أفضل أيام الدنيا*
هلال الهاجري
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
تختلفُ أفضلُ أيَّامِ الدنيا بالنِّسبةِ للنَّاسِ، باختلافِ الاهتماماتِ والطبائعِ والأجناسِ، فمنهم أفضلُ أيَّامِه في الحياةِ هي أيامُ الإنجازاتِ والنَّجاحِ، ومنهم أفضلُ أيَّامِه هي أيامُ السَّعادةِ والأفراحِ، ومنهم أفضلُ أيَّامِه هي أيَّامُ الزَّواجِ واللَّيالي المِلاحِ، ولكنْ اسمعوا ماذا قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (أَفضلُ أيَّامِ الدُّنيا: العَشرِ- يَعني عَشرَ ذِي الحَجَّةِ).
ولا عجبَ في ذلكَ، فهي موسمُ الخيرِ والطاعاتِ، تجتمعُ فيه أمهاتُ العباداتِ، فيها الصَّلاةُ والذِكرُ، وفيها الصيامُ والنَحرُ، فيها الأيامُ المُباركةُ، وفيها الأعمالُ الصَّالحةُ، كما جاءَ في حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلمَ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ).
تعجَّبَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم من هذا الفضلِ العظيمِ، وتذّكروا أكثرَ الأعمالِ أجراً وأحبَّها إلى العزيزِ العليمِ، تلك اللحظاتُ، التي تتطايرُ فيها الأشلاءُ، وتتدّفقُ فيها الدماءُ، وترتفعُ فيها الأرواحُ، إلى ربِها العليمِ الفتَّاحِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)، ولذلكَ لمَّا سمِعَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رحمَه اللهُ تعالى هذا الحديثَ من ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما، انتفعَ به انتفاعاً عظيماً، فكانَ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يُقْدَرُ عَلَيْهِ، فهل ننتفعُ نحنُ عندما نسمعُ ونعلمُ عِلمَ يَقينٍ، ما في أيامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ مِنْ فضلٍ ثَمينٍ؟.
هي أيَّامُ التَّهليلِ والتَّكبيرِ، هي أيَّامُ التَّسبيحِ والتَّحميدِ، كما جاءَ في الحديثِ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ)، ولذلكَ لمَّا سمعَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا هذا الحديثَ من رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، كَانَ يَخْرُجُ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرُ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ، وهذ التكبيرُ المطلقُ الذي يبدأُ من أولِ ذي الحجةِ إلى آخرِ أيامِ التشريقِ، ويكونُ في كلِ وقتٍ ومكانٍ.
دعونا في هذه الأيامِ الفاضلةِ نراجعُ علاقتَنا مع أولِ ما يُحاسبُ عليه العبدُ يوم القيامةِ، لمَّا سمعَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم قولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ)، كانوا كما وصفَهم ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: (وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ)، يَقُولُ عُدَيُّ بْنُ حَاتِمٍ: (مَا جَاءَ وَقْتُ صَلاَةٍ قَطُّ إِلاَّ وَقَدْأَخَذْتُ لَهَا أُهْبَتَهَا، وَمَا جَاءَتْ إِلاَّ وَأَنَا إِلَيْهَا بِالأَشْوَاقِ).
ولما طُعنَ عُمرُ بنُ الخَطابِ رضيَ اللهُ عنه، وأُغميَ عليه، لم يستطيعوا أن يُوقظوه، وأن ينبهوه إلا بالصَّلاةِ لشِدةِ حِرصِه عليها، حِينَ قَالَ له المِسورُ بنُ مخرمةَ: يا أميرَ المؤمنينَ، الصَلاةُ، ففَزعَ عُمرُ، وأَفاقَ، وقَالَ: نعم، ولا حَظَّ في الإسلامِ لمن تَركَ الصَّلاةَ، فصلَّى، وإنَّ جُرحَه ليَثْعَبُ دَمَّاً، فحبُّ الصَّلاةِ وسِرعةُ الاستجابةِ، هي التي رفعتْ مكانةَ الصحابةِ.
واحرصْ في هذه الأيامِ التسعةِ الفاضلةِ على الصِّيامِ، فهي العبادةُ الوحيدةُ التي أُخفي أجرُها عن الأنامِ، قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)، فلذلكَ فإنَّكَ تسمعُ عجباً من صيامِ الصَّالحينَ، طمعاً في عظيمِ أجرِ ربِّ العالمينَ.
وظهرَ ذلكَ جليَّاً في حُسنِ خاتمَتِهم، فعن يَزيدَ بنِ عبدِ ربِه قَالَ: ذهبتُ مع خالي عليِّ بنِ مسلمٍ لعيادةِ أبي بكرٍ بنِ أبي مريمَ وهو في النَّزعِ، فقلتُ له: رحمَكَ اللهُ، لو جَرعتَ جُرعةَ مَاءٍ؟، فقالَ بيدِه: لا، ثم جَاءَ الليلُ، فقالَ: أَذَّنَ؟، فقلتُ: نعم، فقَطَّرنا في فَمِه قَطرةَ مَاءٍ، ثم غَمضَّناهُ، فماتَ رحمَه اللهُ.
والصَّدقةُ الصَّدقةُ أيُّها الحبيبُ، وتذّكرْ ذلك الموقفَ المُهِيبَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُ رَبَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ مَنْ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)، فلنتصدَّقْ يومياً من كسبٍ طيّبٍ ولو بالقليلِ، وقد جاءَ في الحديثِ: (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ).
نفعني اللهُ وإيَّاكم بالقرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ ما تَسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، يوالي على عبادِه مواسمَ الخيرِاتِ، ليكفّرَ عنهم السيئاتِ، ويرفعَ لهم الدرجاتِ، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، أما بعد:
وأما كتابُ اللهِ تعالى فليكنْ له في هذه الأيامِ أكبرَ الحظِ والنصيبِ، اقرأْ وتَدبَّرْ، رَتِّلْ وتَفكَّرْ، وتَذَكَّرْ حَديثَ النَّبيِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلمَ: (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا؛ فإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا)، يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمَه اللهُ في آخرِ عُمُرِه بَعدَ حَياةٍ مَليئةٍ بالعِلمِ والتَّعليمِ والجِهادِ ومُنَاظرةِ أَهلِ الأهواءِ، والدِّفاعِ عن الحَقِ: (وَندمتُ على تضييعِ أوقاتي في غيرِ معاني القرآنِ)، ونَحنُ مَاذَا عَسَانَا أَنْ نَقولَ؟.
جلسَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ بينَ أصحابِه في أحدِ الأيامِ العاديةِ، فقالَ: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ: (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ)، فكيفَ إذا اجتمعتْ هذه الأعمالُ في أفضلِ أيامِ الدُّنيا، وإنَّها ليسيرٌ على من يسرَّها اللهُ تعالى عليه.
فيا مَن فرّطَ في رمضانَ وما فيه من عظيمِ الأجرِ، وفاتَه مغفرةُ الذنوبِ وليلةُ القدرِ، وصيامُ ستٍ من شوالٍ وأجرُ صيامِ الدهرِ، ها قد جاءتك العشرُ، فتقّربْ إلى اللهِ تعالى بالصلاةِ والصيامِ والصدقةِ والذكرِ، والصبرُ الصبرُ، فإنما هي أيامٌ وينقضي العمُرُ، فاجتهدْ حتى تكونَ من الذين قالَ اللهُ تعالى فيهم: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ).
عبادَ اللهِ .. قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الحجّة وَأَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عن شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ)، وقالَ: (إذا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أحدُكم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ من شَعرِهِ وَبَشَرِهِ شيئاً)، وهذا النهيُ خاصٌ بصاحبِ الأضحيةِ، أما المضَحَّى عنهم من الزوجةِ والأولادِ فلا يعمُهم النهيُ، تقبَّلَ اللهُ منا ومنكم.
اللهم طهرْ قلوبَنا، وزكِ نفوسَنا، وأرشدْ عقولَنا، وحسِّنْ أقوالَنا، وأخلصْ أعمالَنا، وأصلحْ أحوالَنا، وضاعفْ أجورَنا، وارفعْ منازلَنا برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم وفقْنا للصالحاتِ، واصرفْ عنا الشرورَ والسيئاتِ، واغفرِ اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ، برحمتِك يا ربَ الأرضِ والسماواتِ، اللّهمَّ آمنَّا في أوطانِنا، وأَصلحْ أئمَّتَنا وولاةَ أُمورِنا، واجعلْ ولايتَنا فيمن خَافَكَ واتَّبعَ رِضاكَ يا ربَّ العالمينَ، اللَّهمَّ آتِ نفوسَنا تَقواها، وزَكِّها أَنتَ خَيرُ من زَكَّاها، أَنتَ وَليها ومَولاها، اللهمَّ اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ، وآخرُ دَعوانا أَنِ الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ.
المرفقات
1717558275_أفضل أيام الدنيا.docx
1717558284_أفضل أيام الدنيا.pdf