أعوذ بك من شرّ نفسي
سامي بن محمد العمر
أعوذ بك من شرّ نفسي
أما بعد:
كيف يصح الحال إذا استسلم الفتيُّ وضُعف القوي؟
كيف يصح الحال إذا ترجل الفارس واستسلم الحارس؟
كيف يصح الحال إذا وضع الحبل على الغارب، وبلا ربان أبحر القارب؟
إن من آيات الله الباهرة وعجائبه الظاهرة أن ركّب في الأجساد عقلاً ونفساً..
فأما العقل: فلكي يدل ويهدي، ويتفكر ويعتبر.
وأما النفس: فهي التي تشتهي وتهوى وترغب، وتحب وتكره، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، همها تحقيق رغباتها، وإشباع نزواتها، والوصولُ إلى لذاتها وشهواتها؛ فتجمح لها كلما غفل المراقب، وتقتحم غمراتها دون نظر في العواقب.
فهي كالطفل تماما بحاجة لقائد يراقبه، ويحتويه ويتابعه، ويأمره بالصواب ويرشده، وينهاه عن الخطأ ويمنعه، ويقطع الضرر عنه ويفطمه.
فإذا عُدِم القائد فحدث ولا حرج عن نكسة الطفل وضياعه، وسوء خلقه وطباعه، وصعوبة نصحه وإقناعه.
والنَّفْسُ كالطِّفْلُ إنْ تُهْمِلُهُ شَبَّ عَلَى***حُبِّ الرِّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
وقائد النفس هو العقل الذي يوقفها حيرانة في كل مرة على مفترق طريقين:
طريقٍ على ناصيته الأنبياء والصالحون وعباد الله المتقون، وطريقٍ على ناصيته شياطين الجن والإنس وأهل الشهوات والشبهات، وأرباب اللذات والمغريات :
{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا}
فإن كان القائد قوياً أمر النفس أن تجيبهم {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71]
ولكن مال الحال إذا استسلم الفتي وضعف القوي؟
ما الحال إذا ترجل الفارس وغفل الحارس؟
النفس بلا قائد من عقل، كالبعير الهائج وكالفرس الجموح ستقول قبل أن تعلم، وتجيب قبل أن تفهم، وتعزم قبل أن تفكّر، وتقطع قبل أن تقدّر، وتحمد قبل أن تجرّب، وتذمّ قبل أن تخبر، وتلك علامات فقدان السلامة ومصاحبة الندامة([1]).
والعقل الذي يطلق للنفس تحقيق رغباتها فإنها تتسلط عليه، حتى تصل إلى درجة أن لا تبالي بنصائحه، ولا تلتفت لمواعظه، وربما ضعف جداً حتى تستخدمه في تبرير أخطائها، وتسهيل شهواتها.
فكم من صاحب عقل هو للسفه أقرب؛ حين سلّم القياد لغير مجرب، وأرخى العنان لكل مخرب.
تأملوا ما قصه الله تعالى من حال هؤلاء الكفرة حين غلبتهم شهوات أنفسهم؛ ألم يكن لهم عقول؟
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [البقرة: 75، 76]
وتأملوا كيف تفعل نفس الأخ الجامحة لشهواتها بأخيه؛ ابن أمه وأبيه..
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30]
وتذكروا إخوة يوسف وما قادتهم إليه أنفسهم من إيذاء أخيهم بلا ذنب فعله ولا جرم اقترفه فقال أبوهم عليه السلام :
{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف: 18]
وهذا السامري من بني إسرائيل يُقدم على جريمته النكراء بدعوة قومه لعبادة العجل ثم يذكر السبب فيقول {وكذلك سولت لي نفسي}
فآهٍ من أثر النفس على العقل بتسويلها، وتطويعها وتسهيلها، وتزيينها وتجميلها، وإصرارها وإلحاحها.
فلا عجب أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم حبيبه أبا بكر رضي الله عنه أن يقول كل صباح ومساء :( اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة؛ رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا، أو أجره إلى مسلم) رواه الترمذي وحسنه.
والله تعالى قد ركب العقل قائداً للنفس في أصل خلقة الإنسان
{ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}
فمن نمى عقله بالإيمان والعلم والتجربة ملك قياده على النفس إلى أن يموت مفلحاً {قد أفلح من زكاها} ومن أنزل قائده من فرسه وأرخى لها العِنان قادته لمرابع الخسران {وقد خاب من دساها}
وَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إِذَا رَغَّبْتَهَا*** وَإِذَا تُرَدُّ إِلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فمن منن الله المتتابعة ما نسمعه هذه الأيام من انحسار الوباء وقلة أعداد الإصابة به وكثرة التعافي، فلله الحمد من قبلُ ومن بعد.
وإن من شكر الله تعالى على نعمه أن نستمر على ما ألهمنا به من تحرزات واحتياطات، وما حبانا به من تعاون مع السلطات؛ فلا تهاون ولا انتكاس حتى تعود الأمور إلى مجاريها، وتنتعش الحياة في سواقيها، فقد مضى الكثير وبقي القليل، والأمل في الله كبير أن يرفع الوباء ويكشف البلاء إنه سميع قريب
اللهم أعز الإسلام والمسلمين....