أُمَّهَاتٌ عَظِيْمَاتٌ
راشد بن عبد الرحمن البداح
12 صفر 1441هـ. الحمدُ للهِ المحمودِ وحدَه، وقد رَضِيَ من أهلِ الْجنَّةِ أن قَالُوا: {الْحَمدُ لله الَّذِي صَدَقَنا وعدَه}. وأشْهدُ أَن لَا إِلَه إِلَّا هو وَحدَه لَا شريكَ لَهُ وقد نصرَ عبدَه، وَأشْهدُ أَن مُحَمَّدًا عَبدُه وَرَسُولُه وخيرُهم عندَه، صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ وعَلى آلِه وَصَحبهِ الذين صاروا جُندَه، أما بعدُ: فالبسُوا خيرَ لباسٍ:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}.
في بيوتِنا مصانعُ، لا تَصنعُ حديدًا، في بيوتِنا مطابخُ لا تَطبخُ ثرِيدًا.
في بيوتِنا صانعاتُ الرجالِ، وبانياتُ البيوتِ، ومربياتُ الأجيالِ، إنهنَّ صانعاتُ الأمجادِ، يا لَهُنَّ من ماجداتٍ ساجداتٍ، {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم: 5].
أليسَ يَرتادُ المساجدَ أطفالٌ وصبيانٌ يَشهدونَ معنا الصلواتِ؟!
بل أليسَ أئمةُ المساجدِ ومؤذنُوها شبابٌ همْ منْ إنتاجِ صانعاتِ العقولِ؟!
أليسَ طلابُ وطالباتُ الحلقاتِ والدورِ النسائيةِ إنما صَنَعَهنَّ أمهاتٌ صالحاتٌ: {قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}[النساء: 34].
بلْ مَن رَبَّى زوجاتِنا الصالحاتِ إلا أمهاتهُن المربياتُ؟!
حقًا: إنكنَّ أمهاتٌ عظيماتٌ: فوَفَقَكُنّ اللهُ وسهَّلَ لكُنَّ طُرُقَ أبوابِ الخيراتِ.
أيتامٌ ماتَ آباؤهم، فقامتْ أمهاتٌ عظيماتٌ بالُمهمتيِن: مهمةِ الأبوةِ والأمومةِ معًا.
فهذا "الزبيرُ بنُ العوامِ" فارسُ رسولِ اللهِ e الذي عَدَلَ به عمرُ t ألفًا منَ الرجالِ، يَشِبُّ في كنفِ أمهِ صفيةَ بنتِ عبدِ المطلب عمةِ رسولِ اللهِ e.
وهؤلاءِ الكَمَلةُ العظماءُ عبدُ اللهِ، وعروةُ ابنا الزبيرِ، كلُّهم ثمراتُ أمِّهم ذاتِ النطاقينِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ L.
وهذا الملكُ الصالحُ معاويةُ بنُ أبي سفيانَ أريبُ العربِ وألمعيُها، ورِثَ عنْ أمهِ هندَ بنتِ عتبةَ همةً تُجاوِزُ الثُريَّا، ولما قيلَ لها ومعاويةُ بينَ يديْها-: إنيْ أظنُ أنَّ هذا الغلامَ سيَسُودُ قومَه فقالتْ واثقةً: "ثكِلْتُه إذًا، إنْ لم يَسُدْ إلا قومَه".
وقدْ كانَ معاويةُ إذا نُوزعَ انتسبَ إلى أمهِ مُفتخِرًا: "أنا ابنُ هندَ".
وهذا سفيانُ الثوريُ الإمامُ الجليلُ، كانَ ثمرةَ أمٍ صالحةٍ غذَتْهُ بلَبانِها، وحاطتْهُ بكنَفِها، حتى صارَ إمامَ المسلمينَ، وأميرَ المؤمنينَ في الحديثِ، قالتْ لهُ أمهُ وهوَ صغيرٌ: يا بُني! اطلبِ العلمَ، وأنا أكفيكَ بمِغْزَلي([1]).
وهذا الإمامُ الثبتُ أبوْ عمروٍ الأوزاعيُ نشأَ يتيمًا في حَجْرِ أمهِ، فتنقلَتْ بهِ منْ بلدٍ إلى بلدٍ، وربَّتْه تربيةً عجَزَ عنها الملوكُ، حتى استُفتيَ وله ثلاثَ عشرةَ سنةً.
وهذا الإمامُ ربيعةُ الرأيِ كانتْ أمهُ حاملاً بهِ، ويَخرجُ أبوهُ غازياً، فما عادَ أبوهُ إلا وقدْ صارَ ذلكَ الحَملُ عالماً تُنصتُ إليهِ المحافلُ، وتَصْدرُ عنْ رأيهِ المجامعُ([2]).
وها هيَ أمُ الإمامِ مالكٍ إمامِ دارِ الهجرةِ تؤزُّه على طلبِ العلمِ، وتُلبِسهُ ثيابَ العلمِ، وتقولُ لهُ: اذهبْ إلى ربيعةَ، فتَعلَّمْ منْ أَدَبهِ قبلَ عِلمهِ([3]).
وماتَ والدُ الإمامِ الشافعيِ وهوَ رضيعٌ، فتولتْهُ أمهُ، وتنقلَتْ به من غزةَ إلى مكةَ، فربَّتهُ بين أخوالِه هنالِكَ. ولمْ يكُنْ معها ما تُعطيْ المعلمَ، فرضيَ المعلمُ أنْ يُعَلمهُ بدونِ أجرٍ، وأنْ يَخلُفَهُ في الدرسِ إذا غابَ.
وهذا إمامُ المحدثينَ البخاريُ ماتَ أبوهُ، وهو صغيٌر، فنشَأ يتيمًا في كنَفِ أمهِ، وكانتْ امرأةً عابدةً صاحبةَ كراماتٍ.
وأما الخليفةُ الراشدُ الخامسُ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، فلولا الله ثم المَحضِنُ الصالحُ الدافئُ الدافعُ إلى المَعالي، لمَا كان منهُ ما كانَ.
وقدْ بكى عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ وهو غلامٌ صغيرٌ، فأرسلَتْ إليه أمهُ، وقالتْ: ما يُبكيكَ؟ قال: ذكرتُ الموتَ! فبكتْ أمُّه خوفًا وفرحًا في آنٍ واحدٍ([4]).
وهكذا تطِيبُ الفروعُ ما طابتِ الأصولُ، وتدبَّرُوا قولَه تعالَى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}.
كانَ الطرحُ ولا يزالُ عنْ معائبِ ومثالبِ المرأةِ (المرأةُ والتبرجُ..المرأةُ والمعاكساتُ ..المرأة والإعجابُ..المرأة والأسواقُ) وقائمةٌ طويلةٌ منْ المعائبِ والمثالبِ. ولا أحدَ يُنكرُ وجودَ هذهِ الظواهرِ، ولكنَّ الذي لا نَرتضيهِ أبداً أنْ نُقدِّمَ المرأةَ من خلالِ هذه الصورةِ القاتمةِ، ونَنسَى الوجهَ المشرقَ لها.
أفلا نعلمُ أن كثيراً منْ صالحِي زمانِنا نتاجٌ لتربيةِ أمهاتٍ؟ بلْ حتى منْ انحرفَ عنْ جادةِ الصوابِ، كمْ وكمْ عاتبَتْهُ أمُّهُ أو زوجتُهُ عنْ سلوكِ طريقهِ المنحرفِ، ولَكَمْ تمنَّتْ لهُ سلوكَ طرقِ الخيرِ لو كانَ لها منْ مُجيبٍ.
إن المرأةَ هيَ التيْ قالَ فيها النبيُ e: الدنيا مَتاعٌ، وخيرُ متاعِها المرأةُ الصالحةُ " رواهُ مسلمٌ. وبعضُنا لا يَعرفُ منْ المرأةِ إلا أنها ناقصةُ عقلٍ ودينٍ، لا شيءَ غيرُه.
ألا إنَّ في نساءِ الأمةِ خيراً كثيراً، وإيماناً يصنعُ الأعاجيبَ؛ فلا نَكُنْ مُتشائمينَ وظانينَ ظنَ السَّوءِ بأننا في زمنٍ كلِّه ظلماتٌ، فنيأسَ منْ الإصلاحِ، فندخلَ تحتَ نهيِ النبيِ eحينما قال: إذا قالَ الرجلُ: هلكَ الناسُ فهو أهلكُهم. رواهُ مسلمٌ.
اللهم أصلحْنا وأصلحْ بنا. اللهم اجزْ والدِينا كما ربَّونا صِغارًا.
اللهم اجزِ زوجاتِنا عنا خيرَ الجزاءِ.
اللهم إنا نعوذُ بكَ أنْ نرجعَ على أعقابِنا أو نغيرَ دينَنا. اللهم ولا تنزِعْ عنا الإسلامَ بعدَ إذ أعطيتَناه. اللهم اجعلْنا نخشاكَ حتى كأنا نراكَ أبدًا حتى نلقاكَ، وأسعدْنا بتقواكَ، ولا تُشقِنا بمعصيتِك، وخِرْ لنا في قضائِك، وباركْ لنا في قدَرِكَ حتى لا نحبَّ تعجيلَ ما أخرتَ، ولا تأخيرَ ما عجَّلتَ.
اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنا بِدُعَائِكَ أَشْقِياء، يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ.
اللهم أرخِصْ أسعارَنا، وآمنْ ديارَنا، واحفظْ إمامَنا، ووفقْ ولاتَنا، واحرس جنودَنا، واحفظْ حدودَنا، واشفِ مرضانا، وارحمْ موتانا، واجمعْ على الهُدى شؤونَنا، واقضِ اللهم ديونَنا.
([1])تاريخ جرجان للجرجاني (ص: 492)
([2])الوافي بالوفيات (4 / 448)
([3])ترتيب المدارك وتقريب المسالك للكتاني(1 / 31) والديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون(ص9)
المرفقات
عظيـــــــــــــــــمات
عظيـــــــــــــــــمات
عظيـــــــــــــــــمات-2
عظيـــــــــــــــــمات-2