أعمال ثوابها كقيام الليل
محمد بن إبراهيم النعيم
1438/02/29 - 2016/11/29 19:01PM
خطبة د. محمد بن إبراهيم النعيم-رحمه الله- 13/5/1430هـ
الحمدلله ....
فإن لقيام الليل شأن عظيم عند الله -عز وجل- ، فأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل ، ومن مزاياه أنه لا يكفر الذنوب فحسب ، وإنما ينهى صاحبه عن الوقوع في الآثام ؛ لما رواه أبو أمامة الباهلي –رضي الله عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه قال : (عليكم بقيام الليل ، فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وقربة إلى ربكم ، ومكفرة للسيئات ، ومنهاة للإثم) رواه الترمذي والحاكم.
وكان السلف -رحمهم الله تعالى- بل وأجدادنا إلى عهد قريب لا يفرطون في قيام الليل ، أما في هذا العصر فقد انقلب ليل كثير من الناس إلى نهار وسهر ، وفوتوا عليهم لذة مناجاة الله تعالى بالليل ، ووصل تفريطهم إلى ترك صلاة الفجر .
فعندما زار طاووس بن كيسان -رحمه الله تعالى- رجلا في السحر فقالوا : هو نائم ، قال : ما كنت أرى أن أحدا ينام في السحر، فلو زارنا طاووس بن كيسان -رحمه الله تعالى- اليوم فماذا عساه أن يقول عنا يا ترى ؟
إن من رحمة الله -عز وجل-بعباده أنه وهبهم أعمالا يسيرة يعدل ثوابها قيام الليل، فمن فاته قيام الليل أو عجز عنه فلا يُفوّت عليه هذه الأعمال لتثقيل ميزانه، وهذه ليست دعوة للتقاعس عن قيام الليل، إذ لم يفهم سلفنا الصالح -رحمهم الله تعالى-ذلك، بل كانوا ينشطون في كل ميادين الخير.
كما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد دل صحابته الكرام على بعض الأعمال السهلة لمن لم يستطع مجاهدة نفسه على قيام الليل ، رغبة منه –صلى الله عليه وسلم- في حثنا على فعل الخير لتكثير حسناتنا ، حيث روى أبو أمامة الباهلي-رضي الله عنه- قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (من هاله الليل أن يكابده ، أو بخل بالمال أن ينفقه ، أو جبن عن العدو أن يقاتله ، فليكثر من سبحان الله وبحمده ، فإنها أحب إلى الله من جبل ذهب ينفقه في سبيل الله عز وجل) رواه الطبراني.
والأحاديث التي سأوردها إنما هي فضائل أعمال ثوابها كقيام الليل، أهداها لنا رسولنا –صلى الله عليه وسلم- لزيادة حسناتنا وتثقيل ميزاننا ، فحري بنا العمل بها والتي من أهمها :
(1) أداء صلاة العشاء والفجر في جماعة
عن عثمان بن عفان –رضي الله عنه- أنه قال : قال رَسُول اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- : (مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ ، وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ) رواه مسلم.
لذلك ينبغي الحرص على أداء الفرائض في المسجد جماعة ، وأن لا نفوتها البتة لعظم أجرها ، خصوصا العشاء والفجر ، فهما أثقل الصلوات على المنافقين ، ولو يعلمون ما فيهما من أجر لأتوهما ولو حبوا كما أخبر بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-، ومن ثوابهما أن لكل واحد منهما ثواب قيام نصف ليلة .
(2) أداء أربع ركعات قبل صلاة الظهر
عن أبي صالح رحمه الله تعالى مرفوعا مرسلا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : (أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ يَعْدِلْنَ بِصَلاَةِ السَّحَرِ) رواه ابن أبي شيبة.
ومن مزايا هذه الركعات الأربع أنها تُفتح لها أبواب السماء، لما رواه أبو أيوب الأنصاري –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : (أربع قبل الظهر تفتح لهن أبواب السماء) رواه أبو داود.
ولهذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يحرص كل الحرص على أداء هذه الركعات ، وإذا فاتته لأي ظرف طارئ قضاها بعد الفريضة ولا يتركها ، حيث روت عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت : كان إذا لم يُصلِّ أربعا قبل الظهر ، صلاهن بعدها. رواه الترمذي، وفي رواية أخرى قالت: كان إذا فاته الأربع قبل الظهر صلاها بعد الظهر. رواه البيهقي.
ولذلك من فاته صلاة الأربع ركعات، أو لم يتمكن من أدائها لظروف عمله؛ مثل بعض المعلمين فلا حرج من قضائها بعد انتهاء عمله ورجوعه إلى منزله.
قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله تعالى-: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى السُّنَنِ الَّتِي قَبْلَ الْفَرَائِضِ، وَعَلَى اِمْتِدَادِ وَقْتِهَا إِلَى آخِرِ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ، وَذَلِكَ لأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَوْقَاتُهَا تَخْرُجُ بِفِعْلِ الْفَرَائِضِ لَكَانَ فِعْلُهَا بَعْدَهَا قَضَاءً وَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى فِعْلِ سُنَّةِ الظُّهْرِ, وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهَا تُفْعَلُ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ, ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ الْعِرَاقِيُّ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . اهـ.
(3) أداء صلاة التراويح كلها مع الإمام
عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغفاري –رضي الله عنه- قَالَ : صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- رَمَضَانَ ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ، فَلَمَّا كَانَتْ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا ، فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ ، قَالَ : فَقَالَ : (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ) رواه أبو داود والترمذي.
وهذا أمر ينبه عليه كثير من أئمة المساجد في رمضان، فتراهم يحثون المصلين على أداء صلاة التراويح كاملة مع الإمام، ولكن البعض يتقاعس عن هذه الشعيرة التي أصبحت تميز شهر رمضان عن بقية الشهور، وقد قال عنها النبي –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه.
وكذلك الحال مع ليلة القدر؛ فقيامها يفضل على قيام ألف شهر، لقوله عز وجل لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فالعجب كل العجب ممن يفرط في هذه الليلة العظيمة.
(4) قراءة مئة آية في الليل
عَنْ تَمِيمٍ الداريّ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَرَأَ بِمِئَةِ آيَةٍ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قُنُوتُ لَيْلَةٍ) رواه أحمد.
وقراءة مئة آية أمر سهل لن يقتطع من وقتك أكثر من عشر دقائق، ويمكن أن تدرك هذا الفضل إن كان وقتك ضيقا بقراءة أول أربع صفحات من سورة الصافات مثلا، أو قراءة سورة القلم والحاقة.
وإذا فاتتك قراءتها بالليل فاقضها ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، ولا تكسل عنها، تدرك ثوابها بإذن الله تعالى ؛ لما رواه عمر بْنُ الْخَطَّابِ –رضي الله عنه- قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- : (مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الظُّهْرِ ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ) رواه مسلم.
قال المباركفوري -رحمه الله تعالى- معلقا على حديث عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اِتِّخَاذِ وِرْدٍ فِي اللَّيْلِ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَضَائِهِ إِذَا فَاتَ لِنَوْمٍ أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ الأَعْذَارِ , وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهُ مَا بَيْنَ صَلاةِ الْفَجْرِ إِلَى صَلاةِ الظُّهْرِ ، كَانَ كَمَنْ فَعَلَهُ فِي اللَّيْلِ ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا مَنَعَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً اهـ .
ولعل هذا الحديث يستحثك على أن يكون لك ورد يومي من القرآن خصوصا في الليل.
ألا تعلم بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- حثنا على قراءة عشر آيات على الأقل بالليل كي لا نكتب من الغافلين؟
فقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : (من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين ، ومن قام بمئة آية كُتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين) رواه أبو داود.
فهل نحرص على قراءة كتاب الله عز وجل؟ ينبغي أن لا يكون ختمنا له مقتصرا على شهر رمضان فحسب، وإنما يكون ذلك طوال العام.
ولعل الحرص على قراءة مئة آية يوميا للحصول على ثواب قيام ليلة انطلاقة مباركة لحثنا على ملازمة كتاب الله عز وجل.
(5) قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في الليل
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- : (مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) متفق عليه.
قال النووي -رحمه الله تعالى- : قِيل : مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ مِنْ قِيَام اللَّيْل ، وَقِيلَ : مِنْ الشَّيْطَان, وَقِيلَ : مِنْ الآفَات, وَيَحْتَمِل مِنْ الْجَمِيع اهـ .
وأيَّد ابن حجر -رحمه الله تعالى- هذا الرأي قائلا : وَعَلَى هَذَا فَأَقُول : يَجُوز أَنْ يُرَاد جَمِيع مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَم ، وَالْوَجْه الأَوَّل ورد صَرِيحًا مِنْ طَرِيق عَاصِم عَنْ عَلْقَمَة عَنْ أَبِي مَسْعُود رَفَعَهُ : "مَنْ قَرَأَ خَاتِمَة الْبَقَرَة أَجْزَأَتْ عَنْهُ قِيَام لَيْلَة" اهـ.
إن قراءة هاتين الآيتين أمر سهل جدا ومعظم الناس يحفظونهما ولله الحمد، فحري بالمسلم المحافظة على قراءتها كل ليلة، ولا ينبغي الاقتصار على ذلك لسهولته وترك بقية الأعمال الأخرى التي ثوابها كقيام الليل؛ لأن المؤمن هدفه جمع أكبر قدر ممكن من الحسنات، كما أنه لا يدري أي العمل سيُقبل منه.
قال عبد الله بن عمير -رحمه الله تعالى- : "لا تقنعن لنفسك باليسير من الأمر في طاعة الله -عز وجل- كعمل المهين الدنيء ، ولكن اجتهد فعل الحريص الحفي" اهـ. (حلية الأولياء) .
(6) حسن الخلق
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ قَائِمِ اللَّيْلِ صَائِمِ النَّهَارِ) رواه أحمد.
قال أبو الطيب محمد شمس الدين آبادي -رحمه الله تعالى- : "وَإِنَّمَا أُعْطِيَ صَاحِب الْخُلُق الْحَسَن هَذَا الْفَضْل الْعَظِيم ؛ لِأَنَّ الصَّائِم وَالْمُصَلِّي فِي اللَّيْل يُجَاهِدَانِ أَنْفُسهمَا فِي مُخَالَفَة حَظّهمَا , وَأَمَّا مَنْ يُحْسِن خُلُقه مَعَ النَّاس مَعَ تَبَايُن طَبَائِعهمْ وَأَخْلَاقهمْ ، فَكَأَنَّهُ يُجَاهِد نُفُوسًا كَثِيرَة ، فَأَدْرَكَ مَا أَدْرَكَهُ الصَّائِم الْقَائِم فَاسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَة ، بَلْ رُبَّمَا زَادَ" اهـ (عون المعبود) .
وحسن الخلق يكون بتحسين المعاملة مع الناس وكف الأذى عنهم.
إن المرء لم يُعط بعد الإيمان شيئا خيرا من خلق حسن، ولقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يسأل ربه عز وجل أحسن الأخلاق ، حيث روى جابر بن عبد الله –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان إذا استفتح الصلاة كبر ثم قال : (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ، اللهم اهدني لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، وقني سيئ الأعمال وسيئ الأخلاق ، لا يقي سيئها إلا أنت) رواه مسلم.
وكذلك يفعل –صلى الله عليه وسلم- كلما نَظَرَ في المِرآة ، حيث روى ابن مسعود –رضي الله عنه- قال : كان رسول اللّه –صلى الله عليه وسلم- إذا نظر في المرآة قال : (اللهم كما حسنت خَلْقِي فحسن خُلُقِي) رواه أحمد وابن حبان.
وصاحب الخلق الحسن من أحب الناس إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأقربهم إليه مجلسا يوم القيامة، روى لنا ذلك جابر –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة؛ أحاسنكم أخلاقا) رواه أحمد والترمذي.
وسيجعل الله عز وجل لصاحب الخلق الحسن قصرا في أعلى الجنة؛ لعظم ثوابه وتكريما له؛ لما رواه أبو أُمَامَةَ الباهلي –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال : (أنا زَعِيمٌ ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك الْمِرَاءَ وإن كان محقا ، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسَّنَ خُلُقَهُ ) رواه أبو داود والبيهقي.
وينبغي أن لا يكون حسن خلقك مقصورا على الأباعد من الناس فقط، وتنسى أقرب الناس إليك ، وإنما أن يمتد أيضا إلى والديك وأفراد أسرتك، فبعض الناس تراه مرحا وسيع الصدر ودمث الأخلاق مع الناس ولكنه على خلاف ذلك مع أهله وأولاده .
(7) السعي في خدمة الأرملة والمسكين
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- : (السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ ؛ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ) متفق عليه.
ويمكن أن تكسب هذا الثواب الجزيل، لو سعيت في خدمة فقير، فقدمت أوراقه لجمعية خيرية مثلا ليدرسوا حالته ويعطوه حاجته.
كما يمكن أن تكسب هذا الثواب العظيم، لو سعيت في خدمة أرملة، وهي التي مات عنها زوجها، فتقضي حوائجها، وهذا ليس بالأمر العسير؛ لأنك لو فتشت في أهل قرابتك ستجد البعض ممن مات عنها زوجها من عمة أو خالة أو جدة، فبخدمتها وشراء حاجياتها تكسب ثواب الجهاد أو قيام الليل.
(8) المحافظة على بعض آداب الجمعة
عن أوْس بْن أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ –رضي الله عنه- قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : (مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ ، وَدَنَا مِنْ الإِمَامِ ، فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ ؛ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا) رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي.
فخطوة واحدة إلى الجمعة ممن أدى هذه الآداب لا يعدل ثوابها قيام ليلة أو أسبوع أو شهر، وإنما يعدل سنة كاملة، فتأمل في عظم هذا الثواب.
وهذه الآداب تتمثل في الاغتسال ليوم الجمعة والتبكير والمشي إليها، والدنو من الإمام، وعدم الابتعاد إلى الصفوف الأخيرة، وحسن الاستماع للخطبة، وعدم العبث واللغو.
ولنعلم أن أي عبث أثناء الخطبة يُعدُّ لغوا، ومن لغا فلا جمعة له، فمن مس الحصى فقد لغا، ومن قال صه فقد لغا: أي من قال لصاحبه أو ابنه الصغير: اسكت فقد لغا، ومن عبث بسبحته أو جواله أو بأي شيء أثناء الخطبة فقد لغا.
ومن لغا وتخطى رقاب الناس ذهب عليه ثواب الجمعة وكانت له ظهرا.
قال–صلى الله عليه وسلم- (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة لما بينها ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا) رواه أبو داود.
فلا ينبغي التفريط بآداب الجمعة البتة؛ كي لا تخسر هذا الثواب العظيم الذي سيثقل ميزانك كثيرا، ويمنحك ثواب قيام سنوات كثيرة.
(9) رباط يوم وليلة في سبيل الله عز وجل
روى سلمان الفارسي –رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول : (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأُجري عليه رزقه ، وأمِنَ الفتَّان) متفق عليه، والفتَّان هو فتنة القبر .
(10) أن تنوي قيام الليل قبل النوم
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ –رضي الله عنه- يرفعه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ) رواه النسائي.
أرأيت أهمية النية وأنها تجري مجرى العمل؟
لذلك ندرك خطورة من ينام وهو لا ينوي أداء صلاة الفجر في وقتها ، وإنما تراه يضبط المنبه على وقت العمل أو المدرسة ، فهذا إنسان مصر على ارتكاب كبيرة من الكبائر ، فلو مات عليها ساءت خاتمته عياذا بالله.
أما من نوى قيام الفجر، وبذل أسباب ذلك ثم لم يقم ، فلا لوم عليه ؛ لأنه ليس في النوم تفريط ، وإنما التفريط في اليقظة .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى وتقربوا إليه بالأعمال الصالحة، وقد عرضت لكم مجموعة من الأعمال الصالحة التي يعدل ثوابها قيام الليل، أهمها أداء صلاتي العشاء والفجر في جماعة، وأداء أربع ركعات قبل الظهر، وقراءة مئة آية في الليل، وحسن الخلق، وقراءة الآيتين من آخر سورة البقرة قبل النوم، والسعي على الأرملة والمسكين، والمحافظة على خمسة آداب من آداب الجمعة وغير ذلك من أعمال جليلة ويسيرة، نسأل الله تعالى أن يحببها إلينا ويزينها في قلوبنا.
وبقي وسيلة أخيرة تكسب بها ثواب قيام الليل ألا وهي
(11) أن تُعلِّم غيرك الأعمال التي ثوابها كقيام الليل
فإن تعليمك الناس للأعمال التي ثوابها كقيام الليل وسيلة أخرى تنال بها ثواب قيام الليل، فالدال على الخير كفاعله، فكن داعية خير، وانشر هذه المعلومات تكسب ثوابا بعدد من تعلم منك وعَمِلَ به .
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله سبحانه:إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]. وقد قال النبي (إن لله تعالى ملكا أعطاه سمع العباد، فليس من أحد يصلي علي إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي أن لا يصلي علي عبد صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها) رواها الطبراني وحسنه الألباني. فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آل بيته الطاهرين.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت ...
الحمدلله ....
فإن لقيام الليل شأن عظيم عند الله -عز وجل- ، فأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل ، ومن مزاياه أنه لا يكفر الذنوب فحسب ، وإنما ينهى صاحبه عن الوقوع في الآثام ؛ لما رواه أبو أمامة الباهلي –رضي الله عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه قال : (عليكم بقيام الليل ، فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وقربة إلى ربكم ، ومكفرة للسيئات ، ومنهاة للإثم) رواه الترمذي والحاكم.
وكان السلف -رحمهم الله تعالى- بل وأجدادنا إلى عهد قريب لا يفرطون في قيام الليل ، أما في هذا العصر فقد انقلب ليل كثير من الناس إلى نهار وسهر ، وفوتوا عليهم لذة مناجاة الله تعالى بالليل ، ووصل تفريطهم إلى ترك صلاة الفجر .
فعندما زار طاووس بن كيسان -رحمه الله تعالى- رجلا في السحر فقالوا : هو نائم ، قال : ما كنت أرى أن أحدا ينام في السحر، فلو زارنا طاووس بن كيسان -رحمه الله تعالى- اليوم فماذا عساه أن يقول عنا يا ترى ؟
إن من رحمة الله -عز وجل-بعباده أنه وهبهم أعمالا يسيرة يعدل ثوابها قيام الليل، فمن فاته قيام الليل أو عجز عنه فلا يُفوّت عليه هذه الأعمال لتثقيل ميزانه، وهذه ليست دعوة للتقاعس عن قيام الليل، إذ لم يفهم سلفنا الصالح -رحمهم الله تعالى-ذلك، بل كانوا ينشطون في كل ميادين الخير.
كما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد دل صحابته الكرام على بعض الأعمال السهلة لمن لم يستطع مجاهدة نفسه على قيام الليل ، رغبة منه –صلى الله عليه وسلم- في حثنا على فعل الخير لتكثير حسناتنا ، حيث روى أبو أمامة الباهلي-رضي الله عنه- قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (من هاله الليل أن يكابده ، أو بخل بالمال أن ينفقه ، أو جبن عن العدو أن يقاتله ، فليكثر من سبحان الله وبحمده ، فإنها أحب إلى الله من جبل ذهب ينفقه في سبيل الله عز وجل) رواه الطبراني.
والأحاديث التي سأوردها إنما هي فضائل أعمال ثوابها كقيام الليل، أهداها لنا رسولنا –صلى الله عليه وسلم- لزيادة حسناتنا وتثقيل ميزاننا ، فحري بنا العمل بها والتي من أهمها :
(1) أداء صلاة العشاء والفجر في جماعة
عن عثمان بن عفان –رضي الله عنه- أنه قال : قال رَسُول اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- : (مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ ، وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ) رواه مسلم.
لذلك ينبغي الحرص على أداء الفرائض في المسجد جماعة ، وأن لا نفوتها البتة لعظم أجرها ، خصوصا العشاء والفجر ، فهما أثقل الصلوات على المنافقين ، ولو يعلمون ما فيهما من أجر لأتوهما ولو حبوا كما أخبر بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-، ومن ثوابهما أن لكل واحد منهما ثواب قيام نصف ليلة .
(2) أداء أربع ركعات قبل صلاة الظهر
عن أبي صالح رحمه الله تعالى مرفوعا مرسلا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : (أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ يَعْدِلْنَ بِصَلاَةِ السَّحَرِ) رواه ابن أبي شيبة.
ومن مزايا هذه الركعات الأربع أنها تُفتح لها أبواب السماء، لما رواه أبو أيوب الأنصاري –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : (أربع قبل الظهر تفتح لهن أبواب السماء) رواه أبو داود.
ولهذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يحرص كل الحرص على أداء هذه الركعات ، وإذا فاتته لأي ظرف طارئ قضاها بعد الفريضة ولا يتركها ، حيث روت عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت : كان إذا لم يُصلِّ أربعا قبل الظهر ، صلاهن بعدها. رواه الترمذي، وفي رواية أخرى قالت: كان إذا فاته الأربع قبل الظهر صلاها بعد الظهر. رواه البيهقي.
ولذلك من فاته صلاة الأربع ركعات، أو لم يتمكن من أدائها لظروف عمله؛ مثل بعض المعلمين فلا حرج من قضائها بعد انتهاء عمله ورجوعه إلى منزله.
قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله تعالى-: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى السُّنَنِ الَّتِي قَبْلَ الْفَرَائِضِ، وَعَلَى اِمْتِدَادِ وَقْتِهَا إِلَى آخِرِ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ، وَذَلِكَ لأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَوْقَاتُهَا تَخْرُجُ بِفِعْلِ الْفَرَائِضِ لَكَانَ فِعْلُهَا بَعْدَهَا قَضَاءً وَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى فِعْلِ سُنَّةِ الظُّهْرِ, وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهَا تُفْعَلُ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ, ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ الْعِرَاقِيُّ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . اهـ.
(3) أداء صلاة التراويح كلها مع الإمام
عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغفاري –رضي الله عنه- قَالَ : صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- رَمَضَانَ ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ، فَلَمَّا كَانَتْ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا ، فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ ، قَالَ : فَقَالَ : (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ) رواه أبو داود والترمذي.
وهذا أمر ينبه عليه كثير من أئمة المساجد في رمضان، فتراهم يحثون المصلين على أداء صلاة التراويح كاملة مع الإمام، ولكن البعض يتقاعس عن هذه الشعيرة التي أصبحت تميز شهر رمضان عن بقية الشهور، وقد قال عنها النبي –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه.
وكذلك الحال مع ليلة القدر؛ فقيامها يفضل على قيام ألف شهر، لقوله عز وجل لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فالعجب كل العجب ممن يفرط في هذه الليلة العظيمة.
(4) قراءة مئة آية في الليل
عَنْ تَمِيمٍ الداريّ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَرَأَ بِمِئَةِ آيَةٍ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قُنُوتُ لَيْلَةٍ) رواه أحمد.
وقراءة مئة آية أمر سهل لن يقتطع من وقتك أكثر من عشر دقائق، ويمكن أن تدرك هذا الفضل إن كان وقتك ضيقا بقراءة أول أربع صفحات من سورة الصافات مثلا، أو قراءة سورة القلم والحاقة.
وإذا فاتتك قراءتها بالليل فاقضها ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، ولا تكسل عنها، تدرك ثوابها بإذن الله تعالى ؛ لما رواه عمر بْنُ الْخَطَّابِ –رضي الله عنه- قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- : (مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الظُّهْرِ ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ) رواه مسلم.
قال المباركفوري -رحمه الله تعالى- معلقا على حديث عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اِتِّخَاذِ وِرْدٍ فِي اللَّيْلِ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَضَائِهِ إِذَا فَاتَ لِنَوْمٍ أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ الأَعْذَارِ , وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهُ مَا بَيْنَ صَلاةِ الْفَجْرِ إِلَى صَلاةِ الظُّهْرِ ، كَانَ كَمَنْ فَعَلَهُ فِي اللَّيْلِ ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا مَنَعَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً اهـ .
ولعل هذا الحديث يستحثك على أن يكون لك ورد يومي من القرآن خصوصا في الليل.
ألا تعلم بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- حثنا على قراءة عشر آيات على الأقل بالليل كي لا نكتب من الغافلين؟
فقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : (من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين ، ومن قام بمئة آية كُتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين) رواه أبو داود.
فهل نحرص على قراءة كتاب الله عز وجل؟ ينبغي أن لا يكون ختمنا له مقتصرا على شهر رمضان فحسب، وإنما يكون ذلك طوال العام.
ولعل الحرص على قراءة مئة آية يوميا للحصول على ثواب قيام ليلة انطلاقة مباركة لحثنا على ملازمة كتاب الله عز وجل.
(5) قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في الليل
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- : (مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) متفق عليه.
قال النووي -رحمه الله تعالى- : قِيل : مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ مِنْ قِيَام اللَّيْل ، وَقِيلَ : مِنْ الشَّيْطَان, وَقِيلَ : مِنْ الآفَات, وَيَحْتَمِل مِنْ الْجَمِيع اهـ .
وأيَّد ابن حجر -رحمه الله تعالى- هذا الرأي قائلا : وَعَلَى هَذَا فَأَقُول : يَجُوز أَنْ يُرَاد جَمِيع مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَم ، وَالْوَجْه الأَوَّل ورد صَرِيحًا مِنْ طَرِيق عَاصِم عَنْ عَلْقَمَة عَنْ أَبِي مَسْعُود رَفَعَهُ : "مَنْ قَرَأَ خَاتِمَة الْبَقَرَة أَجْزَأَتْ عَنْهُ قِيَام لَيْلَة" اهـ.
إن قراءة هاتين الآيتين أمر سهل جدا ومعظم الناس يحفظونهما ولله الحمد، فحري بالمسلم المحافظة على قراءتها كل ليلة، ولا ينبغي الاقتصار على ذلك لسهولته وترك بقية الأعمال الأخرى التي ثوابها كقيام الليل؛ لأن المؤمن هدفه جمع أكبر قدر ممكن من الحسنات، كما أنه لا يدري أي العمل سيُقبل منه.
قال عبد الله بن عمير -رحمه الله تعالى- : "لا تقنعن لنفسك باليسير من الأمر في طاعة الله -عز وجل- كعمل المهين الدنيء ، ولكن اجتهد فعل الحريص الحفي" اهـ. (حلية الأولياء) .
(6) حسن الخلق
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ قَائِمِ اللَّيْلِ صَائِمِ النَّهَارِ) رواه أحمد.
قال أبو الطيب محمد شمس الدين آبادي -رحمه الله تعالى- : "وَإِنَّمَا أُعْطِيَ صَاحِب الْخُلُق الْحَسَن هَذَا الْفَضْل الْعَظِيم ؛ لِأَنَّ الصَّائِم وَالْمُصَلِّي فِي اللَّيْل يُجَاهِدَانِ أَنْفُسهمَا فِي مُخَالَفَة حَظّهمَا , وَأَمَّا مَنْ يُحْسِن خُلُقه مَعَ النَّاس مَعَ تَبَايُن طَبَائِعهمْ وَأَخْلَاقهمْ ، فَكَأَنَّهُ يُجَاهِد نُفُوسًا كَثِيرَة ، فَأَدْرَكَ مَا أَدْرَكَهُ الصَّائِم الْقَائِم فَاسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَة ، بَلْ رُبَّمَا زَادَ" اهـ (عون المعبود) .
وحسن الخلق يكون بتحسين المعاملة مع الناس وكف الأذى عنهم.
إن المرء لم يُعط بعد الإيمان شيئا خيرا من خلق حسن، ولقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يسأل ربه عز وجل أحسن الأخلاق ، حيث روى جابر بن عبد الله –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان إذا استفتح الصلاة كبر ثم قال : (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ، اللهم اهدني لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، وقني سيئ الأعمال وسيئ الأخلاق ، لا يقي سيئها إلا أنت) رواه مسلم.
وكذلك يفعل –صلى الله عليه وسلم- كلما نَظَرَ في المِرآة ، حيث روى ابن مسعود –رضي الله عنه- قال : كان رسول اللّه –صلى الله عليه وسلم- إذا نظر في المرآة قال : (اللهم كما حسنت خَلْقِي فحسن خُلُقِي) رواه أحمد وابن حبان.
وصاحب الخلق الحسن من أحب الناس إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأقربهم إليه مجلسا يوم القيامة، روى لنا ذلك جابر –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة؛ أحاسنكم أخلاقا) رواه أحمد والترمذي.
وسيجعل الله عز وجل لصاحب الخلق الحسن قصرا في أعلى الجنة؛ لعظم ثوابه وتكريما له؛ لما رواه أبو أُمَامَةَ الباهلي –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال : (أنا زَعِيمٌ ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك الْمِرَاءَ وإن كان محقا ، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسَّنَ خُلُقَهُ ) رواه أبو داود والبيهقي.
وينبغي أن لا يكون حسن خلقك مقصورا على الأباعد من الناس فقط، وتنسى أقرب الناس إليك ، وإنما أن يمتد أيضا إلى والديك وأفراد أسرتك، فبعض الناس تراه مرحا وسيع الصدر ودمث الأخلاق مع الناس ولكنه على خلاف ذلك مع أهله وأولاده .
(7) السعي في خدمة الأرملة والمسكين
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- : (السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ ؛ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ) متفق عليه.
ويمكن أن تكسب هذا الثواب الجزيل، لو سعيت في خدمة فقير، فقدمت أوراقه لجمعية خيرية مثلا ليدرسوا حالته ويعطوه حاجته.
كما يمكن أن تكسب هذا الثواب العظيم، لو سعيت في خدمة أرملة، وهي التي مات عنها زوجها، فتقضي حوائجها، وهذا ليس بالأمر العسير؛ لأنك لو فتشت في أهل قرابتك ستجد البعض ممن مات عنها زوجها من عمة أو خالة أو جدة، فبخدمتها وشراء حاجياتها تكسب ثواب الجهاد أو قيام الليل.
(8) المحافظة على بعض آداب الجمعة
عن أوْس بْن أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ –رضي الله عنه- قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : (مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ ، وَدَنَا مِنْ الإِمَامِ ، فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ ؛ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا) رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي.
فخطوة واحدة إلى الجمعة ممن أدى هذه الآداب لا يعدل ثوابها قيام ليلة أو أسبوع أو شهر، وإنما يعدل سنة كاملة، فتأمل في عظم هذا الثواب.
وهذه الآداب تتمثل في الاغتسال ليوم الجمعة والتبكير والمشي إليها، والدنو من الإمام، وعدم الابتعاد إلى الصفوف الأخيرة، وحسن الاستماع للخطبة، وعدم العبث واللغو.
ولنعلم أن أي عبث أثناء الخطبة يُعدُّ لغوا، ومن لغا فلا جمعة له، فمن مس الحصى فقد لغا، ومن قال صه فقد لغا: أي من قال لصاحبه أو ابنه الصغير: اسكت فقد لغا، ومن عبث بسبحته أو جواله أو بأي شيء أثناء الخطبة فقد لغا.
ومن لغا وتخطى رقاب الناس ذهب عليه ثواب الجمعة وكانت له ظهرا.
قال–صلى الله عليه وسلم- (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة لما بينها ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا) رواه أبو داود.
فلا ينبغي التفريط بآداب الجمعة البتة؛ كي لا تخسر هذا الثواب العظيم الذي سيثقل ميزانك كثيرا، ويمنحك ثواب قيام سنوات كثيرة.
(9) رباط يوم وليلة في سبيل الله عز وجل
روى سلمان الفارسي –رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول : (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأُجري عليه رزقه ، وأمِنَ الفتَّان) متفق عليه، والفتَّان هو فتنة القبر .
(10) أن تنوي قيام الليل قبل النوم
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ –رضي الله عنه- يرفعه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ) رواه النسائي.
أرأيت أهمية النية وأنها تجري مجرى العمل؟
لذلك ندرك خطورة من ينام وهو لا ينوي أداء صلاة الفجر في وقتها ، وإنما تراه يضبط المنبه على وقت العمل أو المدرسة ، فهذا إنسان مصر على ارتكاب كبيرة من الكبائر ، فلو مات عليها ساءت خاتمته عياذا بالله.
أما من نوى قيام الفجر، وبذل أسباب ذلك ثم لم يقم ، فلا لوم عليه ؛ لأنه ليس في النوم تفريط ، وإنما التفريط في اليقظة .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى وتقربوا إليه بالأعمال الصالحة، وقد عرضت لكم مجموعة من الأعمال الصالحة التي يعدل ثوابها قيام الليل، أهمها أداء صلاتي العشاء والفجر في جماعة، وأداء أربع ركعات قبل الظهر، وقراءة مئة آية في الليل، وحسن الخلق، وقراءة الآيتين من آخر سورة البقرة قبل النوم، والسعي على الأرملة والمسكين، والمحافظة على خمسة آداب من آداب الجمعة وغير ذلك من أعمال جليلة ويسيرة، نسأل الله تعالى أن يحببها إلينا ويزينها في قلوبنا.
وبقي وسيلة أخيرة تكسب بها ثواب قيام الليل ألا وهي
(11) أن تُعلِّم غيرك الأعمال التي ثوابها كقيام الليل
فإن تعليمك الناس للأعمال التي ثوابها كقيام الليل وسيلة أخرى تنال بها ثواب قيام الليل، فالدال على الخير كفاعله، فكن داعية خير، وانشر هذه المعلومات تكسب ثوابا بعدد من تعلم منك وعَمِلَ به .
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله سبحانه:إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]. وقد قال النبي (إن لله تعالى ملكا أعطاه سمع العباد، فليس من أحد يصلي علي إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي أن لا يصلي علي عبد صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها) رواها الطبراني وحسنه الألباني. فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آل بيته الطاهرين.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت ...