أكرموا الضعف والشيبة

أحمد عبدالعزيز الشاوي
1446/04/07 - 2024/10/10 16:36PM

‎الحمد لله خلقنا من نفس واحدة وجعل منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، وأشهد أن لا إلا الله وحده لاشريك له خلق فسوى وقدر فهدى فهو المستحق حمدا وثناء ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي علمنا وأرشدنا وأفنى حياته بذلا وعطاء ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا بررة أتقياء وسلم تسليما

‎أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله فاتقوا الله واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله واتقوا النار التي أعدت للكافرين والظالمين

‎بدأ خلق الإنسان من ضعف ، ثم كان من بعد الضعف شباب وقوة ، ثم جاء من بعد القوة ضعف وشيبة ..

‎هكذا هي رحلة الإنسان في هذه الحياة .. تبدأ بضعف وتنتهي بضعف .. أما في الضعف الأول فيجد من يحميه ويكرمه ويطعمه ويسقيه ويؤويه .. وأما في الضعف الآخر فيجد من يتنكر له ويستثقله ويزدريه ..

‎إن هذه المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان تغيرات طبيعية وقدر من أقدار الله الحتمية وسننه في الحياة البشرية، لايملك الإنسان لها دفعاً مهما جهد في ذلك. ومن ثم ينبغي أن يتقبلها المسلم باعتبارها أمرا حتميا قضاه الله على عباده، فلا يصاب من جرائها بالضيق والضجر، ولا يتبرم بها، فيلجأ إلى الانتحار أو يقع في دوامة من الاكتئاب واليأس. كما يحدث في بعض المجتمعات التي بعدت عن الهدي الإلهي.

‎إن هذه التغيرات التي يمر بها الإنسان في هذه المرحلة لا تغير من حقيقته كإنسان يتمتع بالكرامة وله حقوق ينبغي أن تصان ويحافظ عليها.

‎كما ربى الإسلام المسلم على الأمل والرجاء في رحمة الله فلا ييأس ولا يقنط مهما كانت الظروف التي يمر بها من ضعف أو عجز:إِنهُ لاَ يَيْأَسُ مِن روْحِ اللّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ

‎كما أن تعاليم الإسلام تربي المسلمين على أن ينظروا إلى الشيخوخة والتقدم في العمر على أنها نعمة من نعم الله:فقد ورد في الحديث : خير الناس من طال عمره وحسن عمله. فماأجمل الإنسان يزداد عمره وتزداد معه حسناته ، وماأسوأ المسن الذي يشيب وتشيب معه سيئاته .. ماأسوأ المسن الذي يتهاون بالصلاة ويقصر في الطاعات ويرتكب خوارم المروءة .. ماأسوأ المسن الذي لم يمنعه شيبات رأسه من معاكسة النساء والظهور في مواقع التواصل بما لايليق .. ماأسوأ المسن الذي تراه في المضامير قد كشف عن فخذيه المهترئتين لايحجزه دين ولا حياء

‎كما أن الحياة في نظر المسلم ليست عبثا بل إنها في جملتها ابتلاء واختبار. فطول العمر وقصره، والقوة والضعف، والقدرة والعجز كلها امتحان من الله تعالى يستلزم الشكر أو الصبر:الذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ

‎إن كبر السن لايعني الوهن والتكاسل ولربما وجدت شيوخا من علماء وقادة لم يقف كبر السن عائقاً أمام الأعمال العظام والمهام الجسام ، ولربما وجدت من بلغ الثمانين يفوق في عطائه أبناء الأربعين

‎إن كبار السن بيننا هم الفئةُ العزيزةُ الغاليةُ، التي لها المكانةُ العاليةُ، هم في المساجد شموعها والنور، وهم في البُيوتِ مصدرُ السَّعادةِ والسُّرورِ، وهم في العوائلِ أعمدةُ الحِكمةِ والنُّورِ، قد ذَهبَتْ قُوَّتُهم، وجاءَ ضَعفُهم وشَيبَتُهم، كما قالَ تعالى: (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)، فكَم من نَصرٍ ورِزقٍ جاءَ من دُعائهم وصلاتِهم، (هلْ تُنْصَرونَ وَتُرْزَقُونَ إلا بضعفائِكمْ؟، بدعوتِهم وإخلاصِهم).

‎قد شابتْ رؤوسُهم من تَجاربِ الزَّمنِ وشَريطِ الذِّكرياتِ، وتوقَّدِتْ عقولُهم من مواقفِ ومواعظِ مَدرسةِ الحياةِ، إذا تكلَّمَ سَمِعتَ في حديثِه التَّاريخَ والحَوادثَ والخَبَرَ، وإذا سكتَ رأيتَ على وجهِه الأسرارَ والعِبرَ،

‎إن الكبار في أعمارهم كبار في أعمالهم وهممهم وخبراتهم وتجاربهم ونظرتهم ..

‎إن بياض شعورهم وتجاعيد وجوههم وانحناء ظهورهم يحكي قصة من الكفاح والمعاناة لإنشاء جيل وتكوين أسرة وبناء وطن .. إنه يحكي فترة من الزمن عانوا فيها من البأساء والضراء ، وتعرضوا خلالها لأنواع من الشدة والبلاء ليطعموا صغيرا ، ويزوجوا كبيرا ، ويداووا مريضا ، ويجبروا كسيرا ..

‎إن كبار السن في كل مجتمع هم ثروة لاينبغي أن يستهان بها فالبركة مع الأكابر ، وفي تجاربهم في الحياة دروس وعبر لمن عرف قدرهم وأدرك فضلهم

‎إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم ، خصوصا الوالدان ، وقد خصهما الله بالتوصية ( إما يبلغن عندك الكبر .... ) فأوصى بِهما إذا بَلَغا الكِبرَ، أتعلمونَ لماذا؟، لأنَّ كبيرَ السِّنِّ يَلتفتُ فلا يَرى الأحبابَ، ويُنادي فلا يُجيبُ الأصحابُ، قد ذهبَ الأهلُ والأصدقاءُ، وقد ماتَ العَشيرُ والجُلساءُ، فعِندَها يَحزنُ القَلبُ ويضيقُ الصَّدرُ، ويحتاجونَ إلى مُعاملةِ الإحسانِ والصَّبرِ، (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).وليس منا من لم يوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا قدره ..

‎فإذا كُنتَ عِندَهم فاسكتْ، وإذا تَكلموا فأنصِتْ، وأطفئ جوالَكَ، وأجِّلْ أشغالَك، فذلكَ من توقيرِهم الذي هو من تَعظيمِ اللهِ تعالى، كما قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إنَّ من إجلالِ اللَّهِ -أيْ: تَبجيلِهِ وتَعظيمِهِ- إِكرامَ ذي الشَّيبةِ المسلمِ)، وذلكَ بالتَّوقيرِ والاحترامِ، وإنزالِه شَريفَ المَقامِ.

‎والكبيرُ هو الذي له الحقُّ في أن يُوصلَ ويُزارَ، ويجتمعَ عندَه في المنزلِ الكِبارُ والصِّغارُ، فعِندَما دَخلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَاتحاً مُنتصِراً، فإذا بأَبي بَكْرٍ رضيَ اللهُ عَنهُ آخِذًا بَيَدِ أبيهِ أَبِي قُحَافَةَ، ذلكَ الشيخُ الكَبِيرُ، يَسُوقُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلمَّا رَآهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ لَهُ مُعاتِباً: (ألا تَرَكْتَهُ حَتَّى نَكُونَ نَحْنُ الَّذِي نَأْتِيهِ)، هكذا كانتْ أخلاقُ إمامِ المتَّقينَ، وخاتمِ النَّبيينَ، مع الكِبارِ والمُسنينَ.

‎إنه لابد أن تتربى الأمة صغارها وكبارها على الوفاء لمن سبقوهم في الحياة وعلى إنزالهم منزلتهم اللائقة بهم والأدب في الحديث معهم والحذر من استحقارهم وازدراء عقولهم وتفكيرهم .. وإن حسن العهد من الإيمان ولاخير في أمة جفت فيها ينابيع الوفاء

‎أقول هذا القول ...

 

‎الخطبة الثانية ... أما بعد :

‎إذا أردت أن تعرف صورة من صور عظمة هذا الإسلام ومنة الله علينا بالهداية له فقلب بصرك وبصيرتك وتأمل في حال القذارة الغربية ومن تبعهم من المنهزمين من المسلمين في تعاملهم مع كبارهم ومسنيهم ..

‎إنها الحضارة المزيفة والتي تتعامل مع الإنسان تعاملا ماديا ، فبقدر ماتستفيد منه تكرمه ، فإذا وهن منه العظم واشتعل الرأس شيبا واحتاج إلى من يخدمه ويبره ويرعاه .. ألقته في الملاجئ ودور الرعاية فلا أبناء يبرونه ولا أقرباء يزورونه ولا أصدقاء يؤنسونه .. يتقلب في الوحدة والعزلة إلى أن يموت . ثم قلب نظرك في مجتمعات المسلمين الموحدين لتجد المسن يحظى بالتكريم والدا وقريبا وجارا وأخا مسلما .. فالمؤمن أخو المؤمن ، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ، وبالوالدين إحسانا ، وبذي القربى والجار ذي القرى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل ..

‎في مجتمعات المسلمين المتمسكين تجد الكبير يقدم في المجالس يقبل رأسه الصغير والكبير ، ويؤثر بالطعام والكلام ، ويعامل بالتقدير والاحترام

‎إن إكرام الكبار دِين ودَين ، فأكرموهم بجميل الكلام وحسن التعامل ..

أكرموهم يتعليمهم مايجهلونه من أحكام دينهم باللطف والحسنى

‎أكرموهم باستشارتهم والأخذ برأيهم والاستنارة بأفكارهم وعقولهم ..

‎أكرموهم بعدم إشعارهم بضعفهم وعجزهم .. فمن سوء الأدب معهم أن تحتقر قدراتهم وطاقاتهم ، وكم في التأريخ من صور من البذل والعطاء لهذا الدين جهادا ودعوة وتعليما كان ابطالها شيوخا وكبارا لم يزدهم وهن العظم إلا قوة في العزم والحزم .. وإن المسن من شابت مشاعره لاشعره ، ومن وهن حزمه لاعظمه ، ومن انحنى فكره لاظهره ..

‎أكرموا كباركم بأداء حق الله فيهم من زيارتهم وتفقد أحوالهم، وإيناسهم، فلا تتركونهم نهباً للعزلة، والوحدة.

‎أكرموا كباركم بالحديث إليهم والاستماع إلى أحاديثهم ولو كانت مكررة أو غير مهمة .. وأشعروهم بتفاعلكم .. ولاتنشغلوا عنهم بجوالات أو أحاديث جانبية .. وأشركوهم في مناشطكم ورحلاتكم وهداياكم ..

‎أكرموا كباركم بتعليم صغاركم فن التعامل مع الكبار بالأقوال والأفعال والقدوة الحسنة

أكرموا كباركم بالأدب في الحديث معهم فلاتحاولْ تصحيح معلوماتهم مباشرةً، ودعْهم يشعروا أن لديهم ما يخبرونك به ، أخبرْهم بمدى سعادتك بالوقت الذي تقضيه معهم .. حفِّزْ ذاكرتهم بسؤالك عن حكاياتهم وذكرياتهم القديمة ... دعْهم يشعروا أن جلوسك معهم ليس واجبًا ثقيلا، بل وقتًا ثمينًا تحرص عليه

‎يَتأكدُ الاحترامُ والتَّوقيرُ، عِندَما يَضعُفُ الكبيرُ، فيَخونُه البصرُ، ويغدُرُ بهِ السَّمعُ، وتَتنكرُ له الذَّاكرةُ فأكرموا كباركم بعدم إحراجهم في ذاكرتهم فمن سوء الأدب أن تسألهم : هل تعرف هذا ؟ أو هل عرفتني ؟ أو هل تَذكرونَ ذاكَ الزَّمانَ؟، فتَضيقُ صُدورُهم بالنِّسيانِ، بل ينبغي حِينَها أن نُبادرَ بِالتَّعريفِ بأسمائنا، وأن نُسعِدَهم بأخبارِنا وأخبارِ أبنائنا، فإن أصبحوا لا يستطيعونَ التَّعرَّفَ علينا، فنحنُ لا نزالُ نذكرُهم ونَعرفُ حقَّهم علينا.      

‎إنه لاخير في أمة تتنكر لكبارها وتجحد تأريخ مسنيها وتتأثر بأمم كافرة لاتقيم للأخلاق والمبادئ وزنا .. لاخير في ابن يبر صديقه ويهين اباه .. ويكرم زوجته ويحرم أمه .. لاخير في بيت حُرم دعوات الكبار وبركاتهم

‎وبوركت بيوت تستلذ بخدمة كبارها وترى في شعراتهم البيضاء أنوارا تضيئ جوانبها وفي تجاعيد وجوههم خطوط سعادتها وتسترخص لأجلهم كل بذل وعطاء .. وماأجمل أن ترى في الأمة صور التنافس والتسابق لرعاية مسن وكبير وإشعاره بقيمته ومكانته وإنزاله منزلته وكما أَكرَمونا صِغاراً، فيَنبغي الإحسانَ إليهم كِباراً، فَهَلْ جَزَاءُ إلاحسان إلا الإحسان. وعاقبة الذين أساءوا السوآى ولايظلم ربك أحدا ...

‎اللهم صل وسلم ....

المرفقات

1728567367_أكرموا الضعف والشيبة.doc

المشاهدات 1569 | التعليقات 0