أنت غني ولست فقيرًا-1-5-1436هـ-ناصر بن مسفر الزهراني-الملتقى-بتصرف
محمد بن سامر
1436/05/01 - 2015/02/20 05:44AM
[align=justify]إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الإخوة، يقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "انظروا إلى من أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى مَن فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم" أخرجه الإمام مسلم-رحمه الله تعالى-هذه لفتةٌ عظيمةٌ، وفكرةٌ قويمةٌ، وتوجيهٌ سديدٌ، ورأيٌ رشيدٌ.
إنك يومَ تنظرُ إلى أحوالِ الناسِ، تجد أن بعضَهم قد أُصيبَ بإحباطٍ، وعاشَ في قلقٍ، وتلظَّى في نكدٍ، وبقي في شقاءٍ؛ بسببِ نظرِهم إلى مَن هم فوقَهم، وتطلّعِهِم إلى ما بأيدي غيرِهم، وظنِهِم أن أولئكَ هم السعداءُ بما في أيديهم، وأنهم هم الأشقياءُ المعدمون، فينعكسُ ذلك في نفوسِهِم، ويُقللُ من شكرِهِم لربهم، ومعرفتِهِم بأنفسهِم، ويؤثرُ في حياتِهم، ويُثَبِّطُ من سيرِهم.
إنَّ الإنسانَ يستطيع أن يعيشَ سعيدًا، ويحيا غنيًا، ولو لم يكن لديه شيءٌ من مباهجِ الحياةِ وزينتِها؛ فالسعادةُ سعادةُ القلبِ، والبهجةُ بهجةُ النفسِ، وتمامُ النعمةِ في الدينِ، وكمالُ المِنةِ بالإيمانِ؛ والسرورُ بالحياةِ هو بحسنِ النظرِ إليها، وفنِّ التعايشِ معها، وأنْ يرضى المرءُ بالقليلِ، ويشكرَ على الكثيرِ، ولا يفرحَ كثيرًا بموجودٍ، ولا يحزنَ طويلا على مفقودٍ، وما مِنْ أحدٍ إلا وللهِ عليه مِنةٌ، وله عليه نعمةٌ، قال-سبحانه-: [قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ]،[أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ].
فَلْيعلمِ المرءُ-مهما كان مكانُه وقلَّ إِمْكانُه-أن نِعمَ اللهِ-سبحانه-ومِنَنَهُ عليه عظيمةٌ لا تُحصى، قال-تعالى-: [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ].
أليس منَ السعادةِ أنْ ينطلقَ المرءُ مِنْ بيتِهِ مُعافَىً في جسدهِ، سليمًا في عقلِه، متمتعًا بجوارحِه.
ويَسعَدُ باستنشاقِ الهواءِ، وشمِ الطيبِ؟.
ويَسعَدُ بالنظرِ إلى الشمسِ في الشروق والغروب.
ويَسعَدُ بانطلاقِ لسانِهِ، وقدرتِه على الكلامِ، وتحدثِهِ مع الآخرين، وإفصاحِهِ عن حاجتِهِ، وتعبيره عما يجيش في صدره.
ويَسعَدُ بسماعِ الأصواتِ الجميلةِ والأحاديثِ المختلفةِ؛ والتقاطِ ترانيمِ الأذانِ، وتذوقِ حلاوةِ القرآنِ.
ويَسعَدُ بقدميْهِ السليمتينِ، ويديْهِ القويتينِ.
ويَسعَدُ بحسنِ تفكيرِهِ، ورجاحةِ عقلِهِ، وروعةِ أدائِهِ.
ويَسعَدُ بتأملِ الطبيعةِ الغناءِ، والمناظرِ الجميلةِ، بالطيورِ المغردةِ، بالشمسِ المشرقةِ، بالبدرِ المنيرِ، بالنجومِ الساحرةِ، بالجبالِ الشاهقةِ، بالأنهارِ الجاريةِ، بالمروجِ الخضراءِ، بالحيواناتِ المختلفةِ، والمخلوقاتِ المتنوعةِ.
ويَسعَدُ بأولادِه، ببناتِه، بإخوانِه، بأخواتِه، بزوجتِه، بأُمِه، بأبيه، بأقاربِه، بجيرانِه، أليستْ هذه كلُّها سعادةً، وجميعُها سرورًا؟!.
إنك تمتلكُ الملايينَ، ولكنك لا تشعرُ بذلك، فإذا أردتَ أن تشعرَ به فانظُرْ إلى بصَرِك، هل تبيعُهُ بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ سمعَك بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ يديْكَ بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ قدميْكَ بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ أبناءَك أو عائلتَك بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ جهازَك الهضميَ، أو لسانَك، أو قلبَك السليمَ بملايينِ الريالاتِ؟ كلا، لنْ تفعلَ ذلك! إذًا أنت تملك أكثرَ من كنوزِ الدنيا وأموالِها، فأنتَ غنيٌّ ولست فقيرًا، وأنت سعيدٌ ولستَ شقيًا.
لو أنَّ المرءَ يتفكَّرُ فيما وهبَه الله-سبحانه-من النِّعَمِ لما نغَّصَ حياتَه، وأتعبَ نفسَه في التفكيرِ البائسِ، والهمِّ القاتلِ، بالنظرِ فيما عندَ الآخرينَ.
تاجرَ رجلٌ فأفلستْ تجارتُه، وتحمَّلَ ديونًا كثيرةً، فضاقتْ نفسُه، وتنغصَ عيشُه؛ وملأَ الحزنُ قلبَه، وسكنَ الغمُ فؤادَه، وأتعسَ القلقُ حياتَه، فخرجَ يمشي هائمًا على وجهِه، فرأى رجلا مبتورَ الساقينِ، راكبًا عربةٍ يحركُها بيديِهِ وهو يعبرُ الشارعَ، فلما اقتربَ منه ناداه بابتسامةٍ جميلةٍ على شفتيِه قائلا له: صباحُ الخيرِ، إنه صباحٌ جميلٌ، ويومٌ سعيدٌ أليسَ كذلك؟ يقولُ الرجلُ فخجلتُ من نفسي، واحتقَرتُ موقفي، واستعَدْتُ همتي، وقلت: الحمدُ للهِ أنَّ معي ساقينِ سليمتينِ، وأستطيعُ أنْ أمشيَ وأتنقلَ في حرية، إذًا لماذا الهمُ والقلقُ وأنا أمتلك هذه الثروة الكبيرة؟!.
فيجبُ على الإنسانِ-ليسعدَ بالحياة-أن يعددَ أشياءَه المباركةَ، وليس متاعبَهَ، وأن ينظرَ إلى مكاسبِه فيها، وليس إلى خسائرِه، بل حتى المصائبَ والكوارثَ يجبُ أن ينظرَ إلى الجانبِ الجيدِ الإيجابيِ فيها، فهي لا تخلو من ذلك، ولو لم يكن إلا أجرُ الصبرُ عليها، وثوابُ احتسابِها، لكفى به عزاءً، قال-تعالى-: [أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ].
كان-صلى الله عليه وآله وسلم-يربِطُ الحجارةَ على بطنِهِ من الجوعِ، ويمكثُ الشهرَ والشهرينِ لا يوقدُ في بيتِهِ نارٌ، ويخرجُهُ الجوعُ من بيتِهِ أحيانًا كثيرةً، وقُتِل أصحابُه، ومُزِّقَ بعضُ أتباعُه، وفقَدَ كثيرًا من أحبابه؛ حلَّتْ به الكوارثُ، ونزلتْ به المصائبُ، ولم يكن له مركبٌ فخمٌ، ولا قصرٌ فاخرٌ، ولا رصيدٌ كبيرٌ، ومع ذلك قال له الله-تعالى-: [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]، وقال:[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]، فأيُ نعمةٍ تلكَ وقدْ نامَ على الحصيرِ حتى أثَّرَ في جنبِهِ؟ إن النِّعَم إذًا لا يُنظَرُ فيها إلى الجوانبِ الماديةِ فقطْ؛ فهناك نِعَمٌ أجلُّ، ومِنَنٌ أكبرُ.
وقال-صلى الله عليه وآله وسلم-لما سُئلَ عن كثرةِ قيامِهِ حتى تفطَّرَتْ(تشققتْ)قدماه، قال: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا" رواه الإمامانِ البخاري ومسلم-رحمهما الله تعالى-، ولقد عاش -صلى الله عليه وآله وسلم-أسعدَ إنسانٍ، أسعَدَ نفسَه، وأسعد مَن حولَه، وهو لم يملكْ من حطامِ الدنيا شيئًا؛ فليستِ المِنةُ بالمالِ وحدَه والثراءِ أو الممتلكاتِ، فالإيمانُ بالله أعظمُ نعمةٌ، والحياةُ نعمةٌ، والجوارحُ والعافيةُ نعمةٌ، والعقلُ نعمةٌ، والتوفيقٌ للدينِ والخيرِ نعمةٌ.
رُويَ أن عبدًا عبَدَ اللهَ خمسَ مئةِ سنةٍ، فيحاسبُ يومَ القيامةِ ويقول اللهُ-سبحانه-: أَدخلوا عبديَ الجنةَ برحمتي. فيقول: بل بعملي، فيقول اللهُ-سبحانه-: قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعملِه، فوجدوا أنَّ نعمةَ البصرِ قد أحاطت بعبادتِهِ خمسَ مئةِ سنةٍ، وبقيةُ النِعَم صارت فضلا عليه وكرمًا من الله! فيقول اللهُ-سبحانه-: ادخلوا عبدي النارَ، فيُجَرُ إلى النارِ، فينادي: ربِّ برحمتِك أدخلني الجنةَ. فيقول: رُدوه. فيُدخِلُهُ اللهُ الجنةَ برحمتِه.
إنَّ الإنسانَ المبتهجَ بالحياةِ يزيدُه الابتهاجُ بالحياةِ قوةً، فيكونُ أقدرَ على الجدِ، وحسنِ الإنتاجِ، وتجاوزِ الصعابِ.
وما الحياةُ؟ وما قيمتُها؟ وما الدنيا؟ وما أهميتُها؟ لو كانتْ تساوي عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى منها كافرًا شربةَ ماءٍ، فهي مرحلةٌ عابرةٌ، ورحلةٌ قصيرةٌ، لا تستحقُ أن ينغِّصَ الإنسانُ فيها نفسَه بالتحسرِ على ما فاتَ منها، والألمِ على مباهجِها؛ حرامُها عقابٌ، وحلالُها حسابٌ، وإنَّ الأكثرينَ في الدنيا هم الأقلونَ يومَ القيامةِ، إلا منْ قالَ بالمالِ هكذا وهكذا-بالصدقةِ ووجوهِ الخيرِ-أمامَهُ ومِنْ خلفِه، وعن يمينِه وعن شماله، وقليلٌ ما هم! [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
إنَّ على المسلمِ ألا يُكَثِّرَ الهمومَ على نفسِه، فالدنيا لا تستحقُ ذلك، يجبُ أنْ يكونَ همُه الآخرةَ يومَ الوقوفِ على اللهِ، في ظلمةِ القبرِ، والنفخِ في الصورِ، في يومٍ كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ، هناك "يُؤتى بأنعمِ أهلِ الدنيا مِنْ أهلِ النارِ يومَ القيامةِ، فيُصبَغ في النار صَبغةً(غمسةً)، ثم يُقالُ: يا ابنَ آدمَ هل رأيتَ خيرًا قَطُ؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قَطُ؟ فيقول: لا واللهِ يا ربِّ! ويؤتى بأشدِ الناسِ بؤسًا في الدنيا مِنْ أهلِ الجنةِ، فيصبغ في الجنة صبغة(غمسةً)، فيُقالُ له: يا بنَ آدمَ، هل رأيت بؤسًا قَطُ؟ هل مرَّ بك شدةٌ قَطُ؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤسٌ قَطُ، ولا رأيت شدةً قَطُ"، ويقول -صلى الله عليه وآله وسلم-: "قدْ أفلحَ منْ أسلمَ، ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعَه اللهُ بما آتاه" رواه الإمام مسلم-رحمه الله تعالى-فنسأله-تعالى-أن يجعلنا وإياكم والمسلمين من القانعين بما آتاهم، والشاكرين لنعمه، المعترفين بكرمه.
...أما بعدُ: ففي الحديثِ المرويِ عنه-صلى الله عليه وآله وسلم-أنه قال: "منْ أصبحَ منكم آمنًا في سِرْبِه، معافًى في جسدِه، عندَه قوتُ يومِه، فكأنما حِيزتْ له الدنيا" رواه الترمذي وابن ماجه-رحمهما الله تعالى-.
قالَ هارونُ الرشيدُ-رحمه الله-لرجلٍ: عِظْنِي، فأرادَ الرجلُ أنْ يذكِّرَه بنعمِ اللهِ عليهِ، وكان الرشيدُ قد أُتي بماءٍ ليشربَه، وقدْ أمسكَه بيدِه، فقال له: يا أميرَ المؤمنينَ! لو حُبِسَتْ عنك هذه الشربةُ ومُنِعْتَ منها، أكنتَ تفديها بملكِك؟ قال: نعم، قال: فلو شربتَها، وحُبس عنك إخراجُها أكنتَ تفديها بملكِك؟ قال: نعم. قال: فما خيرَ في مُلكٍ لا يساوي شرابًا ولا بولا؟.
وإنَّ هناك من النماذجِ العظيمةِ في تاريخِنا، ما يسلي النفسَ، ويُسعِدُ الخاطر، ويُثيرُ العَجَبَ مِنْ ناسٍ أيقنوا حقيقة النعم التي وُهِبُوها، والمِنَن التي مُنِحوها، فكانوا مِثالا في الشُكرِ، ونماذجَ في الصبر.
عروةُ بنُ الزبيرِ-رضي اللهُ عنه-لما أصابه مرضُ الآكلةِ في رجلهِ، فنصحَه الأطباءُ ببترِ قدمِه فبترت، نظرَ إليها وهي مبتورةٌ فقال: اللهُ يعلمُ أني ما مشيتُ بكِ إلى معصيةٍ، ثم مات أحبُّ أولادِه إليه في اليومِ نفسِه، فدعا الله قائلا: اللهم لك الحمدُ على ما قضيتَ، كان لي أربعةُ أطرافٍ فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ثلاثةً، وأعطيتَني أربعةً أبناءِ فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ثلاثةً، فلك الشكرُ على ما أعطيتَ، ولك الحمدُ على ما قضيتَ.
ومر ناسٌ برجلٍ يومَ معركةِ القادسيةِ بين المسلمين والفرس، وقدْ قُطعتْ يداهُ ورجلاهُ وهو يضحكُ، ويقول: [مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا].
ودخل رجلٌ على رجلٍ قدْ نزلتْ به بلوى عظيمةٌ، ومرضٌ شديدٌ، فقال له :كيف تجدُك؟ قال : أَجدُ عافيتَه أكثرَ مما ابتلاني به، وأَجدُ نعمَه عليَّ أكثرَ من أنْ أحصيَها، ثم بكى، وقال: أُسلي نفسي عن ألمِ ما بي بما وعد عليه ربي أهلَ الصبرِ، مِنْ كمالِ الأجورِ في مشهدِ يومٍ عسيرٍ.
ودخل رجلٌ على مجذومٍ، مقطوعِ اليدينِ والرجلينِ أعمى، فقال له : ألا أزوجُك امرأةً تنظفِك من هذهِ الأقذارِ؟ فبكى، ثم قال: تُزوِجُني ومُلك الدنيا وعروسُها عندي؟ فقال له: وما الذي عندَك مِنْ مُلكِ الدنيا، وأنتَ مقطوعُ اليدينِ والرجلينِ أعمى؟ فقال: رضاي عن الله-عز وجل-ورضاه عني، إذْ أبلى جوارحِي وقطعَها وأبقى لساني أذكرُه بِهِ.
والقصصُ كثيرةٌ عن أولئك العظماء الذين عرفوا حقيقةَ النعمةَ، وعظمةَ الصبرَ، وعِظَمَ الأجرِ، قال-تعالى-: [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ]، والمرادُ والقصدُ من هذا كلِه تنبيهُ الناسِ، الذين غفلوا عن شكرِ ربِهم، ونغَّصُوا حياتَهم، وأقلقوا أنفسَهم، وأرهقوا أفكارَهم، وجلبُوا الهمومَ والغمومَ إلى حياتِهم، بكثرةِ نظرِهِمْ إلى ما عندَ الآخرينَ، وتَطَلُّعِهِمْ لمَِا في أيدي غيرِهم، واعتبارِهم أنفسَهم محرومينَ أشقياءَ، مع أنَّ عندَهم مِنَ النِّعَمِ، ولديهم من المَلكاتِ والطاقاتِ، ما يجعلُهم يعيشونَ سعداءَ، ويَعُدونَ أنفسَهم أغنياءَ، و"ليس الغنى عن كثرةِ العرَضِ، ولكنَّ الغنى غنى النفسِ"؛ [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ].
اللهم اجعلنا والمسلمينَ من الشاكرينَ لنعمِك، المعترفينَ بكرمِك وجودِك، السعداءِ بما أعطيتَنا، الأغنياءِ بما وهبتَنا.[/align]
فيا أيها الإخوة، يقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "انظروا إلى من أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى مَن فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم" أخرجه الإمام مسلم-رحمه الله تعالى-هذه لفتةٌ عظيمةٌ، وفكرةٌ قويمةٌ، وتوجيهٌ سديدٌ، ورأيٌ رشيدٌ.
إنك يومَ تنظرُ إلى أحوالِ الناسِ، تجد أن بعضَهم قد أُصيبَ بإحباطٍ، وعاشَ في قلقٍ، وتلظَّى في نكدٍ، وبقي في شقاءٍ؛ بسببِ نظرِهم إلى مَن هم فوقَهم، وتطلّعِهِم إلى ما بأيدي غيرِهم، وظنِهِم أن أولئكَ هم السعداءُ بما في أيديهم، وأنهم هم الأشقياءُ المعدمون، فينعكسُ ذلك في نفوسِهِم، ويُقللُ من شكرِهِم لربهم، ومعرفتِهِم بأنفسهِم، ويؤثرُ في حياتِهم، ويُثَبِّطُ من سيرِهم.
إنَّ الإنسانَ يستطيع أن يعيشَ سعيدًا، ويحيا غنيًا، ولو لم يكن لديه شيءٌ من مباهجِ الحياةِ وزينتِها؛ فالسعادةُ سعادةُ القلبِ، والبهجةُ بهجةُ النفسِ، وتمامُ النعمةِ في الدينِ، وكمالُ المِنةِ بالإيمانِ؛ والسرورُ بالحياةِ هو بحسنِ النظرِ إليها، وفنِّ التعايشِ معها، وأنْ يرضى المرءُ بالقليلِ، ويشكرَ على الكثيرِ، ولا يفرحَ كثيرًا بموجودٍ، ولا يحزنَ طويلا على مفقودٍ، وما مِنْ أحدٍ إلا وللهِ عليه مِنةٌ، وله عليه نعمةٌ، قال-سبحانه-: [قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ]،[أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ].
فَلْيعلمِ المرءُ-مهما كان مكانُه وقلَّ إِمْكانُه-أن نِعمَ اللهِ-سبحانه-ومِنَنَهُ عليه عظيمةٌ لا تُحصى، قال-تعالى-: [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ].
أليس منَ السعادةِ أنْ ينطلقَ المرءُ مِنْ بيتِهِ مُعافَىً في جسدهِ، سليمًا في عقلِه، متمتعًا بجوارحِه.
ويَسعَدُ باستنشاقِ الهواءِ، وشمِ الطيبِ؟.
ويَسعَدُ بالنظرِ إلى الشمسِ في الشروق والغروب.
ويَسعَدُ بانطلاقِ لسانِهِ، وقدرتِه على الكلامِ، وتحدثِهِ مع الآخرين، وإفصاحِهِ عن حاجتِهِ، وتعبيره عما يجيش في صدره.
ويَسعَدُ بسماعِ الأصواتِ الجميلةِ والأحاديثِ المختلفةِ؛ والتقاطِ ترانيمِ الأذانِ، وتذوقِ حلاوةِ القرآنِ.
ويَسعَدُ بقدميْهِ السليمتينِ، ويديْهِ القويتينِ.
ويَسعَدُ بحسنِ تفكيرِهِ، ورجاحةِ عقلِهِ، وروعةِ أدائِهِ.
ويَسعَدُ بتأملِ الطبيعةِ الغناءِ، والمناظرِ الجميلةِ، بالطيورِ المغردةِ، بالشمسِ المشرقةِ، بالبدرِ المنيرِ، بالنجومِ الساحرةِ، بالجبالِ الشاهقةِ، بالأنهارِ الجاريةِ، بالمروجِ الخضراءِ، بالحيواناتِ المختلفةِ، والمخلوقاتِ المتنوعةِ.
ويَسعَدُ بأولادِه، ببناتِه، بإخوانِه، بأخواتِه، بزوجتِه، بأُمِه، بأبيه، بأقاربِه، بجيرانِه، أليستْ هذه كلُّها سعادةً، وجميعُها سرورًا؟!.
إنك تمتلكُ الملايينَ، ولكنك لا تشعرُ بذلك، فإذا أردتَ أن تشعرَ به فانظُرْ إلى بصَرِك، هل تبيعُهُ بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ سمعَك بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ يديْكَ بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ قدميْكَ بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ أبناءَك أو عائلتَك بملايينِ الريالاتِ؟ وهل تبيعُ جهازَك الهضميَ، أو لسانَك، أو قلبَك السليمَ بملايينِ الريالاتِ؟ كلا، لنْ تفعلَ ذلك! إذًا أنت تملك أكثرَ من كنوزِ الدنيا وأموالِها، فأنتَ غنيٌّ ولست فقيرًا، وأنت سعيدٌ ولستَ شقيًا.
لو أنَّ المرءَ يتفكَّرُ فيما وهبَه الله-سبحانه-من النِّعَمِ لما نغَّصَ حياتَه، وأتعبَ نفسَه في التفكيرِ البائسِ، والهمِّ القاتلِ، بالنظرِ فيما عندَ الآخرينَ.
تاجرَ رجلٌ فأفلستْ تجارتُه، وتحمَّلَ ديونًا كثيرةً، فضاقتْ نفسُه، وتنغصَ عيشُه؛ وملأَ الحزنُ قلبَه، وسكنَ الغمُ فؤادَه، وأتعسَ القلقُ حياتَه، فخرجَ يمشي هائمًا على وجهِه، فرأى رجلا مبتورَ الساقينِ، راكبًا عربةٍ يحركُها بيديِهِ وهو يعبرُ الشارعَ، فلما اقتربَ منه ناداه بابتسامةٍ جميلةٍ على شفتيِه قائلا له: صباحُ الخيرِ، إنه صباحٌ جميلٌ، ويومٌ سعيدٌ أليسَ كذلك؟ يقولُ الرجلُ فخجلتُ من نفسي، واحتقَرتُ موقفي، واستعَدْتُ همتي، وقلت: الحمدُ للهِ أنَّ معي ساقينِ سليمتينِ، وأستطيعُ أنْ أمشيَ وأتنقلَ في حرية، إذًا لماذا الهمُ والقلقُ وأنا أمتلك هذه الثروة الكبيرة؟!.
فيجبُ على الإنسانِ-ليسعدَ بالحياة-أن يعددَ أشياءَه المباركةَ، وليس متاعبَهَ، وأن ينظرَ إلى مكاسبِه فيها، وليس إلى خسائرِه، بل حتى المصائبَ والكوارثَ يجبُ أن ينظرَ إلى الجانبِ الجيدِ الإيجابيِ فيها، فهي لا تخلو من ذلك، ولو لم يكن إلا أجرُ الصبرُ عليها، وثوابُ احتسابِها، لكفى به عزاءً، قال-تعالى-: [أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ].
كان-صلى الله عليه وآله وسلم-يربِطُ الحجارةَ على بطنِهِ من الجوعِ، ويمكثُ الشهرَ والشهرينِ لا يوقدُ في بيتِهِ نارٌ، ويخرجُهُ الجوعُ من بيتِهِ أحيانًا كثيرةً، وقُتِل أصحابُه، ومُزِّقَ بعضُ أتباعُه، وفقَدَ كثيرًا من أحبابه؛ حلَّتْ به الكوارثُ، ونزلتْ به المصائبُ، ولم يكن له مركبٌ فخمٌ، ولا قصرٌ فاخرٌ، ولا رصيدٌ كبيرٌ، ومع ذلك قال له الله-تعالى-: [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]، وقال:[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]، فأيُ نعمةٍ تلكَ وقدْ نامَ على الحصيرِ حتى أثَّرَ في جنبِهِ؟ إن النِّعَم إذًا لا يُنظَرُ فيها إلى الجوانبِ الماديةِ فقطْ؛ فهناك نِعَمٌ أجلُّ، ومِنَنٌ أكبرُ.
وقال-صلى الله عليه وآله وسلم-لما سُئلَ عن كثرةِ قيامِهِ حتى تفطَّرَتْ(تشققتْ)قدماه، قال: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا" رواه الإمامانِ البخاري ومسلم-رحمهما الله تعالى-، ولقد عاش -صلى الله عليه وآله وسلم-أسعدَ إنسانٍ، أسعَدَ نفسَه، وأسعد مَن حولَه، وهو لم يملكْ من حطامِ الدنيا شيئًا؛ فليستِ المِنةُ بالمالِ وحدَه والثراءِ أو الممتلكاتِ، فالإيمانُ بالله أعظمُ نعمةٌ، والحياةُ نعمةٌ، والجوارحُ والعافيةُ نعمةٌ، والعقلُ نعمةٌ، والتوفيقٌ للدينِ والخيرِ نعمةٌ.
رُويَ أن عبدًا عبَدَ اللهَ خمسَ مئةِ سنةٍ، فيحاسبُ يومَ القيامةِ ويقول اللهُ-سبحانه-: أَدخلوا عبديَ الجنةَ برحمتي. فيقول: بل بعملي، فيقول اللهُ-سبحانه-: قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعملِه، فوجدوا أنَّ نعمةَ البصرِ قد أحاطت بعبادتِهِ خمسَ مئةِ سنةٍ، وبقيةُ النِعَم صارت فضلا عليه وكرمًا من الله! فيقول اللهُ-سبحانه-: ادخلوا عبدي النارَ، فيُجَرُ إلى النارِ، فينادي: ربِّ برحمتِك أدخلني الجنةَ. فيقول: رُدوه. فيُدخِلُهُ اللهُ الجنةَ برحمتِه.
إنَّ الإنسانَ المبتهجَ بالحياةِ يزيدُه الابتهاجُ بالحياةِ قوةً، فيكونُ أقدرَ على الجدِ، وحسنِ الإنتاجِ، وتجاوزِ الصعابِ.
وما الحياةُ؟ وما قيمتُها؟ وما الدنيا؟ وما أهميتُها؟ لو كانتْ تساوي عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى منها كافرًا شربةَ ماءٍ، فهي مرحلةٌ عابرةٌ، ورحلةٌ قصيرةٌ، لا تستحقُ أن ينغِّصَ الإنسانُ فيها نفسَه بالتحسرِ على ما فاتَ منها، والألمِ على مباهجِها؛ حرامُها عقابٌ، وحلالُها حسابٌ، وإنَّ الأكثرينَ في الدنيا هم الأقلونَ يومَ القيامةِ، إلا منْ قالَ بالمالِ هكذا وهكذا-بالصدقةِ ووجوهِ الخيرِ-أمامَهُ ومِنْ خلفِه، وعن يمينِه وعن شماله، وقليلٌ ما هم! [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
إنَّ على المسلمِ ألا يُكَثِّرَ الهمومَ على نفسِه، فالدنيا لا تستحقُ ذلك، يجبُ أنْ يكونَ همُه الآخرةَ يومَ الوقوفِ على اللهِ، في ظلمةِ القبرِ، والنفخِ في الصورِ، في يومٍ كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ، هناك "يُؤتى بأنعمِ أهلِ الدنيا مِنْ أهلِ النارِ يومَ القيامةِ، فيُصبَغ في النار صَبغةً(غمسةً)، ثم يُقالُ: يا ابنَ آدمَ هل رأيتَ خيرًا قَطُ؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قَطُ؟ فيقول: لا واللهِ يا ربِّ! ويؤتى بأشدِ الناسِ بؤسًا في الدنيا مِنْ أهلِ الجنةِ، فيصبغ في الجنة صبغة(غمسةً)، فيُقالُ له: يا بنَ آدمَ، هل رأيت بؤسًا قَطُ؟ هل مرَّ بك شدةٌ قَطُ؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤسٌ قَطُ، ولا رأيت شدةً قَطُ"، ويقول -صلى الله عليه وآله وسلم-: "قدْ أفلحَ منْ أسلمَ، ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعَه اللهُ بما آتاه" رواه الإمام مسلم-رحمه الله تعالى-فنسأله-تعالى-أن يجعلنا وإياكم والمسلمين من القانعين بما آتاهم، والشاكرين لنعمه، المعترفين بكرمه.
الخطبة الثانية
قالَ هارونُ الرشيدُ-رحمه الله-لرجلٍ: عِظْنِي، فأرادَ الرجلُ أنْ يذكِّرَه بنعمِ اللهِ عليهِ، وكان الرشيدُ قد أُتي بماءٍ ليشربَه، وقدْ أمسكَه بيدِه، فقال له: يا أميرَ المؤمنينَ! لو حُبِسَتْ عنك هذه الشربةُ ومُنِعْتَ منها، أكنتَ تفديها بملكِك؟ قال: نعم، قال: فلو شربتَها، وحُبس عنك إخراجُها أكنتَ تفديها بملكِك؟ قال: نعم. قال: فما خيرَ في مُلكٍ لا يساوي شرابًا ولا بولا؟.
وإنَّ هناك من النماذجِ العظيمةِ في تاريخِنا، ما يسلي النفسَ، ويُسعِدُ الخاطر، ويُثيرُ العَجَبَ مِنْ ناسٍ أيقنوا حقيقة النعم التي وُهِبُوها، والمِنَن التي مُنِحوها، فكانوا مِثالا في الشُكرِ، ونماذجَ في الصبر.
عروةُ بنُ الزبيرِ-رضي اللهُ عنه-لما أصابه مرضُ الآكلةِ في رجلهِ، فنصحَه الأطباءُ ببترِ قدمِه فبترت، نظرَ إليها وهي مبتورةٌ فقال: اللهُ يعلمُ أني ما مشيتُ بكِ إلى معصيةٍ، ثم مات أحبُّ أولادِه إليه في اليومِ نفسِه، فدعا الله قائلا: اللهم لك الحمدُ على ما قضيتَ، كان لي أربعةُ أطرافٍ فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ثلاثةً، وأعطيتَني أربعةً أبناءِ فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ثلاثةً، فلك الشكرُ على ما أعطيتَ، ولك الحمدُ على ما قضيتَ.
ومر ناسٌ برجلٍ يومَ معركةِ القادسيةِ بين المسلمين والفرس، وقدْ قُطعتْ يداهُ ورجلاهُ وهو يضحكُ، ويقول: [مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا].
ودخل رجلٌ على رجلٍ قدْ نزلتْ به بلوى عظيمةٌ، ومرضٌ شديدٌ، فقال له :كيف تجدُك؟ قال : أَجدُ عافيتَه أكثرَ مما ابتلاني به، وأَجدُ نعمَه عليَّ أكثرَ من أنْ أحصيَها، ثم بكى، وقال: أُسلي نفسي عن ألمِ ما بي بما وعد عليه ربي أهلَ الصبرِ، مِنْ كمالِ الأجورِ في مشهدِ يومٍ عسيرٍ.
ودخل رجلٌ على مجذومٍ، مقطوعِ اليدينِ والرجلينِ أعمى، فقال له : ألا أزوجُك امرأةً تنظفِك من هذهِ الأقذارِ؟ فبكى، ثم قال: تُزوِجُني ومُلك الدنيا وعروسُها عندي؟ فقال له: وما الذي عندَك مِنْ مُلكِ الدنيا، وأنتَ مقطوعُ اليدينِ والرجلينِ أعمى؟ فقال: رضاي عن الله-عز وجل-ورضاه عني، إذْ أبلى جوارحِي وقطعَها وأبقى لساني أذكرُه بِهِ.
والقصصُ كثيرةٌ عن أولئك العظماء الذين عرفوا حقيقةَ النعمةَ، وعظمةَ الصبرَ، وعِظَمَ الأجرِ، قال-تعالى-: [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ]، والمرادُ والقصدُ من هذا كلِه تنبيهُ الناسِ، الذين غفلوا عن شكرِ ربِهم، ونغَّصُوا حياتَهم، وأقلقوا أنفسَهم، وأرهقوا أفكارَهم، وجلبُوا الهمومَ والغمومَ إلى حياتِهم، بكثرةِ نظرِهِمْ إلى ما عندَ الآخرينَ، وتَطَلُّعِهِمْ لمَِا في أيدي غيرِهم، واعتبارِهم أنفسَهم محرومينَ أشقياءَ، مع أنَّ عندَهم مِنَ النِّعَمِ، ولديهم من المَلكاتِ والطاقاتِ، ما يجعلُهم يعيشونَ سعداءَ، ويَعُدونَ أنفسَهم أغنياءَ، و"ليس الغنى عن كثرةِ العرَضِ، ولكنَّ الغنى غنى النفسِ"؛ [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ].
اللهم اجعلنا والمسلمينَ من الشاكرينَ لنعمِك، المعترفينَ بكرمِك وجودِك، السعداءِ بما أعطيتَنا، الأغنياءِ بما وهبتَنا.[/align]
المرفقات
أنت غني ولست فقيرًا-1-5-1436هـ-ناصر بن مسفر الزهراني-الملتقى-بتصرف.doc
أنت غني ولست فقيرًا-1-5-1436هـ-ناصر بن مسفر الزهراني-الملتقى-بتصرف.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق