أكل الطيبات

سليمان بن خالد الحربي
1441/12/22 - 2020/08/12 17:39PM

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فاتقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- حق التقوى، {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].

معاشرَ الإخوة: خلَق الله الإنسانَ في أحسن تقويمٍ، وجَمَّله وحسَّنَه، وكمَّل خِلْقَتَه، وخلق له الطيباتِ من المأكل والمشرب، ونهاه عن أكل الخبيث المحرَّم، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، وفي صحيح مسلمٍ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: ١٧٢]». ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»([1]).

قال ابن رجب: «والمراد بهذا أن الرُّسُلَ وأُمَمَهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلالُ، وبالعملِ الصالحِ، فما دام الأكلُ حلالًا، فالعملُ الصالحُ مقبولٌ، فإذا كان الأكل غيرَ حلالٍ فكيف يكون العمل مقبولًا؟»([2])، ومن أعظمِ ما يحصل به طِيبُ الأعمال للمؤمن من طِيب مطعمِه، وأن يكون مِن حلالٍ، فَبِذلك يزكو عملُه، وفي هذا الحديثِ إشارَةٌ إلى أنَّه لا يُقْبَل العملُ ولا يَزْكُو إلا بأكلِ الحلالِ، وإنَّ أَكلَ الحرامِ يُفْسِدُ العملَ، ويمنَعُ قبُولَهُ.

فهُنَاك عِلاقَةٌ بين أكل الطيِّباتِ وبين قبُولِ الأعمالِ، وعِلاقَةٌ بينَ أكل الخبائِثِ وضعفِ قَبُول الأعمالِ، ووالله لو لم يأتِ مِن مضارِّ أكل الحرامِ إلا هَذِه لَكَفَى بِها رَادِعًا، هَل شُرْبُ الخمرِ وَأَكْلُ المخدِّرات من الطيِّبَات التي تزكو معها الأعمالُ الصالحةُ؟! كلا والله، والدليلُ على هذه العلاقةِ المخِيفَةِ ما جاء عندَ أحمدَ وغيرِه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: سمعت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي فَيَقْبَلَ اللهُ مِنْهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا»([3])، فانظر كيف حُرِم أجرَ هذه الصلاة وَثَوابَهَا!

وعجبًا لصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم مَنْ أَدْمَنُوها وأَلِفُوها وأحَبُّوها وفُتِنُوا بها، لكنهم لما جاء نهيُ الله أراقُوها، كما جاء في الصحيحين عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ([4])، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ المدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93] الْآيَةَ.

هذا حال من أَدْمَنها وهي مباحةٌ له، فكَيْف بمن نشأَ على أكل الطَّيِّب وكَبِر وأَسَنَّ ثم انتكس على شُربِ وأَكْلِ هذا المحرَّمِ، عصى الله على بصيرةٍ وعقلٍ وعلم بالعقوبات، ففي صحيح مسلم عن جَابِر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عهدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ». قالوا: يا رسول الله: وما طينة الخبال؟ قال: «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ»([5]).

وفي المسند عن أبي أمامةَ مرفوعًا: «أَقْسَمَ رَبِّي بِعِزَّتِهِ: لَا يَشْرَبُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي جَرْعَةً مِنْ خَمْرٍ، إِلاَّ سَقَيْتُهُ مَكَانَهَا مِنْ حَمِيمِ جَهَنَّمَ، مُعَذَّبًا أَوْ مَغْفُورًا لَهُ»([6]).

وَفِي الصَّحِيحَين عن ابْنِ عُمَرَ عنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ»([7])، وفي روايةٍ: «فَمَاتَ وَهُوَ مُدْمِنُهَا»([8])، وفي روايةٍ: «ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا»([9]).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونَفَعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد للهِ على إحسانه، والشكر على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، الدَّاعي إلى جنتِه ورضوانِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.

أمَّا بَعْدُ:

إخوتي في الله! وَإن مما ابْتُلِي به كثيرٌ من الناس شربَ الدُّخَانِ، وقد أجمعت المجامع الفقهيةُ وأهلُ الفتوى على تحريمِه، وأنه من الخبائثِ، ولا يكاد يُذْكَرُ الدُّخَانُ إلا ومعه الأمراض الشنيعة المخُوفَة كسرطان الرئة، وسرطان الحنجرة، وسرطان الشفة، وسرطان البُلْعوم، وسرطان المرِّيء، وسرطان الفم، وسرطان اللسان، وسرطان البنكرياس، وسرطان المثانة، وسرطان الكُلى، سمومٌ تفتك بالصحة، وتقود إلى الهلاك.

ومن المحزِن جدًّا أن ترى شابًّا في مقتبل عمرِه قد وقع فريسةً لهذا الداء، والمحزِنُ أكثرَ حينما يكون الأبُ هو سبب سقوط هذا الابن في شِبَاك التدخين، فحينما يكون الأبُ مُدَخِّنًا فإن أسبابَ وقوع الابن فيه كبيرةٌ.

أيُّ ذنْبٍ لابْنٍ في مقتبل عمره حينما يرى أباه أو أخاه الأكبرَ مُدَخِّنًا وهم قُدوَتُه في بيتِه وخارِجِها؟!

أيْنَ ضميرُ الآباء حينما يَرَوْنَ -شَاءُوا أمْ أَبَوْا- أنَّ ابنهم يَعِدُّهم قُدوته في رجاحة العقل، وسلامة التفكير، وقوة الإرادة، ومع ذلك يَقَعُون فيه؟!

هل نطلُب من الابْنِ الصغير أن يُكَبِّر عقلَه، ويقول: هذا نافِعٌ وهذا ضَارٌّ، والأبُ الكبير لا نُطالبه بأعظم من ذلك؟!

إنني أخاطب كلَّ أبٍ، وكلَّ أخٍ أكبرَ، أن يتقيَ الله في أبنائه وإخوانِه، بأن يكون قُدْوَةً لهم، وما أكثرَ ما نسمعُ هذه الإجابةَ حينما يُسْأَل الشخصُ: كيف دخَّنْتَ؟ فيُجيب: أبي أو أخي كان مدخِّنًا.

أيها الشاب! كثيرٌ من أقرانك وأترابك يعيشون معك ولم يقعوا فيه، هل هم أكثرُ عقلًا منك؟! أَهُمْ على حياتهم أشدُّ حرصًا منك على حياتك؟! كيفَ استطاعوا أن يحمُوا أنْفُسَهم؟! كيف تجاوزا هذا المارِدَ الخطيرَ دون أن يقعوا فيه؟! 

وإننا -بحمدِ الله- نرى قافلة التائبين من هذا الداء زَرَافَاتٍ وَوحْدانًا، في كلِّ يومٍ نسمع من يترُك هذا الداءَ، إِمَّا عن طريق العيادات المتخصصة أو غيرها، تَقَلَّلْ من الشر في كلِّ يومٍ، تَقَلَّلْ منه حتى ترى أنك أَلِفْتَ تركَه، حَاولْ ولا تَسْتَسْلِمْ، «وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ»([10]).

وَيَا ويلَ مَنْ تاجر بهذه المحرَّماتِ، سَيَلْقَى اللهَ بسؤالٍ عظيمٍ: «مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبْتَ مَالَكَ؟ وفِيمَ أَنْفَقْتَهُ»([11])، سؤالٌ عظيمٌ تكون إجابَتُه: بإضلال عبادِ الله، وإِمرَاضِهم، وتأكِيلهم الحرامَ، ونعوذ بالله من الخسران.

اللهُمَّ عَافِ كُلَّ مُبْتَلًى بالخُمُورِ والمخدِّرات والدُّخانِ، اللهُمَّ عافِهِ وَأَعِنْه عَلى الْخَلاصِ مِنْهُ، واجْعَلْه يلقاك طَيِّبَ المأكَل والمشْرَب يا ربَّ العالمين.

ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى، فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين، وارْضَ اللهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وَالأئِمَّةِ المهْدِيِّين أَبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعليٍّ، وعنِ الصَّحابةِ أجْمَعين، وعنَّا معهم بعفْوِك وكَرَمِك يا أكرمَ الأكْرَمِين...

([1]) أخرجه مسلم (2/703، رقم 1015).

([2]) جامع العلوم والحكم (ص: 100).

([3]) أخرجه الترمذي (4/290، رقم 1862)، والنسائي (8/314، رقم 5664)، والحاكم (1/388، رقم 945) وقال: صحيح على شرط الشيخين.

([4]) أخرجه البخاري (6/2649، رقم 6826)، ومسلم (3/1571، رقم 1980).

([5]) أخرجه مسلم (3/1587، رقم 2002).

([6]) أخرجه أحمد (5/257، رقم 22272).

([7]) أخرجه مسلم (3/1588، رقم 2003).

([8]) أخرجه أحمد (2/98، رقم 5730).

([9]) أخرجه البخاري (5/2119، رقم 5253)، ومسلم (3/1588، رقم 2003).

([10]) أخرجه البخاري (2/534، رقم 1400)، ومسلم (2/729، رقم 1053).

([11]) أخرجه الترمذي (4/613، رقم 2417).

المشاهدات 1585 | التعليقات 0