أفضل أيام الدنيا وأحسنها.
عبد الله بن علي الطريف
أفضل أيام الدنيا وأحسنها.. 1444/11/27هـ
الحمدُ للهِ الذِي فاضلَ بين الليالي والأيامِ، فجعلَ عشرَ ذي الحجةِ خيرَ الأيامِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الملِكُ العلاّمُ، وأشهدُ أنَّ نبيّنَا محمّدًا عبدُه ورسولُه سيّدُ الأنامِ، صلِّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبتِ الليالي والأيام. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
أما بعد أيها الإخوة: في الأسبوع القادم تطل على الأمّةِ الإسلاميّةِ عشرُ ذي الحجةِ، وتفتحُ للمؤمنين خزائنَ بركاتِها، تلكم العشر التي فضَّلَها اللهُ، وعظمَها رسولُه ﷺ فهي أفضلُ أيام العام قاطبة وأعظمُها، وهي موسم خير وبركات، وفرصة لتبوء أرفع الدرجات، وتحصيل أعظم الحسنات، وحَطِّ ثقيلِ السيِّئات..
فيا الله أيُ أيامِ خيرٍ يا عبادَ اللهِ قد قاربتنا.. وأيُ مواسمَ للبر والعطاء ستحل بساحتنا.. وأي فرصةٍ لمضاعفةِ الأجورِ واتتنا.. حقٌ أن نستقبلَها بالسرورِ لإدراكِها والتخطيطِ لاهتبالِهَا لَوْ وَعينا..
نعم والله أنها أعظمُ الأيّامِ عند اللهِ فضلاً وأكثرُها أجرًا، وأحسنُها حُسْناً.. فلِحُسْنِها: أقسمَ اللهُ تعالى بها، بل جعلَها المقسم به، والمقسم عليه، لظهور أمرها وأهميتها، فقال الله تعالى: (وَٱلْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1،2]، وقال ابنُ جريرٍ رحمه الله: والصوابُ عندنا أنها عشر الأضحى لإجماعِ الحجةِ من أهلِ التأويلِ عليه.
ومن حسنها: ثناءُ الرسولِ ﷺ على العملِ الصالحِ فيها ثناءً لم يقلْه بغيرِها فَقَد قَالَ مَرَةً ﷺ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» يعني أيّامَ العَشْرِ. رواه البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
وقَالَ مَرَةً ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني رحمهم الله.
وقَالَ مَرَةً ﷺ: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي العَشْرِ الْأَضْحَى» رواه البيهقيّ والدارمي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وحسنه الألباني.
قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ».
وقَالَ ﷺ مَرَةً: «إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ» يعني عشرَ ذِي الحجّةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا مَنْ عَفَّرَ وَجَهَهُ فِي التُّرَابِ» رواه البزّار في مسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما.
سبحانك ربي كيفَ جمعَ رسولُك ﷺ للعمل في هذه العشر أجمل أوصاف الكمال فقد قال عنها: «أَفْضَلُ العَمَلِ، وأَزْكَى العَمَلِ، وأَحَبُّ العَمَلِ، ثُمَ فَضَّلَ زَمَنَهَا كُلَهُ فَقَالَ إِنْهَا: أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا»..
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: دل هذا الحديثُ على أن العملَ في أيامِه أحبُ إلى اللهِ من العملِ في أيامِ الدنيا من غيرِ استثناء شيءٍ منها، وإذا كان أحبَ إلى اللهِ فهو أفضلُ عنده وقال: جميع الأعمال الصالحة مضاعفة في العشر من غير استثناء شيء منها، وقال: العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيامِ عشرٍ غيرها، وقال: ويستثنى جهادًا واحدًا هو أفضل الجهاد، وهو أن يُعْقَرَ جوادُهُ ويُهراقَ دمُه.. فَقَدْ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ يُعْقَرَ جَوَادُكَ، وَيُهْرَاقَ دَمُكَ» رواه ابن حبان عَنْ جَابِرٍ وصححه الألباني.
وقال أيضاً: فهذا الجهادُ بخصوصٍ يَفْضُلُ على العمل في العشر، وأما سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضلَ منها.
فهل نبادر أحبتي بالعمل الصالح في هذه العشر المباركات..
ومن حسنها: عنايةُ السلفِ الصالحِ بالعملِ بها، والاجتهادُ فيها بما لا يجتهدونه في غيرِها وحثهم على العملِ الصالح فيها.. فَقَد كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.. وقال مجاهد: "العمل في العشر يضاعف".
ومن حسن أيّامِ العشر: وقوع أعظم تجمع إسلامي واجب فيها.. وهو الحجّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» رواه البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وقَالَ ﷺ: «وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ» متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ..
ومن حسنها: اجتماع أمّهات العبادة فيها، قال ابن حجر رحمه الله: والذي يظهَرُ أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها. انتهى.
لذا يُشرع صيامُ هذه الأيّام الفاضلةُ، ويتأكّد فضلُه فيها، فَعَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ. رواه النسائي عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ وصححه الألباني. قال النوويّ رحمه الله: عن صيامِ هذه التسعة أنه مستحبّ استحبابًا شديدًا.
أيها الإخوة: ومن حُسن هذه العشر وبهائِها تخصيصها بالإكثار فيها من التهليل والتكبيرِ والتحميد، وهي من أفضل الذكر فقد قَالَ ﷺ حاثًا على الإكثار منها: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ». رواه أحمد عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وإسناده صحيح وله شاهد عند الطبراني. وقال البخاريّ في صحيحه: كان ابن عمر وأبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّرُ الناسُ بتكبيرهما.. وعن يزيدَ بنِ أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدًا أو اثنين من هؤلاء الثلاثة، ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وعن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير. وقال ابن القيم رحمه الله: يستحب في الأيام العشر الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد.
أيها الإخوة: وذكر لله من أفضل القربات وأجلها، لذلك حث الله تعالى على الإكثار منه، ورتب عليه الأجور العظيمة والفضائل الجليلة في كتابه وحث عليه رسول الله ﷺ، فقد قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41، 42]، ووعد المكثرين منه بالمغفرة فقال (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:35]. وأفضل الذكر قول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» رواه الترمذي وابن ماجه جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وحسنه الألباني. وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ وهو أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ. لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ» رواه مسلم عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهن الباقيات الصالحات قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» عزاه في الجامع الصحيح للسنن والمسانيد للطبري في تفسيره عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ووصفَ النَّبِيُّ ﷺ الذِكرَ بصفات حسان فقال: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ»؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى» وقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: «مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وصححه الألباني. والذكر سبب في حياة القلب قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ» رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وهنا تنبيه مهم: هل الأفضل شغل الوقت بقراءة القرآن أو شغله بالذكر.؟ نقول الفضل فيهما حسب الوقت والحال، فالأوراد والأذكار المحددة بوقت أو حال كأدبار الصلوات، وإجابة المؤذن عند النداء، والإكثار من الصلاة على النَّبِيِّ ﷺ في يوم الجمعة، وما ماثلها الاشتغال فيها أولى من تلاوة القرآن، وما تبقى من وقت يسع للتلاوة.
اللهم أحيي قلوبنا بذكرك وزدنا من جزيل فضلك وبارك اللهم لنا بالقرآن العظيم وانفعنا..
الخطبة الثانية
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ عزّ وجلّ، فهي وصيّتُه اللاّزمةُ وفرضُه المتَحتِّمُ.
أيها الإخوة: اعلموا أنه ينبغي لنا استشعارُ نعمةِ إدراكِ العشرِ واغتنامُ فرصتِها، وأن نخُّصَها بمزيدِ عنايةٍ، ونُعظِّمَها أشد التعظيم ونُكثر فيها من العمل الصالح، من الصلاةِ والقراءةِ والذكرِ والدعاءِ والصدقةِ والإنفاقِ في سُبلِ الخيرِ والشفقةِ على الضعفاءِ ورحمةِ الفقراء وبرِ الوالدين وصلةِ الأرحام والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والدعوةِ إلى الله، وغيرِ ذلك من طرقِ الخيرِ وسبلِ الطاعة، ونتجنب إضاعتها أو شغلها بمعصية.
وينبغي لكل واحد منا أن يجلس مع نفسه ساعةً قبل حلول العشر، ويضع له أهدافًا محددة ويلتزم بتنفيذها كحدٍ أدنى؛ من ذلك التخطيطُ لقراءةِ ختمة أو أكثر في العشر، وصيامِها أو على الأقل صيامُ ثلاثة أيام منها يُتحرى الأفضل مثل الاثنين والخميس ويوم عرفة، الجلوس بعد صلاة الفجر بالمصلى للذكر والقراءة حتى تطلع الشمس ويصلي بعده ركعتين أو أكثر، نتصدق كل يوم بصدقة ولو قليلة، نعزم أن نبكر للمسجد لصلاة الجماعة ويوم الجمعة.. وأن نكثر في كل أوقاتها من أفضل الأعمال فيها وأسهلها وهو الذكر.. ويمكن أن يكون لنا جلسة في أول النهار وآخره للذكر، وأفضل الذكر بالعشر التكبير الوارد، والعشر أوسع وقت للتكبير المطلق..
وبعد أحبتي: لنحرص على استثمار مواسم الخير، فإنها سريعة الانقضاء.. والرحيل قريب.. والطريق مخوف.. والاغترار غالب.. والخطرُ عظيمٌ.. وإلى الله تعالى المرجعُ والمآب.. فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
وصلوا وسلموا على نبيكم..