أنا آتيه ... (توقير الكبير)

سامي بن محمد العمر
1446/04/07 - 2024/10/10 20:35PM

(أنا آتيه) في توقير الكبير

 

أما بعد:

(أنا آتيه) لأنه طيب القلب، نقي السريرة.

(أنا آتيه) لأنه جليل القدر، مستقيم السيرة.

(أنا آتيه) حيث فيوض الحكمة، ومنابع الخبرة.

(أنا آتيه) حيث دروس النظر والتأمل، والتجربة والتعقل.

 

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]

البداية مولود ضعيف، ثم شاب قوي، والنهاية شيخ ضعيف.

ما بين ضعفين: هذه هي الحياة ومراحلها..

ما بين عناية برضيعٍ لا يملك قوةً ولا حولا.. إلى العناية بشيخ كان يملك حولا وطولا.

شيخٌ خفيضُ الصوت، بطيءُ الكلام، كثيرُ التفكير، كليلُ الذاكرة، منحنيُ الظهر، مرتجفُ الأطراف، بارزُ العروق، متجعدُ الجلد، على جبينه ظلال ذكريات وأسرار.

لكنه نورانيُ الجبين، مضيءُ الشيبة، قد غلبت روحانيته على جسديته، قد أضاء له نور الشيب طريق الرحيل..

فئة تعيش بيننا، طالت أعمارُها، حتى تجرعت من هذه الدنيا حلوَها ومرَّها، وتعبَها وراحتَها، وصفوَها وكدرَها، فامتلأت جنباتها بالحكم والدروس، وفَهْم الواقع الملموس.

أيها المؤمنون:

لا عجب أن ينطلق الإسلام بسمُوِّه وعلُوِّه حاثًّا على احترام تلك الفئة وإكبارها، وتقدير وجودها وإجلالها..

ففي الحديث الحسن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله: إكرام ذي الشيبة المسلم)([1])

فله فضل السبق في الإسلام، وله الحرمة عند الله؛ حين أمر به برا ووفاء، وتعظيما وإكراما، وجعل ذلك من إجلاله هو سبحانه وتعالى.

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: قال: «جاء شيخ يريد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم-، أبطأ القوم أن يُوسِّعُوا له، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم-: ((لَيْسَ مِنا مَن لم يَرحَمْ صغيرَنا، ويُوِّقرْ كَبيرنا))([2]).

أرأيتم سمو الإسلام: إنه - بأبي هو وأمي - يقول: (صغيرنا)(كبيرنا)؛ فيضيفهم إليه وإلى هذا الدين الذي جاء به؛ ويقرر أن مخالفة ذلك خروج عن جادة الصواب، وتعريض للعقاب، لأنه سيكون: (ليس منا)؛ كناية عن تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم من الشهادة لمن هذه أفعاله وأقواله.

نعم، إن هذه الخطوطَ الحمراء في التعامل الإسلامي مع كبارِنا وتيجانِ رؤوسنا.. أمنيةُ كلِّ كبيرِ سنٍّ في بلاد الكفر، حيث تكون الكلابُ أوفى من الأقراب، وأنفعَ من الصِّحاب..

 

يفيض القلب حبا وامتنانا *** لآباء لنا بهمُ افتخارُ

إليهم ننتمي وبهم شرفُنا *** وقد عُمرت بآبائي الديارُ

وُصاةُ نبيِّنا بالشِيْبِ مِنَّا *** نوقرهم، وحُقَّ لهم وقارُ

 

أيها الشباب والأبناء:

هاكم جنان من الله في الأرض تجدونها في أب وقور وأم حنون وقريب كبير وجار مسن،، فانعموا فيها بالتزود من الأجور، والثناء والحبور... واعرفوا لهم قدرهم،، وقدموهم في المجالس والكلام، وابدؤوهم بالسلام، وأمطروا عليهم وابل المحبة والاحترام .. وكونوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم مقتدين، ولمنهجه سالكين، ولآثاره مقتفين، تُفلحوا وتسعدوا:

ففي الصحيحين أن عبد الرحمنِ بن سهل، ومحيِّصة وحُويِّصة ابني مسعود قدِموا للنبي صلى الله عليه وسلم ليخبروه بقتل اليهود لعبد الله بن سهل في خيبر، فذهب عبد الرحمن - وكان أصغرَهم - يتكلَّم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كَبِّرْ كَبِّر)) فَسَكَتَ، فتكلّما([3]).

وفيهما أيضاً عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «أَرَاني في المنام أتَسوَّك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت الأصغر منهما، فقيل لي: كبِّرْ، فدفعتُه إلى الأكبر منهما»([4]).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يُسلم الصغير على الكبير)) متفق عليه([5]).

هذه هي كرائم الأخلاق التي يدخرها المرء لنفسه.. ليجد أثرها في دنياه، ويسعد بثوابها في أُخراه..

بارك الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فيا أيها الأبناء الأعزاء ... إن شئتم درساً من دروس محمد صلى الله عليه وسلم في التوقير والاحترام تستنيرون بنوره وتسيرون في دربه، فهاكم درساً عنوانه: (أنا آتيه)

 لفتةٌ حانيةٌ منه صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الرجل الكبير ..

تروي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:

لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة - أي فاتحا لها -، ودخل المسجد، أتاه أبو بكر بأبيه - أبي قحافة - ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ". قال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، قال: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: "أَسلِم". فأسلَم([6]).

لقد عاتب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في مجيئه بأبيه الكبير، وأراد أن يكون هو الذاهب إليه توقيرا له، وأجلسه بين يديه احتراما له، ومسح على صدره توددا له..

فصلى الله على معلم الناس الخير، ورزقنا الاقتداء بسنته واتباع طريقته، والثبات على ملته.

 

اللهم..

 

 



([1]) أخرجه أبو داود (4843) وحسنه الألباني.
([2]) أخرجه الترمذي (1919) وهو في الصحيحة للألباني (2196).
([3]) البخاري (3173) ومسلم (1669).
([4]) أخرجه البخاري (246) ومسلم (2271).
([5]) أخرجه البخاري (6231) ومسلم (2160).
([6]) رواه أحمد (26956 ) وحسنه محققو المسند.  

المرفقات

1728581741_(أنا آتيه) في توقير الكبير .docx

1728581741_(أنا آتيه) في توقير الكبير .pdf

المشاهدات 1038 | التعليقات 0