أَفْرِحْ رَبَّكَ بِتَوْبَتِكَ
راشد بن عبد الرحمن البداح
13 جمادى الآخرة 1441هـ. إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ. مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ:
طفلٌ غاضَب أمه، فغضِبَتْ عليه، فأرادتْ أن تُعاقبَه ، فهربَ، فلحِقَتْه، ففرَّ إلى الشارعِ، فأغلقتْ دونَه البابَ، وقالتْ: لنْ أفتحَ لكَ! وبعدَ ساعةٍ تلفَّت، فلم يجِدْ بُدًا من الرجوعِ، فوضعَ رأسَه على عَتبةِ البابِ، فنامَ، فلما استيقظَ وهو على حالٍ قاسيةٍ، جعلَ يَبكى، ويقولُ: يا أُمَّاه، مَن يفتحُ ليَ البابَ إذا أَغلقتِ عني بابَكِ، ومن يُدنيني إذا طردِتيني، ومَن ذا الَّذِي يُؤويني بعد أنْ غضِبتِ عليَّ؟
فقامتْ أمُه فنظرَتْ من خَلَلِ البابِ، فوجَدَتْ ولدَها تجري الدموعُ على خدِه متمرِّغًا في الترابِ، فَرَحِمَتْهُ أمُه، ففتَحتِ البابَ، وأخذَتْه حتى وضعَتْه في حِجْرها، وجعلَتْ تُقبِّله وتقولُ: يا قُرَّةَ عيني، أنتَ الَّذِي حملتَني عَلَى نفسِك، وأنتَ الَّذِي تعرَّضتَ لما حَلَّ بكَ، لو كنتَ أطعتَني لم تلْقَ مني مكروهًا([1]).
فيا مَن زلَّتْ قدَمُه، وضعُفَتْ نفْسُه، وتغلَّبَ عليهِ شيطانُه، فوقعَ فيما حرَّمَ اللهُ: أيقِنْ مِن قلبِك أنك إذا تُبتَ أحبكَ اللهُ حبًا خاصًا. يا عَجبًا: أيحبُني اللهُ إذا تُبْتُ؟! إي واللهِ يحبُك! ألم تقرأْ قولَ ربِك:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}[البقرة: 222]
ولكنْ ذنوبي أينَ تذهبُ؟! وأينَ منها المهربُ؟!
الجوابُ: خذْ هذا المثالَ العجيبَ: هذا محبوبٌ لك ربيتَه وأحببتَه حُباً شديداً، ونهيتَه أن ينخدعَ بالأعداءِ، ولكنَّه تَهاوَنَ، فأسَرَه عدوُك على حينِ غفلةٍ، وأنتَ تعلمُ أن العدوَ سيسومُه سوءَ العذابِ، ثم إنه انفلتَ من عدوِه، ووافاكَ على غيرِ ميعادٍ، فلم يفجأكَ إلا وهوَ على بابِكَ يَتملقُكَ، ويَترضاكَ، فكيفَ يكونُ فرحُك به؟! هذا ولستَ الذي خلقتَه، وأسبغتَ عليه النِّعمَ([2]).
طابِقْ هذا المثالَ بهذا الحديثِ المفرحِ المُسِحِّ للدمعِ:
قَالَ نبيك e: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي. فَرَجَعَ (فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ) (فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ)([3]) ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ (وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا. ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ! أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ. فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ.)([4]).و(أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الظَّمْآنِ الْوَارِدِ، وَمِنَ الْعَقِيمِ الْوَالِدِ)([5]).
فأَيُّ فرحةٍ تعدِلُ فرحته؟ولوكانَ في الوجودِ فَرَحٌ أعظمُ منه لمثَّلَ به النبيُe [6]). فيا مُذنبُ–وكلُّنا ذو ذنبٍ-: أفرِحْ ربَك بتوبتِك، "وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا"([7]).
ومِن حِكمتِه البالغةِ: أن قدَّر الذنبَ لما يترتبُ عليهِ من هذا الفَرَحِ العظيمِ([8]). مع أنه إنَّما يعودُ نفعُ التوبةِ إلينا دونَه، ولكنْ هذا مِن كمالِ جودِهِ، وإحسانِهِ إلى عبادِهِ، ومحبتِهِ لنفعِهِم، ودفعِ الضررِ عنهم، فهو يُحِبُّ أن يَعلَمُوا أنه لا يَغفرُ الذنوبَ غيرُه، وأنَّه قادرٌ على مغفرةِ ذنوبِ عبادِهِ، كما في الحديثِ: "مَن علِمَ منكم أنِّي ذو قُدرةٍ على المغفرةِ، ثم استغفرَني، غفرتُ له ولا أُبالي"([9]).
فقدْ قالَ الفضيلُ بنُ عياضٍ-رحمهُ اللهُ- لرجلٍ: كمْ أتتْ عليكَ؟ قال: ستونَ سنةً، قال:فأنتَ منذُ ستينَ سنةً تسيرُ إلى ربِّك؛ يُوشِكُ أن تَبلُغَ! فقالَ الرجلُ:إنا للهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ! فقالَ الفضيلُ:هلْ تعرفُ تفسيرَ ما تقولُ؟ قال: لا، قالَ: أنتَ للهِ عبدٌ، وإليهِ راجِعٌ، فمَن عَلِمَ أنهُ للهِ عبدٌ، وأنه إليهِ راجعٌ، فليَعْلَمْ أنه موقوفٌ، ومَنْ عَلِمَ أنه موقوفٌ، فليَعلمْ أنه مسؤولٌ، ومَن علِمَ أنه مَسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤالِ جواباً، فقالَ: الرجلُ: فما الحِيلةُ؟ قال:يَسيرةٌ، قال:ما هيَ؟ قال: تُحسِنُ فيما بَقِيَ يُغفرُ لك ما مضى، فإنْ أسأتَ فيما بقيَ أُخذتَ بما مَضى، وبما بقيَ([10]).
فلا تيأسْ مِنْ رحمتهِ، ولو تكررَ الذنبُ منكَ ملايينَ المراتِ {قُلْ يَا عِبَادِيَ} سبحانَك نفتخرُ أننا عبادُك! {الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ليسَ أذنَبُوا، بل أسرَفُوا {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
وثمتَ وصيتانِ جليلتانِ لمن تابَ وقلبُه معلقٌ بالمعصيةِ:
- أن تُكثرَ من دعاءِ ربِك قائلاً: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ.
- الوصيةُ الأُخرى: داوِمَ ذكرَ اللهِ واستغفارَه. وإليكَ هذهِ البشارةَ: قَالَ e: مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ".
اللهم ارزقْنا توبةً قبلَ الموتِ، اللهم أحسِنْ خواتيمَنا.
اللهم يا مَن يَكفي مِن كلِّ أحدٍ، ولا يَكفي عنه أحدٌ. اللهم اجعلنا أغنَى خلقِك بك، وأفقرَ عبادِك إليكَ. وبارِكْ في أرزاقِنا واقضْ ديونَنا.
اللهم احفظْ علينا دينَنا وأعراضَنا، واحفظْ جنودَنا وحدودَنا، وارزقْنا مزيدَ التبصرِ بكيدِ متبِعي الشهواتِ، الذين يُريدونَ أن نميلَ ميلاً عظيمًا.
اللهم احفظْ وليَ أمرِنا ووليَ عهدِه، وارزقهُم بطانةَ الصلاحِ، واكفِنا وإياهم وبلادَنا شرَّ الأشرارِ، وكيدَ الفجارِ، والحاسدينَ والمتربصينَ.
اللهم إنا نعوذُ بك من سَيء الأسقامِ [ 3 ]
اللهم لك الحمدُ على التدفئةِ برغم البردِ. اللهم لك الحمدُ على أن رزقتَنا عامَنا المنصرمِ بالغيثِ المِدرارِ، وبالربيعِ والنُّوَّارِ. اللهم إنه لا غِنى لنا عن فضلِكَ وبركتِكَ. اللهم أغِثْنا، اللهم اسقِنا الغيثَ ولا تجعلْنا منَ القانطينَ.
([1]) بتصرف من : مجموع رسائل ابن رجب (1/ 150)
([5])علل الدارقطني = العلل الواردة في الأحاديث النبوية (7/ 269)
([6])طريق الهجرتين و باب السعادتين (ص: 359)
([7])سنن الترمذي ت بشار (1987)
([8])الفوائد لابن القيم (ص: 134) الصواعق المرسلة (4/ 1461)
المرفقات
أفرِح-ربك-بتوبتك
أفرِح-ربك-بتوبتك
أفرِح-ربك-بتوبتك-2
أفرِح-ربك-بتوبتك-2