أنا صريح

احمد ابوبكر
1434/07/11 - 2013/05/21 14:40PM
رأيتُه وهو يُوجّه خطاباً قاسياً لذاك الرجل، وقد بدا على المُخاطَب وجوم وذهول من هول ما سمع! خاصةً وأن ذلك التقريع كان بمحضر من الناس!
فعاتبته؛ فقال لي: أنا صريح! ليس عندي شيء أخفيه! والرجل قد أخطأ في كذا وكذا، ومَنْ يستحقُ التوبيخ واجهته به!
هذا الموقف يتكرر أحياناً في بعض المجالس، وقد شاهدتُ مثله مراراً، والغالب أن من يفعله يرى نفسَه فوق مَن خاطبه!
والسؤال لذلك "الصريح": ماذا لو أن أباه، أو من له سُلطة عليه؛ واجهه بما يكره - وهو مخطئ - كما فعل بهذا المسكين؟!

كلما مرّ عليّ مثلُ هذا المواقف تداعى إلى خاطري ذلك الموقف الذي وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم، وحدثتنا عنه عائشة - رضي الله عنها -: أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: ((ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة - أو بئس أخو العشيرة -)) فلما دخل ألانَ له الكلام، فقلت له: يا رسول الله! قلتَ ما قلتَ، ثم ألنت له في القول؟ فقال: ((أي عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله من تركه - أو وَدَعه - الناسُ اتقاء فحشه))([1][1]).
بوّب عليه البخاري قائلاً: (باب المداراة مع الناس، ويُذكر عن أبي الدرداء: «إنا لنَكْشِرُ في وجوه أقوام - يعني نتبسّم -، وإن قلوبنا لتلعنهم - أي تبغضهم -»)([2][2]).

وموقف نبوي آخر؛ يجسد فيه النبي عليه الصلاة والسلام هذا الخلق الطيب، يرويه عبد الله بن أبي مليكة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُهديت له أقبية من ديباج([3][3])، مزررة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه، وعزل منها واحداً لمخرمة، فلما جاء قال: ((قد خبأتُ هذا لك)) قال أيوب: «بثوبه وأنه يريه إياه، وكان في خُلُقه شيء»([4][4]) وفي رواية: "وكان في خُلقه شدة".([5][5])
لماذا لم يواجهه بما يكره، وذاك الرجل قد آذى الناس بفُحشه؟ وهذا الآخرُ في خلقه شيء من العسر؟ ألم يكن قادراً - وهو الإمام الأعظم - أن يوبخهما ويؤدبهما؟ بلى! لكنه الخُلق العظيم! إذ ليس من المروءة ولا من الشجاعة توبيخ المخطئين ومواجهتهم بما يكرهون وهم وحدهم، فضلاً عن كونهم أمام الناس!

قال ابن مفلح: "ومَن أظهر الجميل والحسن في مقابلة القبيح ليزول الشر فليس بمنافق لكنه يستصلح ألا تسمع إلى قوله سبحانه وتعالى ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾[فصلت: 34].
فهذا اكتساب استمالة، ودفع عداوة، وإطفاء لنيران الحقائد، واستنماء الود وإصلاح العقائد، فهذا طب المودات واكتساب الرجال"([6][6]).
إن مداراة الناس فنٌّ، وفرصةٌ لكسب القلوب، وتقليل المسافات بينها، وإلا فخسارة الناس سهلةٌ يُحسنها كلُّ أحد! لا يحتاج معها المرء إلا إلى لسانٍ فاحش، وخلقٍ بذيء، أما الذي لا يقدر عليه إلا كرام الناس: فهو الصبر على أذاهم، ومحاولة كسبهم قدر المستطاع، واحتمال نَزَقهم.
قال مسلم بن قتيبة: "الدنيا: العافية، والشباب: الصحة، والمروءة: الصبر على الرجال"، فسُئل: ما الصبر على الرجال؟ فوصَفَ المداراة([7][7]).
ويقول حميد بن هلال: "أدركتُ الناسَ يَعُدّون المداراة صدقةً تخرج فيما بينهم، وكان يقال: إذا بلغك عن أخيك ما تكره فالقه بما يحب، فإنك تُقْضِمُه جمرته وهو لا يشعر"([8][8]).

في علاقاتنا الاجتماعية، وصِلاتنِا الدعوية؛ قد يَبْدر ما يوجب العتاب، أو التنبيه على الخطأ، وهذا مقبول إذا كان بقدر معقول، ويحقق المقصود من النصيحة، لكن الذي ينبغي أن يُحرص عليه: الأسلوبُ الذي يحقق المراد؛ بتصحيحِ الخطأ، وتأليفِ القلوب، وأن يغض الإنسان الطرف ما استطاع عن الهفوات، خاصة فيما لا يترتب عليه ضرر عام.

ولا بد من صحبة الناس على هذا الأساس، ولهذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ـ وهو في مكة ـ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾[الأعراف: 199].

قال القرطبي - رحمه الله -: "هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات:
فقوله: {خذ العفو} دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين.
ودخل في قوله: {وأمر بالعرف} صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار.
ودخل في قوله: {وأعرض عن الجاهلين} الحضُ على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنـزّه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة"([9][9]).

قال ابن حزم: باب العقل والراحة كلها في اطراح المبالاة بكلام الناس، واستعمال المبالاة بكلام الخالق u ([10][10]).
وليس المراد هنا أن يتعمد الإنسانُ مخالفة الناس أو يقصد إلى مخاشنتهم؛ كلا! بل المراد عدم التوقف عند بُنيّات الطريق، والكلمات العابرة، أو التقصير المعتاد في حق مثله، بل يتغاضى ويتغافل ما استطاع.

قال ابن عباس في معنى قوله: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾[الرعد: 22] أي الفحش والأذى بالسلام والمداراة([11][11]).
إن الصراحة والمواجهة التي توغر الصدور، وتفصم عرى المودة، وتزيد الإحن، وتقطع الصلات؛ صراحةٌ مذمومة، وهي إلى الحماقة أقرب، وإنما تُحمد الصراحة إذا كانت في مقابل المداهنة على حساب الدين، وبيانِ الحق، أما في شأن العلاقات والصِلات الاجتماعية؛ فالعاقل من حرص على استدامتها بالتودد إلى الناس كما سبق، يقول الحسن البصري - رحمه الله -: «التودد إلى الناس نصف العقل»([12][12]).
وقيل لعبد الملك بن مروان: ما أفدت في ملكك هذا؟ قال: مودة الرجال([13][13])،
والله الموفق.


د. عمر بن عبد الله المقبل


([1][1]) البخاري ح(6131)، مسلم ح(2591).
([2][2]) البخاري ح(6131).
قال ابن الجوزي، وقول أبي الدرداء هذا ليس فيه موافقة على محرم ولا في كلام، وإنما فيه طلاقة الوجه خاصة للمصلحة، كما في لآداب الشرعية (1/50).
([3][3]) الأقبية جمع (قَباء): ثوب يلبس فوق الثياب، أو القميص. القاموس الفقهي (ص: 295). والديباج: الحرير. وذكر ابن حجر أن هذا كان قبل نهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجالَ عن لبس الحرير. فتح الباري لابن حجر (10/ 270).
([4][4]) البخاري ح(6132) واللفظ له، مسلم ح(1058) عن المسور.
([5][5]) البخاري ح(3127).
([6][6]) الآداب الشرعية (1/ 51).
([7][7]) شعب الإيمان (11/ 45).
([8][8]) مداراة الناس لابن أبي الدنيا (ص: 48).
([9][9]) تفسير القرطبي (7/ 344) .
([10][10]) الأخلاق والسير (ص: 17).
([11][11]) إحياء علوم الدين (2/ 207).
([12][12]) مداراة الناس لابن أبي الدنيا (ص: 50).
([13][13]) أدب الدنيا والدين (ص: 181).
المشاهدات 1047 | التعليقات 0