أَعُوذُ باللَّهِ مِن شَرِّ هذا الرَّاكِبِ! 1445/10/24ه

يوسف العوض
1445/10/20 - 2024/04/29 10:23AM

الخطبة الأولى

عِبَادَ اللهِ : جاءَ فِي صحيحِ مُسلمٍ حديثٌ : "كانَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ في إبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قالَ: أَعُوذُ باللَّهِ مِن شَرِّ هذا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ فَقالَ له: أَنَزَلْتَ في إبِلِكَ وَغَنَمِكَ، وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ المُلْكَ بيْنَهُمْ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ في صَدْرِهِ، فَقالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَنِيَّ، الخَفِيَّ".

عِبَادَ اللهِ : النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُربِّي أصحابَه رَضيَ اللهُ عنهم على ما هو خَيرٌ لهم في الدِّينِ والدُّنيا والآخرةِ، وبَيَّن لهم أنَّ الأفضَلَ للعبدِ أنْ يكونَ مُستغنِيًا عن النَّاسِ مُقبِلًا على اللهِ دونَ رِياءٍ ، وفي هَذا الحديثِ يَرْوي عامرُ بنُ سَعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ أنَّ أباهُ سَعدَ بنَ أَبي وَقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه كانَ في إِبِلِه يَرعاها في الباديةِ في مَوضعٍ يُسمَّى العَقيقَ على بُعدِ عشَرةِ أميالٍ مِن المدينةِ، فَجاءَه ابنُه عُمرُ، فَلمَّا رَآه سَعدٌ آتيًا، قال سَعدٌ: أَعوذُ باللهِ وأتحَصَّنُ به مِن شَرِّ هَذا الرَّاكبِ، يَقصِدُ ولَدَه عُمرَ؛ حَذرًا إنْ كانَ قدْ أتى بأَمرٍ فيه شرٌّ لَه، وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّه كان زمَنَ الفتنةِ والتَّنازُعِ على أمرِ الخلافةِ، وكان رَضيَ اللهُ عنه ممَّن قَعَد عن الفتنةِ بعْدَ مَقتَلِ الخليفةِ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رَضيَ اللهُ عنه، ولَزِمَ بَيْتَه، وأمَرَ أهْلَه ألَّا يُخبِروه مِن أخبارِ النَّاسِ بشَيءٍ حتَّى تَجتمِعَ الأُمَّةُ على إمامٍ، وكان ابنُه عُمرُ ممَّن اشتَغَل بأمرِ الفتنةِ وقاتَلَ فيها ، فنَزَل عُمرُ مِن على دابَّتِه ودَنا مِن أبيه، فَقال له: «أَنَزَلْتَ في إِبِلكَ وغَنَمِك وتَركْتَ النَّاسَ يَتنازَعون المُلكَ بيْنَهم» أي: يَتخاصَمون ويَتقاتَلون أيُّهم يَأخُذُه؟ يَحُضُّه عُمرُ بذلك على أنْ يُشارِكَ في أمرِ المُلكِ والخلافةِ ، فلمَّا سَمِعَه سَعدٌ رَضيَ اللهُ عنه ضَرَبَه في صَدرِه، تأديبًا له على قَولِه هذا؛ لأنَّ مِثلَه لا يَنْبغي له أنْ يُخاطِبَ سَعدًا بمِثلِ هذا الخطابِ؛ لأنَّه أعلَمُ منه بأُمورِ الشَّريعةِ، وقال له: «اسْكُتْ»؛ لأنَّ في كلامِه حثًّا على المشارَكةِ في إراقةِ دِماءِ المسْلِمين، وذَكَرَ لَه قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ اللهَ يُحبُّ العَبدَ التَّقيَّ الغنيَّ الخَفيَّ»، والتَّقيُّ هُو الآتي بِما يَجبُ عَليه ويَمتثِلُ المأموراتِ، والغَنيُّ هو غَنيُّ النَّفْسِ؛ فصاحِبُ القَناعةِ رَضِي بما قَسَم اللهُ تَعالَى له ولا يَطلُبُ المُلكَ والإمارةَ، هُو الغَنيُّ ولَيس كَثيرَ المالِ، وهذا هو الغنيُّ المحبوبُ، والخَفيُّ هو الخامِلُ المُنقطِعُ إِلى العِبادةِ والاشتِغالِ بأُمورِ نَفسِه، ولا يُريدُ العُلوَّ ولا الظُّهورَ في مَناصبِ الدُّنيا، فيَبْقى خاملًا، والإشارَةُ  بالخَفيِّ إِلى خُمولِ الذِّكْرِ والشُّهرةِ عندَ النَّاسِ، فالغالِبُ عَلى الخاملِ السَّلامَةُ.

                                                  اَللَّهُمَّ اُسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوعَاتِنَا

الخطبة الثانية

عِبَادَ اللهِ : َمَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا إِلَى هَذَا اَلنَّمُوذَجِ  نَمُوذَجِ اَلْمُسْلِمِ ، اَلتَّقِيِّ ، اَلْغَنِيِّ ، اَلْخَفِيِّ ، اَلَّذِي لَا يَسْعَى لِلشُّهْرَةِ ، وَلَا يَحْرِصُ عَلَيْهَا ، وَلَا يَجْعَلُهَا قِيمَةً أَوْ مِعْيَارًا لِلنَّجَاحِ ! وَالْمُشْكِلَةُ أَنَّ اَلنَّمُوذَجَ اَلَّذِي يُلِحُّ بِشِدَّةِ عَلَى اَلْأَجْيَالِ اَلنَّاشِئَةِ هُوَ عَكْسُ ذَلِكَ تَمَامًا ، فَمِعْيَارُ اَلنَّجَاحِ أَغْلَبُهُ كَمِّيٌّ عَدَدَيٌّ لَا كَيْفِي ، وَدَعَائِي لَا حَقِيقِي ، وَقَائِمٌ عَلَى اَلظُّهُورِ وَالْإِعْلَانِ وَالتَّرْوِيجِ لِلنَّفْسِ ، لَا اَلْحِرْصُ عَلَى اَلْخَفَاءِ وَالْأَسْرَارِ ، كَمَا أَنَّهُ مُولَعٌ بِالصُّورَةِ وَمُشَارَكَةِ اَللَّقْطَةِ ، وَالْحَدِيثِ عَنْ اَلْإِنْجَازَاتِ ، وَالْحِرْصِ عَلَى اَلْقَفْزِ اَلسَّرِيعِ لَا اَلتَّأَنِّي وَالرُّسُوخ ، وَالنُّضْجِ اَلَّذِي يَحْتَاجُ لِوَقْتٍ وَجُهْدٍ جَهِيدٍ ، وَقَدْ رَسَّخَتْ وَسَائِلُ اَلتَّوَاصُلِ اَلْحَدِيثَةِ هَذَا اَلنَّمُوذَجَ اَلْمُشَوَّهَ ، فَمِعْيَارُ اَلنَّجَاحِ هُوَ عَدَدُ اَلْمُشَاهَدَاتِ عَلَى اَلْيَوَتِيوب ، وَاَلَّتِي صَارَتْ تَجْلِبُ مَالاً ، وَعَدَدُ اَلْمُتَابِعِينَ أَوْ اَلتَّفَاعُلَاتِ عَلَى مَوَاقِعِ اَلتَّوَاصُلِ اَلِاجْتِمَاعِيِّ ، وَرُبَّمَا صَارَ اَلْأَنْجَحُ هُوَ اَلْأَتْفَهُ ، أَوْ اَلْأَكْثَرُ خِبْرَةً بِفُنُونِ اَلدَّعَايَةِ ، وَجَذْبِ اَلْمُشَاهِدِينَ ، وَالتَّرْوِيجِ لِلنَّفْسِ ، وَإِحْدَاثِ فَرْقَعَاتٍ مُدَوِّيَةٍ ، وَمَعَ حَالٍ كَهَذَا نَسْأَلُ اَللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ وَيَكْثُّرَ مِنْ تِلْكَ اَلثُلَّةِ اَلْعَظِيمَةِ مِنْ ( اَلْأَتْقِيَاءِ الْأُخَفْيَاءِ ) اَلْمُتَنَاثِرِينَ هُنَا وَهُنَاكَ ، وَالْمُقِيمِينَ عَلَى ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ خِدْمَةِ اَلدَّيْنِ - عِلْمًا أَوْ دَعْوَةً أَوْ تَعْلِيمًا أَوْ نَفْعًا لِلْخَلْقِ ، أَوْ ذَوْدًا عَنْ حِمى اَلْمِلَّةِ - حَتَّى يَأْتِيهِمْ اَلْأَجَلُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَهَؤُلَاءِ اَلْقَوْمُ لا يَشْغَلُهُمْ قَطُّ أَنْ يَعْرِفَهُمْ اَلنَّاسُ ، وَلَا أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِمْ بِالْبَنَانِ ، وَلَا أَنْ يَكُونُوا نُجُومًا مَلْءَ اَلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ ، أَوْ أَنْ تَشَيَّعَهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ اَلْجَمَاهِيرُ اَلْغَفِيرَةُ ، أَوْ تُقَالَ فِيهِمْ قَصَائِدُ اَلرِّثَاءِ ، وَرُبَّمَا عَاشَ أَحَدُهُمْ وَمَاتَ وَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا اَلْأَقَلُّونَ ! وَهُمْ فِي وَادٍ ، وَالنَّاسُ فِي وَادٍ ، وَيَكْفِيهِمْ أَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ فِي اَلْمَلَأِ اَلْأَعْلَى ، وَمَذْكُورُونَ فِي أَعْلَى اَلْمَقَامَاتِ ، وَلَيْتَ .شِعْرِي مَاذَا فَقَدَ مِنْ وَجَدَ اَللَّهَ ، وَمَاذَا وَجَدَ مِنْ أَعْرِضَ عَنْ مَوْلَاهُ وَكَفَى بِهِ سُبْحَانَهُ وَلِيًّا وَنَصِيرًا

                                 اَللَّهُمَّ آتِنَا فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ اَلنَّارِ

المرفقات

1714459542_الراكب.docx

المشاهدات 854 | التعليقات 3

نفع الله بك وبارك فيك


 وإياكم وجزاك اله خيرا


 وإياكم وجزاك اله خيرا