أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ

مبارك العشوان
1436/07/11 - 2015/04/30 22:00PM

إن الحمد لله...أما بعد: فاتقوا الله... مسلمون، اتقوا الله تعالى أيها الناس، واعلموا أن خيرَ الحديث كلامُ الله وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: روى البخاري في صحيحه من حديث أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ؛ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ: أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ ). حديثٌ عظيم، جَمُّ الفوائدِ، كثيرُ العِبَر، نتأمَّلهُ؛ عسى أن يكون فيه للذاكرين ذكرى، وللغافلين تنبيها وللمعتبرين عبرا.
في هذا الحديث عباد الله: بيانُ ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه من الاجتماع للعلم، وذكرِ الله تعالى، والجلوسِ لذلك، وهذا من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه تبارك وتعالى ولهذا كان بعض السلف إذا مرَّ بأخيه قال: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً.
وقد تكاثرت النصوصُ في فضل مجالسِ العلم، وَحِلَقِ الذكر والحثِ عليها، ومدحِ أهلها؛ قال تعالى: { واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } الكهف28 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنــــْدَهُ ) رواه مسلم. وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ، قَالَ آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ، وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ ) رواه مسلم.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ؛ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ، قَالَ وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ قَالَ وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي قَالُوا لَا أَيْ رَبِّ قَالَ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي قَالُوا وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قَالَ وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ قَالَ وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا لَا، قَالَ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي قَالُوا وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قَالَ فَيَقُولُ قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ؛ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا قَالَ فَيَقُولُونَ رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ قَالَ فَيَقُولُ وَلَهُ غَفَرْتُ هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ) رواه مسلم.
فاللهَ اللهَ أخي المسلم في حلق الذكر، والحرصَ الحرصَ على مجالسِ العلم، من دروسٍ، ومحاضراتٍ، وحلقٍ للقرآن الكريم وغيرها؛ ففيها حياة القلوب واطمئنانها: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }الرعد28
قال رجل للحسن رحمه الله: أشكوا إليك قساوة قلبي، فقال: أدْنِهِ من مجالس الذكر.
ثم الحذرَ الحذرَ أخي المسلم من مجالسِ الغفلة، ومجالسةِ الغافلين؛ مجالسِ الغيبةِ والنميمةِ، مجالسِ القيل والقال، وتتبع عورات المسلمين، فعن أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ ) أخرجه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح.
احذروا عباد الله مجلسا لا يُذكر الله فيه؛ فإنه حسرة وندامة؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أخرجه أبو داود وحسنه الألباني.
جعلني الله وإياكم من الذاكرين له كثيرا، المسبحين بحمده بكرة وأصيلا، وبارك لي ولكم ... وأقول ما تسمعون ...



الخطبة الثانية:
الحمد لله...أما بعد: ففي هذا الحديث العظيم بيان فضل الحـياء: ( وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ ) قال النووي رحمه الله تعالى: أي ترك المزاحمة والتخطي حياء من الله تعالى ومن النبي صلى الله عليه و سلم والحاضرين، أو استحياء منهم أن يعرض ذاهبا كما فعل الثالث. والحياء رحمكم الله خصلة حميدة، وخلق كريم، وشعبة من شعب الإيمان، الحياء خيرٌ كُلُه، ولا يأتي الحياء إلا بخير، من وُفِق للحياء وُفق لعظيم، ومن حُرِمَهُ حُرم خيرا كثيرا، من سُلِبَ الحياءَ لم يمنعه من ارتكاب القبائح مانع: وفي الحديث: ( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ ) رواه البخاري. وهذا مشاهد فيمن قلَّ حياؤهم أو فقدوه؛ لا يتورعون عن محرم، ولا يخافون من إثم، ولا يكفون ألسنتهم عن قبيح، ولا أبصارهم عن عورة، ولا أسماعهم عن لهو ولغو، قلَّ حياؤهم فكثرت معاصيهم، قلَّ حياؤهم فقلت غيرتهم حتى على محارمهم، وُجِد في الناس من يحمل في جواله أو جهازه الحاسوبي مقاطع مخزية، ويتناقلها مع أصحابه دون حياء من الله أو من خلقه، وُجِد من الناس من يجاهر بمعصيته؛ وفي الحديث: ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ) رواه البخاري. عباد الله: وفي هذا الحديث: التحذيرُ الشديدُ من الإعراض عن الله ورسوله: ( وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ ) قال النووي رحمه الله: أي: لم يرحمه، وقيل سَخِطَ عليه، وهذا محمول على أنه ذهب معرضا لا لعذر وضرورة.
الإعراضُ عن حلق الذكر، والصدودُ عن مجالس العلم والنفرةُ منها، وضيقُ الصدر بها، علامةُ حرمان، وتعرضٌ للعقاب؛ قال الله تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }الزمر45 ومِنْ أقبح الإعراضِ وأخطرِه: الإعراضُ عن تعلم الدين وما يحتاجه المسلم في عباداته؛ حتى قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: اعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة... إلى أن قال: العاشر : الإعراضُ عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به والدليل قوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ }السجدة22 يوجَدُ في الناس من يجهل كثيرا من أمورِ دينه، يوجد فيهم من لا يُحسنُ الطهارة ومن لا يحسن الصلاة، ومن لا يحسن قراءة الفاتحة، ومن يجهل أحكام الصوم والحج ونحوها، يوجد في الناس من هذه حاله؛ ومع ذلك لم يجلس يوما ليتعلم ما يجهل من أمور دينه، ولم يخطر له ذلك ببال، لم يجلس يوما ليتعلم كيف يتطهر من الحدث، كيف يتطهر من الجنابة، لم يجلس ليتعلم كيف يصلي الصلاة الصحيحة، لم يجلس يوما ليقرأ الفاتحة وقصار السور على من يتقنها؛ بينما هو في نفس الوقت مستعد لأن يقضي الساعات الطويلة في أموره الدنيوية، ومتابعة أمواله، واللهَثِ وراءها، هو مستعد لإهدار وقته في مجالس قيل وقال، أو أمام قنوات فضائية يتابع عبرها الأشعار وغيرها. فاتقوا الله عباد الله، وإياكم والإعراض عن دين الله، أقبلوا على الله، وهلموا إلى ذكر الله، هلموا إلى مجالس العلم، هلموا إلى إصلاح قلوبكم وأعمالكم.
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله... عباد الله: اذكروا الله ...
المشاهدات 1853 | التعليقات 0