أقِيلُوا ذَوِي الهيئاتِ عَثَراتِهم 5/7/1444

د عبدالعزيز التويجري
1444/07/04 - 2023/01/26 19:04PM

الخطبة الأولى / أقِيلُوا ذَوِي الهيئاتِ عَثَراتِهم 5/7/1444ه
الحمدلله الولي الحميد، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد ان لا إله إلا الله ذو العرش المجيد، وأشهد أن نبينا محمد عبدالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وأزواجِه ومن تبعهم إلى يوم المزيد .. أما بعد.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
في الصحيحين قال عَلِيٌ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ  أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا»، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا أَخْرِجِي الكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا، وَلاَ رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لَقَدْ صَدَقَكُمْ»، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، دَعْنِي فَلِأَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: " أَوَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمُ الجَنَّةَ " فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
هنيئاً له الحظُّ الوفاءُ المتمَّمُ ** فلا خلَّــــةٌ منها أضرَّتْ بخلَّــــــةِ
تطيبُ به أنفاســـهُ فتذيعُـــــهُ ** وهل سِرُّ مسكٍ أُودِعَ الريحَ يُكْتَم
منهج نبوي زكي ..في التعامل مع هفوات من لهم سابقاتُ في المكارم، وصفحاتُ مشرقةُ في المعالم ..
مدرسةُ محمدية .. تعرف لأهل القدرِ قدرَهم ، وتدفعُ ريبَ من يغضُ من حقِهم.
مدرسةُ تربي على الاعترافِ بالجميل، والغضِ عن الزلل القليل.
وفيه لفتة نبوية تربوية، فإن النبي لم يسرع في عتاب حاطب حتى سأله «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟»، وما حملك على ما صنعت؟ ..
عليك صلاة من الله ما ذرّ شارق ** ورحمته ما شاء أن يترحما
لو شاعت هذه التربيةُ الساميةُ ما أُسقط عالمُ هفوه، ولا نُسيت فضائلُ جوادٍ بكبوة .
يختفي هذا الخلقُ الرفيعُ حينما تتسابقُ النفوسُ في الارتقاء على الآخرينَ، لانصرةً للدين بل إسقاطِ للعاملين.
ويكررُ نبيُ الأمةِ وقائدُها ومربيها ترسيخَ هذا الخلقِ النبيل، في موقفٍ جليل، يتجلى معه إظهار شمائل من قاموا بنصرة الدين .. متغافلا عن سبْقِ لِسانٍ، وهفوةِ جنان.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي الدَّرْدَاءِ ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ» فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي-أي يسامحني- فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لاَ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ  فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ  يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي» مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا .
عظمةُ في التربيةِ وحكمةُ في السياسة .. لم ينظرِ النبي  إلى ماجرحَ به أبوبكرٍ عمرَ وهفوتَه في ذلك، بل شَخَص إلى بحارٍ حسناتِ أبي بكرٍ ومواقفِه العظام، في خدمةِ الإسلام، ونصرةِ سيدِ الأنام ، عندها أصبحت ذرةُ في فضاءِ الجودِ والإقدام، فلا تبصرها الأعينُ ولا تتعثر بها الأقدام.
سلامٌ على الصديقِ إذْ هوَ لمْ يزلْ ** لخيرِ البرايا في الحياتينِ يصحبُ
فثانيه ِ في الغارِ الخليفــةُ بعـــــــدهُ ** لأمتهِ نعمَ الحبيبُ المقربُ
أجابَ وقدْ صُمّوا وأبصرَ إذْ عَمُوا ** وصدَّقَ بالحقِ المبينِ وكذبوا
ويتصدر أبو بكر صديق هذه الأمة على أن لا يجدَ عليه أحدُ في كلمةٍ زلَّ بها أو فهمٍ جانب محلَه .. أخرج الإمام أحمد وغيره عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ  أَرْضًا وَأَعْطَى أَبَا بَكْرٍ أَرْضًا قَالَ: فَاخْتَلَفْنَا فِي عِذْقٍ نَخْلَةً فَقُلْتُ: هِيَ مِنْ أَرْضِي وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هِيَ مِنْ أَرْضِي، فَقَالَ لِي أبو بكر كَلِمَةً نَدِمَ عَلَيْهَا فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ قُلْ لِي مِثْلَ مَا قُلْتُ لَكَ حَتَّى تَكُونَ قِصَاصًا، قَالَ: قُلْتُ لَا قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهِ إِذًا لَأَسْتَعْدِيَنَّ عَلَيْكَ، فَانْطَلَقَ يَؤُمُّ النَّبِيَّ  وَاتَّبَعْتُهُ وَجَاءَ نَاسٌ مِنْ قَوْمِي فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الَّذِي قَالَ لَكَ مَا قَالَ وَيَسْتَعْدِي عَلَيْكَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَتَدْرُونَ مِنْ هَذَا؟ هَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ وذو شيبة المسلمين، لا يلتفت فيراكم فيغضب فَيَغْضَبُ رَسُولُ اللَّهِ  لِغَضَبِهِ وَيَغْضَبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِغَضَبِ رَسُولِهِ فَيَهْلِكُ رَبِيعَةُ، ارْجِعُوا، وَانْطَلَقْتُ فسَبَقَنِي إِلَى النَّبِيِّ  فَقَصَّ عَلَيْهِ فَلَمَّا جِئْتُ قَالَ لِي: «يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ وَلِلصِّدِّيقِ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ قَالَ لِي شَيْئًا وَقَالَ لِي: قُلْ مِثْلَ مَا قُلْتُ لَكَ حَتَّى يَكُونَ قِصَاصًا فَقُلْتُ: لَا أَقُولُ لَكَ مِثْلَ مَا قُلْتَ لِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "أَجَلْ فَلَا تَقُلْ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لَكَ وَلَكِنْ قُلْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ " فَقُلْتُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَبَا بَكْرٍ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَبَا بَكْرٍ فَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَبْكِي.
إذا فعلوا فخيرُ الناس فعلاً ** وإن قالوا فأكرمُهم مقالا
صاحبُ المكرماتِ، والسباق للخيرات، تُقال عثرته إذا سبق لسانه ، ويُدافَع عن هفوتهِ إذا لم يقصدها قلبه ..
اشترى عثمان بن عفان للمسلمين بئر رومه، وجيش العسره فقال النبي  ماضر عثمان مافعل بعد اليوم .
شرفُ تخجلُ الكواكبُ إذ يبدو ** وتُطوى بذيلهِ الجوزاءُ
هكذا يجب أن نَتَربى ونُرَبي .. احترامُ القاماتِ، وتقديرِ من لهم قصب السبق في المكرمات.
وهي لفتةُ لكل زوجين أن لاينسوا الفضل بينهم، ولاتُهدم حصون من أجل مشروب أومطعوم .. (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
ووالله لا تصفو مودةُ، ولا يعذب شربها إلا بعد أن يغفر كل واحد منا لصاحبه وزوجه ما يغفره لنفسه..
إذا أنتَ لم تغفـــرْ ذنوبــــاً كثيـــرةً ** تريبُكَ لم يسلمْ لكَ الدَّهرَ صاحبُ
ومنْ لا يُغمِّضْ عينهُ عن قرينه ** وعن بعضِ ما فيهِ يمُتْ وهو عاتبُ
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات فاستغفروه إن ربي غفور رحيم
الخطبة الثانية .. الحمدلله على إحسانه والشكر له على فضله وامتنانه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وآله وأصحابه أما بعد
أخرج البيهقي في المناقب عن الربيع بن سليمان قال: دخلت يومًا على الشافعي فقلت له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحتُ ضعيفاً، فقلت: قَوَّى الله ضَعْفَك يا إمام . فقال الشافعي: يا ربيع، أجاب الله قلبَك ولا أجاب لفظك؛ إنْ قوّى ضَعْفِي علَيَّ قتلني، ولكن قل: قَوَّاكَ اللهُ على ضَعْفِك، قال الربيع: والله ما أردت إلا خيراً، فقال الشافعي: أجل، والله يا بني لو تشتمني صراحاً لعلمت أنك لم تُرِد إلا الخير.
ألسُنٌ تَرَبت من قلوبٍ زَكَت .. (لو تشتمني صراحاً لعلمت أنك لم تُرِد إلا الخير) كلمةُ عظيمة، وحق لها أن تكون عظيمة، لأنها خرجت من قلوبٍ عظيمة، وأفئدةٍ سليمة، وألسنةٍ مستقيمة ..
تهدى لمن يقفون على عبارةٍ لها في الخيرِ ألفُ محملِ وفي الشر محمل، ثم يحملونها على الشر.
تعمى بصائرُهم عن كلِ منحرفٍ ** ويرصدونَ ذوي التقوى بمرصادِ
في سنن أبي داود: "أقِيلُوا ذَوِي الهيئاتِ عَثَراتِهم" صححه الألباني.
وما عالم برع في علمه يؤخذ بهفوته، والفاضل من عدت سقطاته، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فأغِضو أيها المؤمنون على إخوانكم واحتملوا هفوات أصحابكم ..
سامحْ أخاك إذا أتاك بزلَّةٍ ** فخلوصُ شيءٍ قلَّما يتمكَّنُ
ففي كلِّ شيء آفةٌ موجودةٌ ** إنَّ السراجَ على سَناهُ يدخِّن
اللهم اهدنا بهداك واجعل أعمالنا في رضاك اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا ...

المرفقات

1674750040_أقِيلُوا ذَوِي الهيئاتِ عَثَراتِهم.docx

1674750059_أقِيلُوا ذَوِي الهيئاتِ عَثَراتِهم.pdf

المشاهدات 871 | التعليقات 0