ألوية كسرى في قلب صنعاء.. أتظل خافقة؟ // أمير سعيد
احمد ابوبكر
1436/01/03 - 2014/10/27 13:30PM
[align=justify]عن حالة كتلك التي نعيشها، كتب المؤرخ البارز ابن الأثير بعد فترة طويلة من سقوط حواضر الإسلام بالشرق، سمرقند وبخارى، على أيدي المغول، في كتابه "الكامل في التاريخ"، متحسرًا: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها كارهًا لذكرها، فأنا أُقَدّم إليه رجلًا وأؤخر أخرى؛ فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا... ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا.." ثم مضى في تأريخ تلك المرحلة المؤسفة من حياة أمتنا.
وعلى منواله ننسج؛ فالحقيقة أن كثيرًا من الكتاب ـوأنا مثلهم ـ ربما شعر بالمرارة ذاتها التي شعر بها ابن الأثير، واستثقلوا الكتابة هذه المرة، لكونها في كثير من الأحيان لم تعد تجد نفعًا إلا في سبيل التأريخ والحكاية، التي لا تحتاجها الأمة كثيرًا؛ فالأخطار التي لفت المنطقة إحاطة السوار بالمعصم ليست جديدة، وليست بحاجة لطويل بيان، أو شرح واستفاضة، والعديدون استصرخوا أولى النهى والسلطة منذ سنين فلم ينتصحوا أو يفعلوا شيئًا.. على أن ما ترتب على الفجيعة في اليمن يستدعي الحديث عنها، ليس لكتابة مرثية وإنما للاستدارة لفهم ما قد حصل، وما سوف يترتب عليه..
كيف وقعت صنعاء في يد إيران؟ إنها الطريقة ذاتها التي وقعت بها بغداد أول مرة أمام المغول، وسقطت مجددًا أمام إيران وأمريكا.. شراء نافذين، وتواطؤ قادة عسكريين، بلا قتال؛ فدخول الأمريكيين والفرس لبغداد لم يستغرق ساعات اختفت فيها القوات العراقية، ومثله ما حصل في صنعاء؛ فلا تجديد في الوسائل؛ فالصفويون لا يتقنون القتال الحقيقي وإنما هم بارعون في إسقاط الدول عبر الخيانات وشراء الذمم.
وهذه الطريقة التي يتقنها الصفويون، يجيدها الغربيون أيضًا؛ فهم ما احتلوا العراق وأفغانستان وعشرات الدول في القرون الثلاثة الماضية إلا بطرق لا تمت كثيرًا للقتال بصلة، وإنما هي تكتيكات وحيل سياسية.
وإذ باتت ألوية الفرس في قلب صنعاء، وأصبحت لها اليد الطولى فيها؛ فإن من الجدير الحديث عنه الآن هو محاولة تحقيق مقاربة دقيقة للوضع على الأرض بلا تهوين ولا تهويل، وما سينجم قد عنه تاليًا؛ فلقد قادنا البعض بتفاؤل وهمي لا يستند إلى ركن شديد إلى الاعتقاد بأن كل خسائرنا وانكساراتنا هي مقدمات للانتصار، وأن علينا أن نرى الحقيقة على غير ظواهرها بل وسننها أحيانًا! وأحبطنا آخرون؛ فلم يروا في كل سواد الصورة ما يومئ إلى بريق أمل.. فخاض البعض فقالوا إن الحوثيين ما هم إلا واجهة لنظام قديم، وأن الرئيس المنحى علي عبدالله صالح عائد بحصان طروادة الحوثي، وأنه لا ينبغي المبالغة في قوة الحوثيين فهم لا يستطيعون حكم بلد باتساع اليمن وتنوعه، وهم أقلية، وأنهم سيلجؤون في النهاية إلى الانخراط في تحالفات واسعة. وفي مقابل هؤلاء، ثمة من اعتبروا أن الحرب قد وضعت أوزارها في اليمن وأن الأمر سيستتب تماماً للحوثيين في قابل الأيام.
وبين هؤلاء وأولئك تتوسط الحقيقة؛ إذ لا ينبغي مطلقًا التقليل من فداحة ما حدث في اليمن، ولا الارتكان إلى مظنة أن الانسحاب الذي اختاره الجيش والشرطة اليمنيين دونما حاجة عسكرية ملحة إليه هو تكرار لحالات (ثورية) مشابهة في دول عربية، وأن كليهما سيعودان فتيين كما كانا؛ فالحوثيون إنما اندفعوا على قاعدة عسكرية، وغزو العاصمة معززين بأسلحة ثقيلة يمتلكونها، ومنظومة إيرانية استخبارية عالية البراعة، ومال سخي يتدفق من أكثر من عاصمة إقليمية، وتوافق إقليمي ودولي، بل وانقلاب دولي في المنطقة يرسخ حكم الأقليات سواء أكانت دينية أو نخبوية أو فئوية.
وذراع إيران في اليمن أريد له أن يتوغل ويمسك بتلابيب السلطة فعلًا، فممارساته الأولية تختلف جذريًا عن مسرحيات بعض الأجنحة الثورية التي كانت طارئة في دول عربية ريثما يعاد تبديل ملابس النظم القديمة لتحكم من جديد..
لا، الحوثيون ليسوا هؤلاء الذين ستجمل بهم الأنظمة وجهها، ولا هم أولئك الذين سيجسدون حصان طروادة الذي تتكسر رأسه على باب الحصن ليمر مَن خلفه منه؛ فالذي يستولي على شركات النفط والتلفزة والبنك المركزي ومقرات الفرق العسكرية ليسوا رقاقة طارئة، وإنما أقلية جاءت لتحكم لعقود مثلما جيىء بالنصيريين على يد الفرنسيين ليفعلوا في سوريا، وتعاد لهم أزِمّة السلطة مرة أخرى بعدما أوشكت أن تسقط من بين أيديهم على يد (المستعمرين) أنفسهم!
ومثلما هم يريدون أن يستمر حكم الأقلية النصيرية في سوريا، يرغبون في أن تخضع اليمن لحكم أقلية طائفية، مثلما خضعت لبنان، وربما أكثر، ومثلما يعملون على أن تحكم الأقلية (القبطية/المسيحية) مصر في آخر المطاف.
وأما ما قد يقال عن قوة أهل اليمن وبأسهم وقبائلهم وأنفتهم؛ فنعم، هم أصل العرب، وأكثرهم حكمة، وبذلًا وأجرؤهم على القتال، ولكن الاستراتيجيات لا تبني على هذي الأماني، وإلا لم نعد نكابد تلك الفاجعة، ونتجرع سمها الزعاف، فحين توضع الجيوش والشرطة في صف أقلية ما، ويصدر كل هذا عن إرادة دولية وإقليمية، يصبح تحدي هذا أمرًا بالغ الصعوبة، فالعالم قال صراحة إن (الحوثيين هم الشرعية في اليمن!)، وعلى من أراد تغيير هذه المعادلة أن يدرك أن ما كان قبل 21 سبتمبر ليس كما بعدها؛ فالحوثيون صاروا في قلب السلطة، وسلمت لهم مفاصل الدولة، واعترف بهم إقليميًا على الفور. وهذا لا يعني انتهاء الصراع.. أبدًا.. إنما هذه نهاية تلك الجولة منه.
أيضًا، ثمة من يقول، إن ما حصل إنما كان نكاية في التجمع اليمني للإصلاح، وأنه قد أُعد له الفخ فنجا منه! وهذا لا أراه إلا استرسالًا في تحجير واسعٍ في الإرادتين الإقليمية والدولية! فقد يكون بالطبع الإصلاح مقصودًا ضمن حملة شاملة على جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، لكن كل هذا لا يعني أن القوى الإقليمية ترسم سياستها بريشة (المكايدة)، وإلا؛ فثمة أكثر من طريقة لإضعاف إخوان اليمن دون حاجة لتسليط طائفة صفوية على سنة اليمن وزيودها؛ فالتحول الاستراتيجي هائل جدًا، بل وتاريخي، ليس مقصودًا به الإخوان وحدهم أو بحد ذاتهم فقط، وإنما كان الإخوان عقبة كبيرة في سبيله فأزيحوا منه، ليبدأ تنفيذ مشروع امبراطوري جديد..
فالذين يعولون على استحالة حكم الحوثيين لليمن، ربما كانوا مغرقين في (تفاؤل متوهم) لا يستند إلى أسس حقيقية ولا تجربة واقعية؛ فالأقليات عندما تحكم قد تتمكن من إحكام قبضتها على الدول من خلال نشر العدل وفرض الأمن وإقامة النماذج العليا للحكم مثلما فعل المسلمون الأوائل في بلاد فتحوها لم يكونوا يمثلون فيها إلا الأقلية، وكانت غارقة في الظلم والجهالة والاضطهاد فأسلمت قيادها لحكم إسلامي عادل.
أو..
قد تبسط الأقليات سطوتها بقوة القهر والتسلط والإرهاب مثلما فعلت النظم الطائفية والصليبية في مناطق المسلمين، ومثلما تحكم النظم الشمولية الاستبدادية بعد مرحلة ما عرف كذبًا بالاستقلال في العالم العربي، ومثلما يعاد إنتاجه مجددًا في عدد من الدول التي رغبت بالحرية والعدل فديست إراداتها تحت جنازير الدبابات.
الحالة الحوثية من النوع الثاني بالطبع، وهي قد تبدأ بمد يد (السلام) لبعض القوى لحين إحكام قبضتها بالكامل على اليمن، وحينها ستلجأ إلى القمع السافر.
لكن في المقابل؛ فإن الصورة ليست هكذا سوداء بالضرورة؛ فإنما كان الرد السابق قطعًا على فكرة (استحالة حكم الحوثيين لليمن)، أما صعوبتها فأمر آخر؛ فإذا كان الوسط الزيدي بأكثريته في الشمال قد تراه الحركة مجالًا ممكنًا للاختراق والاستقطاب -وهو ما لا يمكن التسليم به هكذا جملة واحدة، للاختلاف الجذري بين الزيدية والجارودية- عبر آليات التقية والخداع وشراء الذمم؛ فإن الجنوب السني بمعظمه ليس كذلك. ولئن كان ممكنًا الاعتماد على سياسة التهميش التي يعتقد كثير من الجنوبيين أنها مورست ضدهم من قبل حكومة صنعاء ما بعد الوحدة في التمكين للحوثيين، وقوة علاقتهم بأدوات روسيا التي لم تزل نافذة في الجنوب؛ فإن الحاضنة السنية يمكن أن تفجر في وجه الحوثيين مقاومة، لاسيما مع اتضاح الطبيعة الاحتلالية الصفوية لليمن، والجرائم التي ينفذها الحوثيون والتي قد تتزايد مع نشوة الغلبة وحسم الأمور لصالحهم.
يضاف إلى هذا، أن التحدي الذي فرض على أهل السنة هو فرصة في حد ذاته لوحدتهم وانطلاقتهم، وأن الأزمة قد تطلق العنان لاقتراب القوى المناوئة للتمدد الإيراني في اليمن، وهو ما يبدو أن مؤشراته بدأت تظهر، مؤذنة بذهاب حال الصدمة والذهول إلى بدء التحدي والمناهضة، كذلك؛ فإن هذا قد يدفع قوى إقليمية تريد أن تحقق توازنًا افتقد في الصراع إلى إبقاء اليمن ضمن دائرة سوريا، المراوحة بين هذه القوى وتلك، والأخطر لدى الحوثيين أنهم قد يعانون تحمل تبعات دولة فاشلة ضعيفة أنهكت الصراعات اقتصادها، بما يقوي المعارضة ويضعف السلطة الحوثية التي قد تجابه خلافات داخل أروقة السلطة ذاتها فضلًا عما هو تقليدي خارجها.
لدى إيران إحساس غامر بالانتصار، والنجاح في تنفيذ مخططهم للاقتراب من أماكن المسلمين المقدسة، مكة والمدينة عبر احتلال شمال اليمن، وليس سرًا أن هذا سقف طموحهم، ليس الآن فقط، ولكن قبل خمسمائة عام، حينما تحالفت الصفوية مع البرتغاليين وحاولوا احتلال عدن وتطويق البلاد الإسلامية، والإشراف على مضيق باب المندب.. هكذا أيضًا رغبت الامبراطورية البريطانية أن تستولي على عدن لتأمين الفحم لـ (مستعمراتها)، وتحالفت مع فارس كذلك؛ فالدول الغربية راغبة في الاستيلاء على المناطق الاستراتيجية، والصفويون لديهم رغبة عارمة في الاستيلاء على المدينتين المقدستين للمسلمين، وتتلاقى منذ قرون هاتان الإرادتان، يعززهما اكتشافات هائلة للنفط في منطقتي بحر العرب والقرن الإفريقي، لاسيما قبالة شواطئ الصومال.. إيران يجب أن تكون هناك أيضًا مثلما هي موجودة طبيعياً في الخليج العربي ومهيمنة عليه.
القادم إذن ليس هينًا، وإرهاصاته مزعجة، وإذا كانت إيران ليست بهذا الحمق للاسترسال في مخططها القديم قبل أن تستتب الأمور للحوثيين، ومع إدراكها لوجود لاعبين ليسوا غائبين تمامًا في المنطقة، ولم يزل لديهم نفوذ داخل اليمن، ويمكنهم تحريك بعض البيادق لو أرادوا، وقد تجد بعض القوى والدول فرصة لها في استنزاف الإيرانيين.. لكن مع هذا؛ فإنه يمكن النظر للمسألة من زاوية أخرى، هي زاوية الفوضى التي تعم المنطقة، وارتباك الاستراتيجيات الدفاعية والهجومية لدول كثيرة إقليميًا ودوليًا، بما يمكنه أن يحرق المرحلة ويختصر الزمن، مضيًا في طريق المرحلة الأولى من تقويض الأمة الإسلامية.. السنية.
هذا، في تقدير السياسات الرسمية، لكن ثمة لاعب غائب في حلبة الصراع، هو ذلك المخزون السني الشعبي الذي يرقب في المنطقة كلها هذا الحراك، والاحتشاد ضد السنة؛ فيومًا بعد يوم يزداد رصيد الوعي والتجييش القسري ضد هذه القوى الاحتلالية المفروضة، بما لا يمكن تقدير موعد ولا حجم انفجاره، ولا اتجاهاته.
من الصائب جدًا، الانتظار لتأمل المشهد وتطوراته، لكن لا يبدو أن القدر سيمهلنا أن نبقى (سنين) معرضين عن ذكر هذه الحادثة مثلما تمهل ابن الأثير، فتسارع الأحداث هذه المرة لا يمنحنا هامشًا واسعًا للتأمل والإعراض.. بل والكراهية والحزن أيضًا!
[/align]
وعلى منواله ننسج؛ فالحقيقة أن كثيرًا من الكتاب ـوأنا مثلهم ـ ربما شعر بالمرارة ذاتها التي شعر بها ابن الأثير، واستثقلوا الكتابة هذه المرة، لكونها في كثير من الأحيان لم تعد تجد نفعًا إلا في سبيل التأريخ والحكاية، التي لا تحتاجها الأمة كثيرًا؛ فالأخطار التي لفت المنطقة إحاطة السوار بالمعصم ليست جديدة، وليست بحاجة لطويل بيان، أو شرح واستفاضة، والعديدون استصرخوا أولى النهى والسلطة منذ سنين فلم ينتصحوا أو يفعلوا شيئًا.. على أن ما ترتب على الفجيعة في اليمن يستدعي الحديث عنها، ليس لكتابة مرثية وإنما للاستدارة لفهم ما قد حصل، وما سوف يترتب عليه..
كيف وقعت صنعاء في يد إيران؟ إنها الطريقة ذاتها التي وقعت بها بغداد أول مرة أمام المغول، وسقطت مجددًا أمام إيران وأمريكا.. شراء نافذين، وتواطؤ قادة عسكريين، بلا قتال؛ فدخول الأمريكيين والفرس لبغداد لم يستغرق ساعات اختفت فيها القوات العراقية، ومثله ما حصل في صنعاء؛ فلا تجديد في الوسائل؛ فالصفويون لا يتقنون القتال الحقيقي وإنما هم بارعون في إسقاط الدول عبر الخيانات وشراء الذمم.
وهذه الطريقة التي يتقنها الصفويون، يجيدها الغربيون أيضًا؛ فهم ما احتلوا العراق وأفغانستان وعشرات الدول في القرون الثلاثة الماضية إلا بطرق لا تمت كثيرًا للقتال بصلة، وإنما هي تكتيكات وحيل سياسية.
وإذ باتت ألوية الفرس في قلب صنعاء، وأصبحت لها اليد الطولى فيها؛ فإن من الجدير الحديث عنه الآن هو محاولة تحقيق مقاربة دقيقة للوضع على الأرض بلا تهوين ولا تهويل، وما سينجم قد عنه تاليًا؛ فلقد قادنا البعض بتفاؤل وهمي لا يستند إلى ركن شديد إلى الاعتقاد بأن كل خسائرنا وانكساراتنا هي مقدمات للانتصار، وأن علينا أن نرى الحقيقة على غير ظواهرها بل وسننها أحيانًا! وأحبطنا آخرون؛ فلم يروا في كل سواد الصورة ما يومئ إلى بريق أمل.. فخاض البعض فقالوا إن الحوثيين ما هم إلا واجهة لنظام قديم، وأن الرئيس المنحى علي عبدالله صالح عائد بحصان طروادة الحوثي، وأنه لا ينبغي المبالغة في قوة الحوثيين فهم لا يستطيعون حكم بلد باتساع اليمن وتنوعه، وهم أقلية، وأنهم سيلجؤون في النهاية إلى الانخراط في تحالفات واسعة. وفي مقابل هؤلاء، ثمة من اعتبروا أن الحرب قد وضعت أوزارها في اليمن وأن الأمر سيستتب تماماً للحوثيين في قابل الأيام.
وبين هؤلاء وأولئك تتوسط الحقيقة؛ إذ لا ينبغي مطلقًا التقليل من فداحة ما حدث في اليمن، ولا الارتكان إلى مظنة أن الانسحاب الذي اختاره الجيش والشرطة اليمنيين دونما حاجة عسكرية ملحة إليه هو تكرار لحالات (ثورية) مشابهة في دول عربية، وأن كليهما سيعودان فتيين كما كانا؛ فالحوثيون إنما اندفعوا على قاعدة عسكرية، وغزو العاصمة معززين بأسلحة ثقيلة يمتلكونها، ومنظومة إيرانية استخبارية عالية البراعة، ومال سخي يتدفق من أكثر من عاصمة إقليمية، وتوافق إقليمي ودولي، بل وانقلاب دولي في المنطقة يرسخ حكم الأقليات سواء أكانت دينية أو نخبوية أو فئوية.
وذراع إيران في اليمن أريد له أن يتوغل ويمسك بتلابيب السلطة فعلًا، فممارساته الأولية تختلف جذريًا عن مسرحيات بعض الأجنحة الثورية التي كانت طارئة في دول عربية ريثما يعاد تبديل ملابس النظم القديمة لتحكم من جديد..
لا، الحوثيون ليسوا هؤلاء الذين ستجمل بهم الأنظمة وجهها، ولا هم أولئك الذين سيجسدون حصان طروادة الذي تتكسر رأسه على باب الحصن ليمر مَن خلفه منه؛ فالذي يستولي على شركات النفط والتلفزة والبنك المركزي ومقرات الفرق العسكرية ليسوا رقاقة طارئة، وإنما أقلية جاءت لتحكم لعقود مثلما جيىء بالنصيريين على يد الفرنسيين ليفعلوا في سوريا، وتعاد لهم أزِمّة السلطة مرة أخرى بعدما أوشكت أن تسقط من بين أيديهم على يد (المستعمرين) أنفسهم!
ومثلما هم يريدون أن يستمر حكم الأقلية النصيرية في سوريا، يرغبون في أن تخضع اليمن لحكم أقلية طائفية، مثلما خضعت لبنان، وربما أكثر، ومثلما يعملون على أن تحكم الأقلية (القبطية/المسيحية) مصر في آخر المطاف.
وأما ما قد يقال عن قوة أهل اليمن وبأسهم وقبائلهم وأنفتهم؛ فنعم، هم أصل العرب، وأكثرهم حكمة، وبذلًا وأجرؤهم على القتال، ولكن الاستراتيجيات لا تبني على هذي الأماني، وإلا لم نعد نكابد تلك الفاجعة، ونتجرع سمها الزعاف، فحين توضع الجيوش والشرطة في صف أقلية ما، ويصدر كل هذا عن إرادة دولية وإقليمية، يصبح تحدي هذا أمرًا بالغ الصعوبة، فالعالم قال صراحة إن (الحوثيين هم الشرعية في اليمن!)، وعلى من أراد تغيير هذه المعادلة أن يدرك أن ما كان قبل 21 سبتمبر ليس كما بعدها؛ فالحوثيون صاروا في قلب السلطة، وسلمت لهم مفاصل الدولة، واعترف بهم إقليميًا على الفور. وهذا لا يعني انتهاء الصراع.. أبدًا.. إنما هذه نهاية تلك الجولة منه.
أيضًا، ثمة من يقول، إن ما حصل إنما كان نكاية في التجمع اليمني للإصلاح، وأنه قد أُعد له الفخ فنجا منه! وهذا لا أراه إلا استرسالًا في تحجير واسعٍ في الإرادتين الإقليمية والدولية! فقد يكون بالطبع الإصلاح مقصودًا ضمن حملة شاملة على جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، لكن كل هذا لا يعني أن القوى الإقليمية ترسم سياستها بريشة (المكايدة)، وإلا؛ فثمة أكثر من طريقة لإضعاف إخوان اليمن دون حاجة لتسليط طائفة صفوية على سنة اليمن وزيودها؛ فالتحول الاستراتيجي هائل جدًا، بل وتاريخي، ليس مقصودًا به الإخوان وحدهم أو بحد ذاتهم فقط، وإنما كان الإخوان عقبة كبيرة في سبيله فأزيحوا منه، ليبدأ تنفيذ مشروع امبراطوري جديد..
فالذين يعولون على استحالة حكم الحوثيين لليمن، ربما كانوا مغرقين في (تفاؤل متوهم) لا يستند إلى أسس حقيقية ولا تجربة واقعية؛ فالأقليات عندما تحكم قد تتمكن من إحكام قبضتها على الدول من خلال نشر العدل وفرض الأمن وإقامة النماذج العليا للحكم مثلما فعل المسلمون الأوائل في بلاد فتحوها لم يكونوا يمثلون فيها إلا الأقلية، وكانت غارقة في الظلم والجهالة والاضطهاد فأسلمت قيادها لحكم إسلامي عادل.
أو..
قد تبسط الأقليات سطوتها بقوة القهر والتسلط والإرهاب مثلما فعلت النظم الطائفية والصليبية في مناطق المسلمين، ومثلما تحكم النظم الشمولية الاستبدادية بعد مرحلة ما عرف كذبًا بالاستقلال في العالم العربي، ومثلما يعاد إنتاجه مجددًا في عدد من الدول التي رغبت بالحرية والعدل فديست إراداتها تحت جنازير الدبابات.
الحالة الحوثية من النوع الثاني بالطبع، وهي قد تبدأ بمد يد (السلام) لبعض القوى لحين إحكام قبضتها بالكامل على اليمن، وحينها ستلجأ إلى القمع السافر.
لكن في المقابل؛ فإن الصورة ليست هكذا سوداء بالضرورة؛ فإنما كان الرد السابق قطعًا على فكرة (استحالة حكم الحوثيين لليمن)، أما صعوبتها فأمر آخر؛ فإذا كان الوسط الزيدي بأكثريته في الشمال قد تراه الحركة مجالًا ممكنًا للاختراق والاستقطاب -وهو ما لا يمكن التسليم به هكذا جملة واحدة، للاختلاف الجذري بين الزيدية والجارودية- عبر آليات التقية والخداع وشراء الذمم؛ فإن الجنوب السني بمعظمه ليس كذلك. ولئن كان ممكنًا الاعتماد على سياسة التهميش التي يعتقد كثير من الجنوبيين أنها مورست ضدهم من قبل حكومة صنعاء ما بعد الوحدة في التمكين للحوثيين، وقوة علاقتهم بأدوات روسيا التي لم تزل نافذة في الجنوب؛ فإن الحاضنة السنية يمكن أن تفجر في وجه الحوثيين مقاومة، لاسيما مع اتضاح الطبيعة الاحتلالية الصفوية لليمن، والجرائم التي ينفذها الحوثيون والتي قد تتزايد مع نشوة الغلبة وحسم الأمور لصالحهم.
يضاف إلى هذا، أن التحدي الذي فرض على أهل السنة هو فرصة في حد ذاته لوحدتهم وانطلاقتهم، وأن الأزمة قد تطلق العنان لاقتراب القوى المناوئة للتمدد الإيراني في اليمن، وهو ما يبدو أن مؤشراته بدأت تظهر، مؤذنة بذهاب حال الصدمة والذهول إلى بدء التحدي والمناهضة، كذلك؛ فإن هذا قد يدفع قوى إقليمية تريد أن تحقق توازنًا افتقد في الصراع إلى إبقاء اليمن ضمن دائرة سوريا، المراوحة بين هذه القوى وتلك، والأخطر لدى الحوثيين أنهم قد يعانون تحمل تبعات دولة فاشلة ضعيفة أنهكت الصراعات اقتصادها، بما يقوي المعارضة ويضعف السلطة الحوثية التي قد تجابه خلافات داخل أروقة السلطة ذاتها فضلًا عما هو تقليدي خارجها.
لدى إيران إحساس غامر بالانتصار، والنجاح في تنفيذ مخططهم للاقتراب من أماكن المسلمين المقدسة، مكة والمدينة عبر احتلال شمال اليمن، وليس سرًا أن هذا سقف طموحهم، ليس الآن فقط، ولكن قبل خمسمائة عام، حينما تحالفت الصفوية مع البرتغاليين وحاولوا احتلال عدن وتطويق البلاد الإسلامية، والإشراف على مضيق باب المندب.. هكذا أيضًا رغبت الامبراطورية البريطانية أن تستولي على عدن لتأمين الفحم لـ (مستعمراتها)، وتحالفت مع فارس كذلك؛ فالدول الغربية راغبة في الاستيلاء على المناطق الاستراتيجية، والصفويون لديهم رغبة عارمة في الاستيلاء على المدينتين المقدستين للمسلمين، وتتلاقى منذ قرون هاتان الإرادتان، يعززهما اكتشافات هائلة للنفط في منطقتي بحر العرب والقرن الإفريقي، لاسيما قبالة شواطئ الصومال.. إيران يجب أن تكون هناك أيضًا مثلما هي موجودة طبيعياً في الخليج العربي ومهيمنة عليه.
القادم إذن ليس هينًا، وإرهاصاته مزعجة، وإذا كانت إيران ليست بهذا الحمق للاسترسال في مخططها القديم قبل أن تستتب الأمور للحوثيين، ومع إدراكها لوجود لاعبين ليسوا غائبين تمامًا في المنطقة، ولم يزل لديهم نفوذ داخل اليمن، ويمكنهم تحريك بعض البيادق لو أرادوا، وقد تجد بعض القوى والدول فرصة لها في استنزاف الإيرانيين.. لكن مع هذا؛ فإنه يمكن النظر للمسألة من زاوية أخرى، هي زاوية الفوضى التي تعم المنطقة، وارتباك الاستراتيجيات الدفاعية والهجومية لدول كثيرة إقليميًا ودوليًا، بما يمكنه أن يحرق المرحلة ويختصر الزمن، مضيًا في طريق المرحلة الأولى من تقويض الأمة الإسلامية.. السنية.
هذا، في تقدير السياسات الرسمية، لكن ثمة لاعب غائب في حلبة الصراع، هو ذلك المخزون السني الشعبي الذي يرقب في المنطقة كلها هذا الحراك، والاحتشاد ضد السنة؛ فيومًا بعد يوم يزداد رصيد الوعي والتجييش القسري ضد هذه القوى الاحتلالية المفروضة، بما لا يمكن تقدير موعد ولا حجم انفجاره، ولا اتجاهاته.
من الصائب جدًا، الانتظار لتأمل المشهد وتطوراته، لكن لا يبدو أن القدر سيمهلنا أن نبقى (سنين) معرضين عن ذكر هذه الحادثة مثلما تمهل ابن الأثير، فتسارع الأحداث هذه المرة لا يمنحنا هامشًا واسعًا للتأمل والإعراض.. بل والكراهية والحزن أيضًا!
[/align]