ألم يعلم بأن الله يرى

د. محمود بن أحمد الدوسري
1442/08/04 - 2021/03/17 08:43AM

ألمْ يعلمْ بأنَّ اللهَ يرى

      د. محمود بن أحمد الدوسري     

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد: البَصَرُ من أعظم نِعَمِ الله على الإنسان, هاتان العَينان الجَمِيلتان, الدَّقِيقتان في تركيبهما وقُدرتهما على الإبصار, وما أودَعَ اللهُ فيهما من دلائل العظمة؛ جاء ذِكْرُهما والتَّذكِيرُ بهما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد: 8].

وفي ذلك بيانٌ بأن الله تعالى يعلم كلَّ صغيرة وكبيرة, فلا تخفى عليه خافية,  وهو الذي مَنَحَ الإنسانَ البصر, فكيف يغفل عن مراقبة الديَّان: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد: 7]؛ {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]. أَيْ: يَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالِهِ، فَيُجَازِيهِ بِهَا، فَكَيْفَ اجْتَرَأَ عَلَى مَا اجْتَرَأَ عَلَيْهِ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ - هنا - لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] قَالَ: (الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ فَتَمُرُّ بِهِمُ المرأة؛ فَيُرِيهِمْ أَنَّهُ يَغُضُّ بَصَرَهُ عَنْهَا, وَإِذَا غَفِلُوا لَحَظَ إِلَيْهَا, وَإِذَا نَظَرُوا غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا، وَقَدِ اطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ وَدَّ أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى عَوْرَتِهَا). ومن أجل ذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ». فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا. فَقَالَ: «إِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ». قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ, وَكَفُّ الأَذَى...» متفق عليه.

       ولِخَطَرِ العين - أمَرَ اللهُ المؤمنين والمؤمنات أنْ يَغُضُّوا من أبصارهم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 30, 31]. وتأمَّلْ كيف قَرَنَ الأمرَ بِغَضِّ البصر بِحِفْظِ الفَرْج؛ لأنَّ حِفْظَ البَصَرِ أصلٌ في حِفْظِ الفرج, وأزكى للقلب, وأطهر للنفس, وإطلاقُه يَجُرُّ إلى كوارِثَ جَمَّة.

وتأمَّلْ كيف أمَرَ اللهُ النساءَ بعدم إبداء الزينة؛ لخطورته على الرجال؛ كما في قوله صلى الله  عليه وسلم: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» رواه البخاري. قال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه: (حِفْظُ البصرِ أشدُّ من حِفْظِ اللِّسان). وقال طاووس - رحمه الله - عند قوله تعالى {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]: (إذا نَظَرَ إلى النساء لم يَصْبِر). فمَنْ سَرَّحَ ناظِرَه أتعَبَ خاطِرَه, ومَنْ كَثُرتْ لَحَظاتُه؛ دامَتْ حسراتُه, وضاعتْ عليه أوقاتُه, وفاضَتْ عَبَراتُه.

قال ابن القيم - رحمه الله: (وَالنَّظَرُ أَصْلُ عَامَّةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ؛ فإنَّ النَّظْرَةَ تُوَلِّدُ خَطْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الْخَطْرَةُ فِكْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الْفِكْرَةُ شَهْوَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الشَّهْوَةُ إِرَادَةً، ثُمَّ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جَازِمَةً، فَيَقَعُ الْفِعْلُ وَلَا بُدَّ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَفِي هَذَا قِيلَ: الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ أَيْسَرُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمِ مَا بَعْدَهُ).

كُــلُّ الْحَــوَادِثِ مَــبْدَاهَا مِــنَ النَّــظَرِ ... وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُـسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ

كَمْ نَظْرَةٌ بَلَغَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا ... كــــَمَـــبْلَغِ الـــــسَّهْمِ بَـيْنَ الْقَــــوْسِ وَالْــوَتَرِ

وَالْـــمَــرْءُ مَــا دَامَ ذَا عَـــيْــنٍ يُــــقَلّـــِبُـهُا ... فِي أَعْيُنِ الْغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْخَطَرِ

يَـــسُرُّ مُــــقْــلَــتَهُ مَا ضَــرَّ مُــهــْجَــتَــهُ ... لَا مَــــــرْحَــــبًا بِــــسُــرُورٍ عَـــادَ بِــالـــضَّــــرَرِ

عباد الله .. من أعظم الوسائل المُعِينة على غَضِّ البصر: الاستعانة بالله تعالى, «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» صحيح - رواه الترمذي. واستحضار مراقبة الله تعالى؛ لأنَّ ذلك يجعل العبدَ يستحيي أن يعصي اللهَ بِنِعَمِه. ومما يُعين: الزواج أو الصيام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ, وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ, وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» متفق عليه.

ومن الوسائل المُعِينة: التَّعرُّف على مفاسدِ إطلاق البصر, والشرورِ التي يجنيها العبدُ من إطلاق بصره. واستحضارُ مشاهِدِ يوم القيامة؛ بدءًا من مجيئ مَلَكِ الموت.. وانتهاءً بدخول الجنة أو النار. ومصاحبةُ الأخيار, وتركُ صُحبةِ الأشرار؛ فإنَّ الرجل على دِينِ خليله. وكثرةُ النظر في المصحف, مع مُلازمَةِ ذِكْرِ الله تعالى؛ فإنَّ ذلك يُعِين على غض البصر.

ومما يُعين: الابتعاد عن الأماكن التي تَمُرُّ منها النساء؛ لأن ذلك فيه استشرافٌ للفتنة. والمَيْلُ الفِطري الغَرِيزي بين الرجل والمرأة لا ينتهي أبداً, ومِنْ ثَمَّ فإن الشيطان يُزَيِّنُ ذلك, ويدفع العبدَ باتِّجاه أسباب الفِتنة خُطوةً خُطوة وهو لا يشعر, وقد حَذَّرَ اللهُ المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21]. ومِثْلُ ذلك يُقال في مُشاهَدَةِ النساء عن طريق الشاشات ومُختلَفِ وسائلِ الإعلام.

ومن الوسائل المُعينة: تجديدُ التوبة من النَّظَرِ المُحرَّم, واستحضارُ ما أعدَّه الله تعالى للمؤمنين في الجنة من الاستمتاع بالحُور العِين؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ؛ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا, وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا, وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» رواه البخاري.

الخطبة الثانية

الحمد لله ... عباد الله .. من أعظم فوائد غَضِّ البصر: أنه سببٌ لمرضاة تعالى ونَيلِ كرامته, والفوزِ بجنته, والتلذُّذِ برؤية وجهه الكريم؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» حسن - رواه أحمد. وغض البصر مَهْرٌ للحور العين.

ومن فوائده: أنه امتثال لأمر الله تعالى - الذي هو غايةُ سعادةِ العبد في مَعاشِه ومَعادِه, وما سَعِدَ مَنْ سَعِد إلاَّ بامتثال أوامر ربِّه, وما شَقِيَ مَنْ شَقيَ إلاَّ بتضييع أوامره. وغَضُّ البصرِ يُورِثُ القلبَ أُنساً باللهِ واجتماعاً عليه, ويُقوِّي القلبَ ويُفرحه, ويُلبِسُه نوراً. وإطلاقُ البصرِ يُفَرِّقُ القلبَ ويُشَتِّتُه, ويُضْعِفُه ويُحْزِنُه, ويُلبِسُه ظُلْمَة, ويُبْعِدُه عن الله تعالى.

ومن فوائده: أنه يُذِيقُ العبدَ حلاوةَ الإيمان؛ فمَنْ ترك شيئاً لله عوَّضَه خيراً منه؛ فإذا غَضَّ بصرَه عن الحرام؛ عوَّضَه بإطلاق نُورَ بَصيرتِه - عِوَضاً عن حبس بصره لله. وأورثه فراسةً صادِقَةً يُميِّز بها بين الحقِّ والباطل, وأورَثَ قلبَه ثباتاً وشجاعةً وقوَّة.

ومن فوائده: أنه يَسُدُّ على الشيطان مَداخِلَه من القلب, فإنه يدخل مع النَّظْرة, ويَنْفُذ معها إلى القلب. وغَضُّ البصر يُفرِّغ القلبَ للتفكر في مصالحِه والاشتغالِ بها, وإطلاقُ البصرِ يُنْسِيه ذلك, ويُوقِعُه في اتِّباعِ هواه, والغَفْلةِ عن ذِكْرِ ربِّه.

وغَضُّ البصر فيه راحةٌ للنفس والبدن, وفيه صيانةٌ للمجتمع من انتشار الزنا؛ بل يجعل المُجتمعَ - المُتَحلِّي بهذه الصِّفة - مُجتمعاً آمِناً مُتحابًّا. ويُنجِّي العبدَ من الوقوع في الزَّلَل, ويَسْتجْلِب العِفَّة, ويَحفَظُ على الإنسان نِعْمَةَ البصر؛ «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ».

المرفقات

1615970599_ألم يعلم بأن الله يرى.docx

المشاهدات 1024 | التعليقات 0