ألمُ العافية

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/04/14 - 2024/10/17 10:36AM

ألمُ العافية

 


الحمدُ للهِ، الذي بيّنَ طريقَهُ أتمَّ بيانٍ، وأظهرَ حجتَهُ على الثقلانِ، وأمرَنا بالاستقامةِ على صراطهِ، ونهانا عن اتباعِ خطواتِ الشيطانِ.

والصلاةُ والسلامُ، على الذي جعلَنا على المحجةِ البيضاءِ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.

أوصيكم أيها الإخوةُ ونفسي بتقوى اللهِ، فهي سبيلُكم إلى الفلاحِ، يقولُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٣٥].

وبعد:

أيها الناس: التخلصُ من الآلامِ عملٌ رشيدٌ، وأحدُ مظاهرِ القوةِ التي يجبُ علينا التحلي بها في معتركِ الحياةِ؛ حتى نمضي فيها قُدُمًا غيرَ حزينين.

إلا أنَّ هناك ألمًا يلزمنُا الحفاظَ عليه لا التخلصَ منه؛ لأنه الألمُ الوحيدُ الذي يدلُّ على أننا في عافيةٍ، وليس غيرَ العافيةِ كما هو الحالُ مع بقيةِ الآلامِ، ألا وهو ألمُ وخز الضميرِ.

فالضميرُ الحيُّ رغمَ عذاباتهِ، هو صوتُ النقدِ في داخلنا، الذي يدفعُنا للتخلصِ من عيوبِنا ونقائصِنا، ولو سكتَ؛ لحيلَ بيننا وبين الصورةِ الأكملِ التي ينبغي أن نكونَ عليها.

وهو السوطُ، الذي بانهمارِ لسعاتهِ علينا، سيجعلُنا نمضي قُدمًا في مضمارِ النجاحِ والتنافسِ، ويمنعُ نفوسَنا من الحرونِ والقعودِ عن السباقِ.

وهو الندمُ، الذي يعتصرُ قلوبَنا على ما فرطنَا في جنبِ اللهِ، فيفضي بنا إلى رحابِ محبتِه بالتوبةِ والإنابةِ. قال صلى الله عليهِ وسلم: "الندمُ توبةٌ".

وهو الحالةُ الإنسانيةُ، التي تظهرُ فيها إرادةُ الإنسانِ واختيارهُ، وحبُّهُ للخيرِ وبغضُهُ للشرِّ، متميزًا بذلك عن سائرِ المخلوقاتِ، وهي حالةٌ عظيمةٌ؛ ولذلكَ أقسمَ اللهُ بها في كتابِه: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة: ٢].

كلُّ هذه المقاماتِ العاليةِ وغيرِها، والتي ستكونُ حياتُنا معها أسعدَ، ستفوتُ علينا إذا سعينا جاهدينَ للتخلصِ من الضميرِ وألمهِ، اعتقادًا منّا أنه مصدرُ إزعاجٍ.

ومن سبلِ التخلصِ منه؛ التبريرُ. الذي يبدأُ في أُولى خطواتهِ بحديثِنا مع الناسِ، في محاولةٍ لتجميلِ صورتِنا أمامَهم وتبريرِ خطئِنا في أعينِهم، ولأن الحديثَ مع الناسِ لا يرقى لإسكاتِ صوتِ الضميرِ في داخلِنا، فسنظلُّ مكشوفينَ أمامَ أنفسِنا، مهما تجملنا أمامَ الناسِ.

لذلكَ سينتقلُ التبريرُ خطوةً أخرى باتجاهِ الخطرِ، فيكونُ حديثًا مع أنفسِنا، فنحاولُ إقناعَها بأنَّ أخطاءَنا لها ما يبررُها، وأنها إنما صدرتْ منّا لهذا السببِ أو ذاكَ.

ويبلغُ التبريرُ مع النفسِ ذروةَ خطرِهِ، عندما نحاولُ أن نردمَ الهوةَ بينَ سلوكِنا وقناعاتِنا، ليس من جهةِ تغييرِ السلوكِ ليتوافقَ مع المبدأِ والصوابِ، بل بتغييرِ القناعاتِ نفسها لتتوافقَ مع السلوكِ الخاطئِ، فيعتقدُ المعتقدُ عندئذٍ أن الخطأَ صوابٌ والصوابَ خطأٌ، والحقَّ باطلٌ والباطلَ حقٌّ.

وإذا بلغَ الإنسانُ هذه المرحلةَ، في مواجهةِ ضميرهِ، يكونُ قد أفلحَ في إسكاتِهِ حدَّ الموتِ، الذي لا حياةَ بعدَه، إلا أن يشاءَ من يُحيي القلوبَ بعدَ موتِها.

والنبيُّ - عليه السلام - في إخبارِهِ عن مصيرِ القلبِ بعدَ تمادي صاحبِه في متابعةِ هوى نفسِهِ، ذكرَ هذه العلامةَ لموتِهِ، بأن ينقلبَ قلبُه؛ فتنقلبَ معهُ الحقائقُ، فيرى المعروفَ منكرًا والمنكرَ معروفًا، فقالَ: "وقلبٌ أسودُ مربادًّا كالكوزِ مجخيًّا (أي مقلوبًا) لا يعرفُ معروفًا ولا يُنكرُ منكرًا إلا ما أُشربَ من هواهُ".

وهذا أمرٌ نلمسُه في أنفسِنا، وواقعِنا ونشاهدهُ، فذاك تاجرٌ أو طالبُ مالٍ أحلَّ لنفسِهِ التعاملَ بالربا، حتى ينعمَ بالمالِ، دونَ ألمِ الضميرِ. وتلك فتاةٌ تستحلُّ كشفَ وجهِها وتجادلُ فيهِ، حتى تنعمَ بالسفورِ، دونَ ألمِ الضميرِ. وذاك راغبٌ في مجالسِ الغناءِ واللهوِ، فيحللُها حتى لا يقطعَ عليهِ ضميرهُ طربَهُ، وذاك رجلٌ يحللُ لنفسِهِ عقودًا من النكاحِ فاسدةً ومشبوهةً، حتى ينعمَ بالجنسِ وممارستهِ، دونَ ألمِ الضميرِ. وآخرُ يحللُ لنفسِهِ الشرابَ المحرمَ، حتى ينعمَ بالسكرِ، دونَ ألمِ الضميرِ، وغيرُ هذا كثيرٌ.

وهذا المسلكُ الخطيرُ _أيها الإخوةُ_ يفوّتُ على المرءِ، فضيلةَ الاعترافِ بالذنبِ والخطأِ، التي قد تكونُ سببًا لتوبةِ اللهِ عليهِ: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٠٢].

وهو مسلكٌ شيطانيٌّ، فأبليسُ حللَ لنفسِهِ المخالفةَ وبررَها، وجادلَ دونها، فكانَ ذلكَ سببًا في لعنهِ وإبعادِهِ، بخلافِ آدمَ عليهِ السلامُ، الذي اعترفَ بذنبهِ، وأقرَّ بخطيئتِهِ، فكانَ ذلكَ سببًا في توبةِ اللهِ عليهِ وقربهِ منهُ، فإياكَ أن تكونَ كإبليسَ، وكن كأبيك آدمَ، ومن شابهَ أباهُ فما ظلمَ.

ثم هو مسلكٌ يجمعُ على صاحبِهِ بين سوءِ الفعلِ، وسوءِ القولِ والمعتقدِ، وهي الحالةُ التي يصعبُ معها الرجوعُ إلى الحقِّ وتطمسُ فيها القلوبُ، وهي من حبائلِ الشيطانِ وخطواتهِ، ولذلك حذرنا اللهُ منها، فقالَ جلَّ شأنُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٦٨-١٦٩].

والأخطرُ من ذلكَ أنَّهُ مسلَكٌ يقودُ إلى كبيرةٍ من كبائرِ الذنوبِ، وهيَ القولُ على اللهِ بلا علمٍ، يقولُ تعالى: ﴿قُل إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَالإِثمَ وَالبَغيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَن تُشرِكوا بِاللَّهِ ما لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطانًا وَأَن تَقولوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعلَمونَ﴾ [الأعراف: ٣٣].

 


وما أجملَ ما سَطَّرهُ الشيخُ والأديبُ عليُّ الطنطاويُّ رحمهُ اللهُ، عندما سُئلَ عن حلقِهِ للحيتهِ، فلم يُبَرِّرْ، وهوَ القادرُ على ذلكَ لما حَبَاهُ اللهُ بهِ من براعةِ القولِ، وسِحْرِ البيانِ، بل كانَ على قدرٍ من الشجاعةِ الأدبيةِ والأخلاقيةِ، فقالَ: «أمّا حلقُ اللحيةِ فلا واللهِ لا أجمَعُ على نفسي بينَ الفعلِ السيِّئِ والقولِ السيِّئِ، ولا أكتُمُ الحقَّ لأني مُخالفُهُ، ولا أكذبُ على اللهِ ولا على الناسِ، وأنا أقرُّ على نفسي أني مخطئٌ في هذا، وأنا أسألُ اللهَ أن يُعينني على نفسي حتى أُطلِقَها».

 


أقولُ قولي هذا...

 


الخطبةُ الثانية:

وبعدُ:

أيُّها الإخوةُ الكرامُ، ويزدادُ الأمرُ سوءً عندما يَقرِّرُ مَن فَرَغَ من قتلِ ضميرِهِ أن يقتلَ ضمائرَ أخرى، بالترويجِ لأفكارِهِ والدعوةِ لها، والمجادلةِ للباطلِ وتقريرِهِ.

 


لذلكَ فكثيرًا مما نَسمعُهُ في الفضاءِ العامِ من جَدَلٍ حولَ الثوابتِ وتشكيكٍ فيها، التي تصلُ إلى حدِّ التشكيكِ في الذاتِ الإلهيةِ، وإنكارِ وجودِ اللهِ، وتحليلِ الحرامِ وتحريمِ الحلالِ، ليسَ إنتاجًا عقليًّا وتطورًا فكريًّا، بل حِيَلًا نفسيةً يحاولُ أصحابُها وَأْدَ صوتِ الضميرِ وإسكاتَهُ، حتى يَنْعَموا بعدَ ذلكَ بممارسةِ فعلِهم المشينِ، دونَ تنغيصِ عذاباتِ الضميرِ وألَمِهِ، وهو ما قد يحظَوْنَ به مؤقتًا كما قالَ اللهُ في حالِ أمثالِهم: ﴿قُل تَمَتَّع بِكُفرِكَ قَليلًا إِنَّكَ مِن أَصحابِ النّارِ﴾ [الزمر: ٨].

 


وهو منهجُ الفساقِ وسبيلُهم، وقد رصدهُ الإمامُ الغزاليُّ رحمه اللهُ، في كتابهِ "إحياءُ علومِ الدِّينِ"، وأشارَ إلى الدوافعِ النفسيةِ من ورائهِ، وهيَ الوصولُ إلى الملاذِ وهوى النفسِ، دونَ منغصاتٍ، فقالَ: "فإن الفاسقَ بأدنى شُبهةٍ ينخلعُ عن الدينِ؛ فإنَّ ذلكَ يحلُّ عنهُ الحَجْرَ ويرفعُ السدَّ بينَهُ وبينَ الملاذِ، فلا يَحرصُ على إزالةِ الشُّبهةِ، بل يَغتنمُها ليتخلَّصَ من أعباءِ التكليفِ". (الغزالي في "الإحياء" ١/٣٦٨).

 


فلنحرصْ على ضمائرِنا مهما آلمتْنا وأوجعتْنا أن يُصيبَها سهمٌ من هذهِ السِّهامِ في مَقتلٍ، أو نَعمدَ بأنفسِنا لطمسِها وقتلِها، بل نَدعْها تُؤلمُنا، ونحافظْ على هذا الألمِ؛ لأنهُ دليلُ حياتِنا وإنسانيتِنا، والذي بدونِه سنتحولُ إلى توابيتَ متحركةٍ تَحملُ بداخلِها ضمائرَ ميتة.

المشاهدات 208 | التعليقات 1

سننقل خطبك إلى صفحة ملتقى خطبة الأسبوع

ونأمل منك يا دكتور سلطان نشر خطبتك الأسبوعية في صفحة ملتقى خطبة الأسبوع

شاكرين لكم