أعمال القلوب وعباداتها

سليمان بن خالد الحربي
1440/12/17 - 2019/08/18 20:38PM

الخُطْبة الأُولَى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فاتقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- حق التقوى، {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

إخوتي في الله! يتسابَقُ الكثير من الموفَّقِين في مواسم الخير والطاعة، وعمل الجوارح، من نفْلِ صلاةٍ، وصيامٍ، وحجٍّ، وشهودِ جنازةٍ، وزيارة مريضٍ، ونحوه، ونتسابق في الْبُعد عن المحرمات الظاهرة، كَشُرب الخمر، والغيبة، والنميمة، والزنا، ونحوها، ولكن الشأنَّ -كلَّ الشأنِ- هو في السباق في عبادات القلوب، من خوفِه، وحبِّه، وخشيتِه، والتوكلِ عليه، وحسن الظنِّ به، والتفكُّر، والرِّضا، واليقين به، وبتقديرِه، ونحوه، ولِمَ لا يتسابق كثيرٌ منَّا بالبعد عن معاصي القلبِ، مِن بُغض المسلم، وحُبِّ الشر له، والْفَرَحِ بمصيبته، والحسد، والغِلِّ، والحقد، والكراهية، ونحوها.

ألا فلنعلم بأن السباقَ -كلَّ السباقِ- هو في سباق القلب، لا في سباق الجوارح؛ لأنَّه إذا سابق القلبُ فالجوارح تَبَعٌ له، قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال: 2، 3]، وَجِلَتْ قلوبهم: أي خافت ورهبت، فأوجبت لهم خشيةُ الله تعالى الانكفافَ عن المحارم، هذه أولُ علاماتهم مسابقتهم في عمل القلب؛ لأن خوفَ الله تعالى أكبرُ علاماته أن يحجز صاحبَه عن الذنوب.

ثم تأمل: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، وهذا سباقٌ قلبيٌّ، فَهُمْ يلقون له السمعَ، ويحضرون قلوبَهم لتدبره، فعند ذلك يزيد إيمانهم؛ لأن التدبُّر من أعمال القلوب، ولأنَّه لا بُدَّ أن يبين لهم معنىً كانوا يجهلونه، أو يتذكَّرون ما كانوا نَسُوه، أو يحدث في قلوبهم رغبةً في الخير، واشتياقًا إلى كرامة ربهم، أو وَجَلًا من العقوبات، وازدِجَارًا عن المعاصي، وكلُّ هذا مما يزداد به الإيمان.

{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وهذا سباق قلبيٌّ أيضًا، فهم يعتمدون في قلوبهم على ربِّهم في جلب مصالِحِهم، ودفع مضارِّهم الدينية والدنيوية، ويَثِقُون بأن الله تعالى سيفعل ذلك.

والتوكُّل هو الحامِلُ للأعمالِ كلِّها، فلا تُوجَدُ ولا تَكْمُل إلا به([1])، يجب أن نُصحِّح مفهومًا عندَ كثير منا، وهو أنَّنا نلْتَفِت إلى أعمال الجوارحِ، ونتسابق فيما بيننا، ونُهْمِل قلوبَنا عن عباداتها، مع أنَّها هي المحرِّكُ والمؤثر، وفي الحديث الصحيح: «إِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ»([2])، ولَمَّا كان هذا المفهومُ موجودًا فلا غَرْوَ أن ترى مَن رَجَع مِن حَجِّه –مَثَلًا- ولم يتغيَّرْ فِيه شيءٌ، وَمَن انتَهى مِن صلاتِه وَلم يتغيَّرْ مِنه شيءٌ، وَقُلْ مثل ذلك في شهرِ رمضانَ، فلا زال عَلى أَكْلِه للحرام، ولا زال على حِقدِه وبَغْيِه وكَراهِيَةِ النَّاس له، وَلا زال على تقصيره في حقِّ وَالِدَيْه، ولا زال يُخَاصِم ويفجر، كلُّ هذا بسبب نسيان السِّبَاق القلبيِّ.

قال الحافظ ابن رجب: «ولم يكن أكثر تطوع النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخواصِّ أصحابِه بكثرةِ الصومِ و الصلاةِ، بَلْ بِبِرِّ القلوبِ، وطَهارتِها، وسَلامَتِها، وقوة تعلُّقِها بالله، خشيةً له، ومحبةً وإجلالًا وتعظيمًا ورغبةً فيما عنده، وزُهدًا فيما يَفْنَى، وفي المسند عن عائشةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أن النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنِّي أَعْلَمُكُمْ بِاللهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ قَلْبًا»([3])»([4]).

فالمعادلة معكوسةٌ إِذَنْ؛ صَلاحُ القلْبِ يُورِّثُ العملَ الصالح، لكنَّ العملَ الصَّالحَ لا يُورِّث القلبَ السليمَ، بل العملُ من ثمرات صلاح القلب.

قال ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لأصحابه من التابعين: «أنتم أكثرُ صلاةً وصيامًا مِن أصحاب محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهُمْ كانوا خيرًا مِنْكم»، قالوا: وَلِمَ؟ قال: «كانوا أزهدَ مِنْكُمْ في الدنيا، وَأَرْغَبَ في الآخرةِ»([5]).

وَقال بكر الْمُزَنِيُّ: «ما سَبَقَهم أبو بكرٍ بكَثْرَةِ صِيامٍ ولا صلاةٍ، ولَكِنْ بشيءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِه»([6])، قال بعض العلماء المتقدمين: الذي وَقر في صدرِه هُوَ حُبُّ الله، والنَّصِيحةُ لِخَلْقِه.

وَسُئِلَتْ فاطِمةُ بِنْتُ عَبْدِ الملك زَوْجَةُ عُمَرَ بْنِ عبدِ العزيز بعد وفاته عن عمله؟ فقالت: «وَاللهِ ما كَان بِأَكْثَرِ الناسِ صلاةً، ولا بِأَكْثَرِهِمْ صِيامًا، وَلَكِنْ واللهِ مَا رأيتُ أحدًا أَخْوَفَ للهِ مِن عُمَرَ، لَقَدْ كَانَ يَذْكُر اللهَ في فراشِهِ فينتفِضُ انْتِفاضَ الْعُصفورِ مِن شدَّة الخوْفِ، حتَّى نقولَ: «لَيُصْبِحَنَّ الناسُ وَلا خَلِيفَةَ لهم». قال بعض السلف: «ما بَلَغ مَنْ بَلَغ عندنا بكثرة صلاةٍ، ولا صيامٍ، ولَكِنْ بِسخاوَةِ النُّفوسِ، وَسلامَةِ الصُّدُورِ، والنُّصْحِ للأمَّةِ، واحْتِقارِ أنْفُسِهِم»([7]).

وذُكِرَ لبعضهم شدةُ اجتهاد بني إسرائيل في العبادة، فقال: «إِنَّما يُرِيدُ الله ُمنكم صدْقَ النيةِ فيما عنده، فَمَنْ كان بالله أعْرَفَ فله أخوفُ، وفِيما عنده أرغبُ، فَهُو أفضلُ مِمَّن دُونٌ في ذلك، وإِنَّ كَثُر صومُه و صلاتُه»([8]).

أَعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتُم، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم، ولسائر المسلمين، مِن كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، وتُوبُوا إليه؛ إِنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ على توفيقه وامتنانِه، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الدَّاعي إلى جنَّتِه ورضوانِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.

أمَّا بَعْدُ:

أيها المسلمون، معشر الإخوة: عبادات القلبِ هي جَنَّة الدنيا ولذَّتُها، وقد قال بعض السلف: «مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها»، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: «محبة الله، والأُنْس به، والشوق إلى لقائه، والإقْبالُ عليه، والإعراض عما سواه»([9]).

ولهذا جاء عن ابن عباسٍ وأبي الدرداء أنهما قالا: «تَفُكُّر ساعةٍ خير من قيام ليلةٍ»([10])، تقول زوجة أبي الدرداء عندما سئلت عن أكثر عبادته، قالت: «التَّفَكُّر والاعتبار»([11]).

ولهذا تأملوا في عبادات القلوب، ليس لها وقتٌ، ولا حَدٌّ، بل هي العمر كله، بخلاف عبادات الجوارح كالصلاة والصوم والحج، فكلُّها يأتي عليها الانقطاعُ، إما لعَارِضٍ شرعيٍّ أو قَدَرِيٍّ، وعبادة القلب لا تضيع بخلافِ عمل الجوارح، «والمرءُ يخرج من صلاته وما كُتِب له منها شيء».

قال الحافظ ابن رجب: «ونَصَّ كثيرٌ من الأئمة على أن الاشتغال بتطهير القلوب أفضلُ من الاستكثار من الصوم والصلاة مع غش القلوب ودَغَلِها، ومَثَلُ من يستكثر من الصوم والصلاة مَع دَغَل القلْبِ وغِشِّه كَمَثَل من بَذَر بَذْرًا في أرضٍ دَغِلَةٍ كثيرةِ الشَّوكِ؛ فلا يزكو ما ينبُت فيها من الزرع، بل يمحقه دَغَلُ الأرض، ويُفسِده، فإذا نظفت الأرض من دَغَلِها زَكَى ما ينبُتُ فيها ونما، قال يحيى بن معاذ: «كم من مستغفِرٍ ممقوتٍ، وساكِتٍ مرحومٍ، هذا استغفر وقلبُه فاجر، وهَذا سكت وقَلْبُه ذَاكِرٌ»([12])»([13])

وسبيلُ إصلاح القلبِ هو الزُّهد في الدنيا، وعدم التعلُّقِ بها، وتنظيف القلب من الحقد والبغض والْكِبْر والحسد والتواضع ومحبة الخير للناس والصفح والعفو عنهم، وما أجْمَل قصةَ عبدِ الله بن عمرو بن العاص، كما في مسند أحمد، مع الرَّجُل الذي قال الرَّسُول عنه: «يَطْلُع عليكم رجلٌ من أهل الجنة» قالها في ثلاثةِ أيامٍ، كلما مرَّ، فذهب عبد الله بن عمرو إليه، ومكث معه ثلاثةَ أيام. لماذا؟ لأن عبد الله بن عمرو ممن اشتهر عنه العبادة، فهُوَ مِن الْعُبَّاد الذين أرادوا أن يصوموا الدَّهْرَ، وأن يختم القرآنَ في كلِّ يومٍ، وأن يقوم الليلَ كلَّه، فما هو العمل الذي أوْصَل هذا الرجلَ إلى هذه المكانة، قال: فمَكَثْتُ عنده ثلاثة أيامٍ فلم أَرَه يقومُ من الليل شيئًا، ولم أَرَ كثرة نوافل، فسأله عبدُ الله عن ذلك، وأخبره بالخبر فقال: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ([14]).

الله أكبر! أَأَعْجَبُ من هذا الرجل، ومن قوله: «ما هُوَ إلا ما رأيت» بدون أي تشَبُّع، أم أعجب من هذا التوفيق على هذه الروح العظيمة المتسامحة، أم أعجب من ابن العاصِ وصدْقِه وفِقْهِه حين قال: «هي التي لا نطيق»، رَجُلٌ أطاق تذليل جوارحِه، ويعترف أن تذليلَ القلب شيءٌ مُكَلِّفٌ، وأعوز من تذليل الجوارح، ويقول كذلك: «هذه التي بلغت بك».

ألا فلنَنْتَفِضْ، ولْنَلْتَفِتْ إلى قلوبنا، فأمام كثيرٍ منا عَمَلٌ شَاقٌّ طويل في السمو بقلبه، وَلْنَتَسَابَقْ فِي هذا، ولْنَتَساءَلْ عن هذا، ولْيَكُنْ هاجِسَنَا ومطلوبَنا، فالسؤال عنه قبل السؤال عن كثيرٍ من نوافل العبادات، ولْيُذَكِّرْ بعضُنا بعضًا فيه، وَلْنَدْعُ اللهَ أن يَرْزُقَنا قُلوبًا سليمةً، قلوبًا مُلِئَتْ محبةَ الله ورسوله، مُلِئَتْ تَواضُعًا وعفوًا وصفحًا ونقاءً.

ولْنَحْرُس قلوبَنَا أشدَّ مِمَّا نحرس أموالَنا، كما قال أبو حفص النيسابوري: «حرَسْتُ قلبي عشرين سنةً، ثم حَرَسني عشرينَ سنةً»([15]).

([1]) بمعناه من السعدي، تفسير السعدي (ص: 634).

([2]) أخرجه البخاري (1/28، رقم 52)، ومسلم (3/1219، رقم 1599).

([3]) أخرجه البخاري (1/16، رقم 20).

([4]) لطائف المعارف (ص 254).

([5]) أخرجه المستدرك (4/ 315، رقم 7880)، وشعب الإيمان (13/ 184، رقم 10152).

([6]) لطائف المعارف (ص: 254).

([7]) المصدر السابق.

([8]) المصدر السابق.

([9]) جامع العلوم والحكم محقق (21/ 16).

([10]) العظمة - أبو الشيخ (1/ 298).

([11]) الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/ 409).

([12]) المنتخب من كتاب الزهد 462 (ص 69).

([13]) لطائف المعارف (ص 255).

([14]) أخرجه أحمد (3/380، رقم 15107)، والنسائي في سننه الكبرى (6/216، رقم 10699).

([15]) تاريخ الإسلام (20/ 143)، وسير أعلام النبلاء (24/ 10)، وصفة الصفوة (4/ 120).

المرفقات

القلوب-وعباداتها

القلوب-وعباداتها

المشاهدات 1455 | التعليقات 0