أنا أخوك فلا تبتئس
سامي عيضه المالكي
الحمدُ للهِ الذي نزَّلَ الفرقانَ على عبدِه ليكونَ للعالمينَ نذيرًا، الذي له مُلكُ السمواتِ والأرضِ وخلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرَه تقديرًا، نحمدُه - تباركَ وتعالى - حمدًا كثيرًا، ونعوذُ بنورِ وجهِه الكريمِ من يومٍ كانَ شرُه مستطيرًا، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ شهادةً تجعلُ الظلمةَ نورًا، وأشهدُ أن سيدَنا محمدًا عبدُه المرسلُ مبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بإذنِه وسراجًا منيرًا، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى من فَازَ باتِّباعِه كثيراً، عدد أنفاسِ مخلوقاتِك شهيقًا وزفيرًا.
أما بعد: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].
أيُّها الأحبَّةُ: يفرحُ لفرحِكَ ويحزنُ لُحزنِكَ.. يَزينُهُ ما يزينُكَ، ويعيبُه ما يعيبُكَ.. ينشرُ حسناتِكَ، ويَطوي سيئاتِكَ.. ويتحمَّلُ أخطاءَك وهفواتِكَ.. إذا خدمتَه صانَكَ، وإن صحبتَه زانَكَ.. يكتمُ سِرَّكَ، ويَسترُ عيبَك.. يُخفي منكَ كلَّ قَبيحٍ ويُبدي منكَ كلَّ جميلٍ.. ويتمنى لكَ كلَّ نجاحٍ وتوفيقٍ وخيرٍ جَزيلٍ.
أعرفتم من هذا الرجل.. إنه الأخ.. أخوك؟!
أَخُوكَ الَّذِي يَحْمِيكَ فِي الغَيْبِ جَاهِدًا
وَيَسْتُرُ مَا تَأْتِي مِنَ السُّوءِ وَالقُبْحِ
وَيَنْشُرُ مَا يُرْضِيكَ فِي النَّاسِ مُعْلِنًا
وَيُغْضِي وَلا يَأْلُو مِنَ البِرِّ وَالنُّصْحِ
أيها الكرام: يقول تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ﴾ [القصص: 29].. بعدَ عشرِ سِنينَ من الغُربةِ في مَدْيَنَ، رجعَ موسى -عليه السَّلامُ- مع زوجتِه إلى مِصرَ، مُشتاقاً إلى أمِّه وأختِه وأخيه.. وهم في الطَّريقِ ﴿ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ ﴾ [القصص: 29]، وكانوا قد ضلُّوا الطريقَ، ﴿ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [القصص: 29] وكانَ قد اشتدَّ عليهم الظَّلامُ والبردُ.
مشى موسى - عليه السَّلامُ - إلى الشَّجرةِ التي على جبلِ الطُّورِ، وهو لا يعلمُ أنَّه يمشي إلى أعظمِ تكريمٍ وتتويجٍ.. مشى وهو لا يدري أنَّه يمشي ليحوزَ شرفَ وسامِ كليمِ اللهِ - تعالى -، وليفوزَ بعِزِّ النُّبوَّةِ ومجدِ الرِّسالةِ. ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 11، 14]..
ثُمَّ أراهُ اللهُ - تعالى - مُعجزتينِ عظيمتينِ وهما العصا واليدُّ وبعثَه إلى فرعونَ وقومِه، وقالَ له: ﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [القصص: 32].. عندَها تذكَّرَ موسى -عليه السَّلامُ- ذلكَ الرَّجلَ الذي قتلَه في مِصرَ؛ ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ﴾ [القصص: 33]، وتذكَّرَ تلكَ المؤامرةِ لقتلِه حتى أنجاهُ اللهُ تعالى من القومِ الظَّالمينَ، وتذكَّرَ جبروتَ وطُغيانَ فرعونَ، ومن ذا الذي يستطيعُ أن يقفَ أمامَه.
ولذلكَ لمَّا علمَ موسى - عليه السَّلامُ - أنَّ هذه المُهمةِ هي من أصعبِ المُهماتِ على الإطلاقِ، سألَ اللهَ تعالى أن يعينَه ويؤيدَه بأصدقِ وأخلصِ قوَّةٍ أرضيَّةٍ، فقال: ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ﴾ [القصص: 34]، فأجابَه اللهُ – تعالى - سؤالَه، وأقرَّه على ذلكَ: ﴿ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ﴾ [القصص: 35]، فمن يكونُ عونُكَ وذِراعُكَ في أَحلكِ الظُّروفِ وأصعبِ المُهماتِ، إن لم يكنْ أخوكَ؟!
عظُمتْ المُهمةُ وعلمَ أنَّه ليسَ لها بعدَ اللهِ تعالى إلا أخاهُ، فسألَ اللهَ تعالى الأخَ وزيراً وشريكاً، فأجابَ اللهُ دُعاهُ: ﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى ﴾ [طه: 29 - 36].
الأخُ هو عصاكَ التي تتكئُ عليها وسطَ عواصفِ العُمُرِ.. الأخُ هو سَندُكَ إذا تكالبتْ عليكَ الهمومُ وضاقَ بكَ الصَّدرُ.. أخوكَ بعدَ اللهِ تعالى هو النَّصيرُ لكَ في الحياةِ والمُعينُ.. أخوكَ هو أُنسُ الخاطرِ وسلوَّةُ القلبِ وقُرَّةُ العينِ.
أَخَاكَ أَخَاكَ إنَّ مَنْ لاَ أَخَا لَهُ ♦♦♦ كَسَاعٍ إلَى الهَيجَا بغَيرِ سِلاَحِ
لا يضيقُ ولا يغتمُّ من عندَه أخٌ كريمٌ.. ولا يحزنُ ولا يبتئسُ من عندَه أخٌ رحيمٌ.. ﴿ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [يوسف: 69]؛ فانتهى البؤسُ بمجردِ لقائه بأخيهِ.. فهو الذي في الغربةِ سيواسيه ويحميه.
الأخُ الذي إذا مدَدتَ يدكَ بخيرٍ مدَّها.. وإن رأى منك حَسنةً عدَّها.. وإن رأى منكَ سيئةً سدَّها..إذا سألتَه أعطاكَ.. وإن سكتَّ عنه ابْتَدَاكَ.. وإن نزلتَ بك نازلةٌ واساكَ.. أخوكَ الذي إذا قُلتَ صدَّقَ قولَكَ.. وإذا رأى منكَ عورةً نصحَكَ.. وإن تنازعتما في شيءٍ آثركَ.. يكونُ معكَ في النوائبِ.. ويؤثركَ في الرغائبِ.. يضرُّ نفسَه لينفعكَ.. ويُشتِّتُ شملَه ليجمعكَ.
إنَّ أخاكَ الحقَّ مَن كَانَ مَعَكَ
وَمَنْ يَضُرُّ نفسَهُ لِيَنفعَكْ
وَمَنْ إذا رَيبُ الزَّمانِ صَدَعَكَ
شَتَّتَ فيكَ شَملَهُ لِيَجمعَكْ
أخي المباركُ.. ماذا تفعل لو أخطأَ عليكَ أخوكَ يوماً من الدَّهرِ؟.. هل تُسامحُه مباشرةً أم تجعلُها جريمةً لا تُغتَفَرُ؟.
اسمع إلى هذا الموقفِ.. رجعَ موسى - عليه السَّلامُ - من ميقاتِ ربِّه ﴿ غَضْبَانَ أَسِفًا ﴾ [الأعراف: 150] بسببِ عبادةِ قومِه للعجلِ، ﴿ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ ﴾ [الأعراف: 150] الأكبرِ هارونَ وأمسكَه من لحيتِه وهو نبيٌّ من الأنبياءِ، ﴿ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ﴾ [الأعراف: 150] من الغضبِ.
فماذا كانَ موقفُ الأخِ الأكبرِ هارونَ - عليه السَّلامُ -؟: ﴿ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [طه: 94].
ذكَّره بأنَّه أخوهُ، وقَدَّمَ ذِكرَ الأمِّ على ذِكرِ الأبِ؛ لأنَّها أشفُق وأرحمُ وأرقُّ وأعطفُ، كأنَّه يقولُ له: إنَّ المقامَ مقامُ رأفةٍ.. فأنا أخوكَ.. وأخبرَه بأنَّه ليسَ مُقصِّراً ولا ظالماً، وبيَّنَ لهُ عُذرَهُ، ﴿ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ﴾ [الأعراف: 150] فكادَ أن يُقتلَ في سبيلِ النَّهيِّ عن عبادةِ العجلِ.
ثُمَّ قالَ له: ﴿ فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 150]، فشماتةُ الأعداءِ بأخيكَ الأكبرِ وكونُه من القومِ الظالمينَ، مما يُحزنُكَ ويعيبُكَ أنتَ أيضاً أيُّها الأخُ المُباركُ.
﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ﴾ [الأعراف: 154]، وتذكَّرَ ما فعلَ بأخيه، ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأعراف: 151]..فما أجملَ الأخوَّةِ في أسمى معانيها.. خِلافٌ.. فهدوءٍ.. فاعتذارٌ.. فتسامحٌ.. فدعاءٌ واستغفارٌ.
سامِحْ أخاكَ إذا خَلَطْ
مِنْهُ الإصابةَ والغَلَطْ
وتَجَافَ عن تعنيفهِ
إن زاغَ يوماً أو قَسَطْ
واعلمْ بأنَّك إِنْ طَلَبْتَ
مُهَذَّبَاً رُمْتَ الشَّطَطْ
مَنْ ذا الذي ما سَاء قَطْ
ومَنْ لَه الحُسنى فَقَطْ
أيُّها الكِرامُ: لقد قصَّ اللهُ –تعالى- علينا نبأً عظيماً.. وخبراً أليماً.. حينَ قتلَ الأخُ أخيه.. فقالَ تعالى لنبيه - صلى اللهُ عليه وسلمَ: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾ [المائدة: 27].. قصَّ عليهم قصتَه، واجعلها محفوظةً في كتابِ اللهِ تعالى ليتلوها النَّاسُ إلى يومِ القيامةِ.. وتكونُ لهم عِبرةٌ وعظةٌ وتذكرةٌ.. فكيفَ يقتلُ الأخُ أخاهُ؟.. كيفَ يُحزنُ أمَّه وأباهُ؟.. كيفَ يقتلُ من جاورَه في رَحمِ الأمِّ؟.. كيفَ يقتلُ من شاركَه الأفراحَ والهمَّ؟، ولذلكَ أصبحَ من الخاسرينَ.
ولكم أن تتخيلوا ذلكَ المشهدَ بعدَ أن أغراهُ بقتلِ أخيه الشَّيطانُ.. وهو يحملُ أخاهُ فوقَ ظهرِه، يدورُ به في الأرضِ ندمانَ.. حتى أرسلَ اللهُ تعالى إليه الغرابَ رمزَ الغُربةِ والفسقِ ﴿ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 31].
ألم تسمعوا لقولِه تعالى: ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 33 - 37].
فبدأَ بالأخِ لأنَّه كانَ في الدُّنيا هو النَّصيرُ والعضيدُ، وهو الرُّكنُ الشَّديدِ، ولكن يومَ القيامةِ يفرُّ من أخيه لأنَّ في الآخرةِ ﴿ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا ﴾ [الانفطار: 19]، وأما في الدُّنيا، فمهما كانَ نوعُ العلاقةِ بينَكما، ولكن لعلكَ إذا احتجتَ إليه، تجدُ ما يسرُّ خاطرُكَ، ويقرُّ ناظرُكَ، وإذا أعرضَ عنكَ الأصحابُ، وجدتَ أخاكَ هو ناصرُكَ، وعسى اللهُ تعالى أن يجعلَنا ممن قالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم: (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ؟ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي).
اللهم اظلنا في ظلك.. وارحمنا برحمتك.. وألف بين قلوبنا..
أقُوْلُ قَوْلِي هَذا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
♦♦ ♦♦ ♦♦
الحمد لله الولي الحميد، الفعَّال لما يُريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صاحب الخُلُق الراشد والنهج السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أيها الإخوة: من اعظم الصداقات في التاريخ: كانت بين الرسول و أبو بكر [يذهب أبو بكر للرسول ليأذن له بالهجرة فيجيبه الرسول: انتظر يا أبا بكر لعل الله يجعل لك صاحبا]. فيعرف الصديق أن الصاحب هو الرسول صلى الله عليه وسلم. فتظهر إيجابيته بتجهيز راحلتين فورا منتظرًا الإذن من رسول الله بالهجرة. ويأتي الرسول يوم الهجرة لأبي بكر يقول له: [إن الله أذن لي بالهجرة، فيقول له أبو بكر: الصحبة يا رسول الله. فقال رسول الله: الصحبة يا أبا بكر، وتقول السيدة عائشة: ما رأيت رجل يبكي من شدة الفرح كما رأيت أبو بكر] مع علمه بخطورة الهجرة ولكنه محب للحق. ويأخد أبو بكر معه كل أمواله تاركا عائلته بمكة ويهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
لكن الأخوّة ليست شعارا يرفع، ولا كلمات تردد، ولكنها عمل وفعل وتطبيق، وهي نظام حياة وتعاون وتكامل وتكافل، وهى منحة من الله لا يعطيها إلا المخلصين من عباده والأصفياء والأتقياء من أوليائه وجنده وحزبه، ولها متطلبات، فمن هذه المتطلبات:
1- سلامة الصدر، ومعناها: أن نقبل كل ما يبدر من الآخرين دون حقد أو ضغينة أو سوء نية، ونحمل تصرفاتهم على معانيها الحسنة.
كما جاء عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا" رواه البخاري.
2- تخبره بأنك تحبه في الله، وروى الترمذي في سننه من حديث المقدام بن معدي كرب- رضي الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ".
3- قضاء حاجته: كما عن عبد الله بن عباس - رضى الله عنهما - قال: قال - صلى الله عليه وسلم-: "ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد، [يعني مسجد المدينة] شهرا "صححه الألباني.
4- الدعاء له: فعن أبى الدرداء- رضى الله عنه -قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة آمين، و لك بمثل ". أخرجه مسلم.
5- التسامح والتراحم: كما قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].
6- النصيحة بالحسنى: كما قال تعالى: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 3]...
ومن حقوق الأخ على أخيه: إذا لقي الأخأخاه فليطلق وجهه عند اللقاء أي يلقاه بوجه متهلل بالبشر والتلطف والابتسام،ويبادر إلى مصافحته والسلام عليه، وأن يكثر من زيارةأخيه المسلم بين الحين والآخر،وأن يهنئه ويدخل عليه السرور في المناسبات السارة، وأن يعزيه ويسليه ويواسيه عند المصائب، وأن يؤدي له حقوق الأخوة كاملة.
♦ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ - وذكر منهم - وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ). ويكفي المتاحبين والمتآخين في الله شرفاً وفضلاً أن يكونوا تحت عرش الله يوم يخاف الناس وتكون الشمس منهم مقدار ميل.
وفي التنزيل المبارك: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
وخير مكاسب الدنيا الأخوة الصادقة، لأنه يعينك على كل شيء، مثل اليدين تغسل أحداهما الأخرى، وقديما قالوا: لا بد من أخٍ لك يواسيك أو يعطيك أو يتوجع.
أيها الأخوة الكرام: بالأخوة تذوق حلاوة الإيمان، وبالأخوة تتحقق القوة للمسلمين: " تحابوا فيما بينكم واحرصوا كل الحرص على رابطكم، فهي سر قوتكم ".
وبالأخوة نستظل تحت عرش الرحمن، وبالأخوة ننال المحبة الإلهية، كما جاء عن رب العزة في حديثه القدسي: "وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ والمتزاورين فيّ ". صححه الألباني.
واذكروا على الدوام أن اللهَ تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ... ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم صلي على محمد..
اللهم اعز الإسلام...
اللهم احفظ ولاة الأمر..
اللهم اغفرْ لنا ولإخوانِنا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا، ربنا اغفر لآبائنا وامهاتِنا، اللهمَّ حبِّبْ إلينا الإيمانَ، وزينْه في قلوبِنا، وكرِّه إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، اللهمَّ ارحمْ من كانَ منهم تحتَ الترابِ، واجعلْ فردوسَك لهم داراً.
اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلحْ لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي اٍليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كلِ شرٍّ.
اللهُم إنا نسألك عيشةً نقيةً، وميتةً سويةً، ومرَداً غير مخزٍ ولا فاضِحٍ، اللهُم اٍنا نعوذ ُبك من زوالِ نعمتِك، وتحوِّلِ عافيتك، وفُجاءةِ نِقمتك، وجميعِ سَخطك.
ربنا ظلمنا أنفسنا..
ربنا آتنا في الدنيا حسنة...
سبحان ربك رب العزة عما يصفون...
المرفقات
1635990328_up.jpg