.
ثم لقوا عذاباً طويلاً، وهواناً مقيماً.
فعياذاً بالله من نار هذه حالها , وعياذاً بالله من عمل هذه عاقبته.
اللهم إنه لا طاقة لنا بعقابك، ولا صبر لنا على عذابك.
اللهم فأجرنا وأعتقنا من نارك.

فاتقوا الله رحمكم الله وقوا أنفسكم وأهليكم نارا فإن الشقي من حرم رحمة الله.
ثمّ اعلموا أنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمرٍ تزكو به أنفسُنا وتعظم به درجاتنا، ألا وهو الإكثار من الصّلاة والسّلام على النبيّ الكريم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين
اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نَفَّسته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا عيباً إلا سترته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عقيماً إلا رزقته ذرية صالحة، ولا عدواً إلا دحرته، ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها بيسر منك وعافية، يا أرحم الراحمين!
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكَّرون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
المرفقات

أنذرتكم النار.doc

أنذرتكم النار.doc

المشاهدات 3110 | التعليقات 3

جزاك الله خيرا


الموضوع مهم
ونحتاج إلى تكرار طرح الرقائق بين الفينة والأخرى


كنت سأخطب عن الموت
وأظن أني سأخطب عن النار بعد رؤية هذه الخطبة الموفقة المسددة


بارك الله في علمك وقلمك


أحسنت
فالمواعظ سياط القلوب الغافلة
بارك الله فيك، وتقبل منا ومنك