أعظم مصيبة في الإسلام

عبد الله بن علي الطريف
1446/03/08 - 2024/09/11 17:51PM

النبأ الفادح وفاة الرسول ﷺ 1446/3/10هـ

أيها الأحبة: في شهر ربيعٍ الأول ولد سيدُ ولدِ آدم، وأفضلُ الرسلِ محمدُ بنُ عبدالله ﷺ، وفيه هاجر من مكة إلى المدينة تِلكُم الهجرة التي أعز اللهُ بها الإسلامَ وأهلَه.. وفيه وقعت أعظمُ مصيبة على الأمة.. وأكبرُ فاجعةٍ في تاريخِ الإسلامِ وفاته ﷺ فما خبرها.؟

لما حجَّ رسولُ اللهِ ﷺ حجّةَ الوداعِ وبلَّغَ رسالةَ ربهِ وأكملَ اللهُ به الدينَ وأتمَّ النعمةَ رجعَ إلى المدينةِ، ومكثَ بها أكثرَ من شهرين ثم بدأَ به الوجعُ تَقُولُ عَائِشَةُ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْبَقِيعِ، فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي، وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهُ، فَقَالَ: «بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ وَارَأْسَاهُ».. قَالَت: فوَاللَّه لَطَارَ عَنْيِ مَا أجدُ، وكدتُ أَنْ أُسْتَطَارَ، فسَكَنَنِي بالمزاحِ على تَجَشْمٍ مِنْهُ، فَقَالَ: «وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَقُمْتُ عَلَيْكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ»؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَأَعْرَسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ! قَالَتْ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.. ثم تتامَّ بِهِ وَجَعُهُ، وَهُوَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ حَتَّى اسْتُعِزَّ بِهِ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَدَعَا نِسَاءَهُ فَاسْتَأْذَنَهُنَّ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ.. وَخرج رَسُولُ الله بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِهِ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم عَاصِبًا رَأْسَهُ، تَخُطُّ قَدَمَاهُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتِي.. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وبَعْدَمَا دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْتَهُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ قَالَ: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ» وَأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ تِلْكَ، حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا: «أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ». ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ عاصبًا رأسَه؛ حتى جلسَ على المنبرِ، ثم كانَ أولُ ما تكلم به أن دعا لأصحابِ أحدٍ وترحَّمَ عليهم واستغفر لهم، ثم أوصى بالأنصار خيرًا، ثم قال: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ؛ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَدَيْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا.! قَالَ: فَعَجِبْنَا من قَولِ أَبِي بَكْرٍ.!!  فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ.. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ.. إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ ومودتُه، لَا تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلا سُدَّت إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ.. ومَكَثَ رسولُ الله ﷺ يُصلي بالناس وهو مريض أحدَ عشرَ يومًا، كان آخرَها يومُ الخميسِ، قبل موته بأربعةِ أيام، فصلى بهم المغرب ذلك اليوم، ثم اشتد به المرض حين حَضرتِ العشاءُ، فلم يستطع الخروجَ إلى المسجد، تقول عائشة فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» فَقُلْنَا لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَتْ: (وكان يغمى عليه ويفيق أربع مرات) وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَهُ ﷺ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، ثُمَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ.. فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، قَالَتْ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ، لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ وَقَالَ لَهُمَا: «أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ» فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَاعِدٌ. رواه مسلم في صورة تحكي خلافة أبي بكر للنبي في أصحابه. وفي ذلك اليوم أعتق غِلمانَه، وتصدّق بمالٍ كان عنده، ووهب المسلمين أسلحته..

ثم جاء يوم الاثنين، وما أدراك ما يوم الاثنين.! فقد كان آخرُ يومٍ في حياة الحبيب ﷺ فقد كان يومًا أولُه فرحٌ واستبشارٌ وابتهاجٌ، وآخرُه حُزنٌ، وغمٌّ وحيرة.

قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ المُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي الفَجْرِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِهِمْ، «فَفَجِئَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ» فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ، وَهَمَّ المُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ، فَرَحًا بِالنَّبِيِّ ﷺ حِينَ رَأَوْهُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ: «أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ الحُجْرَةَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ»، وَتُوُفِّيَ ذَلِكَ اليَوْمَ.. وما شعرَ الناسُ أَنَّ تلك النظرةَ الحانيةَ الضاحكةَ الباسمةَ هي آخرُ نظرةٍ ينظرُها رسولُ الله ﷺ إليهم، وآخرُ مشهدٍ يرونه فيه.

ولما ارتفعَ الضُحى اشتدَ الوجعُ برسولِ الله ﷺ فدَعا فاطمةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فسارَّها بشيءٍ فبكتْ، ثم سارَّها بشيءٍ فضحكتْ، فسألتها عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بعد موته عن ذلك، فقالت: سارَّني أنَّهُ يُقبضُ في وجعِهِ الذي توفي فيه فبَكيتُ، ثم سارَّني وأخبرني أني أولُ أهلِه يتبعُهُ فضحكتُ.

ثم دعا بالحسنِ والحسين فقبّلَهما قُبلةَ الوداعِ، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجَه فوعظهن وذكّرهن.. ولما رأت فاطمةُ ما برسولِ الله ﷺ من الكربِ الشديدِ الذي يتغشّاه قالت: واكرب أبتاه! فقال: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم، وطَفِقَ الوَجَعُ يَشْتَدُ ويَزِيْدُ برَسُولِ اللَّهِ ﷺ تقول عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدَّ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ وكَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ مَوْتِهِ: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» حَتَّى جَعَلَ يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ. رواه النسائي عن أم سلمة..

ثم حانت ساعةُ الاحتضار والنزعِ حين اشتدَ الضحى من ذلك اليوم، وعائشةُ قد أسندتْهُ صَدْرَها، وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ الشَرِيفَ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٌ».. قَالَتْ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ مَرَضُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَرَضَتْ لَهُ بُحَّةٌ. ورفع يدَهُ أو إصبعَهُ وشَخصَ بَصرُهُ نحو السَقفِ، وتحركت شفتاه فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقَيْنِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا اللَّهم اغفرْ لي وارحمني وألحقني فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» قَالَتْ عَائِشَةُ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَيَّرُ.. وكَرَرَ كلمته الأخيرة ثلاثًا، وَكان رَأسَهُ بَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي، وَلما خَرَجَتْ نَفْسُهُ الَطَاهِرَةُ، لَمْ أَجِدْ رِيحًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهَا، فَخَرَجَتْ مِنْ فِيهِ نُطْفَةٌ بَارِدَةٌ [ماء قليل] فَوَقَعَتْ عَلَى ثُغْرَةِ نَحْرِي، فَاقْشَعَرَّ لَهَا جِلْدِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ غَيْرِي وتناولتُ وسَادَةً، فَوَضَعتهَا تَحت رَأسِهِ فَسَجَّيْتُهُ ثَوْبًا فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، ولما عَلِمَ أَبُو بَكْرٍ جَاءَ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نزلَ بِبَاب الْمَسْجِد، ثمَّ أقبلَ مكروباً حَزينًا، فَاسْتَأْذنَ فِي بَيتِ ابْنَته عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهُما، فَأَذنت لَهُ، فَدخل وَرَسُولُ الله ﷺ قد تُوفِّي على الْفِراشِ، والنسوةُ حولَه، فخَمَرْنَ وجوهَهُنَّ واستترن، إِلَّا مَا كَانَ من عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَرَفَعْتُ الْحِجَابَ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ الشريف وَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَاتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمْي يَا نَبِيَّ اللَّهِ، طِبْتَ حيّاً ومَيْتًا، والله لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الـمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا».. قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ثمَّ قُمْت مَعَ النِّسَاءِ أصيحُ.. وتُوفْيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في بيتِ عَائِشَةَ وفي يومها وبين سحرها ونحرها.. فصلوات ربي وسلامه عليه..

الخطبة الثانية

أما بعد: وتسرّبَ النبأُ الفادحُ من البيتِ المحزونِ ولَهُ طَنينٌ في الاذان، وَثُقْلٌ ترزحُ تحتَه النفوسُ، وتدورُ به البصائرُ والأبصارُ.

وشعرَ المؤمنونَ أنَّ افاقَ المدينةِ أظلمتْ، فتركتهم لوعةُ الثُّكْلِ حيارى لا يدرون ما يفعلون.. واشتدَ بالناسِ الكربُ والحزنُ وثقلَ ألَمُه في نفوسهم، وغطت المصيبةُ عقولَهم، وسُكّرتْ أبصارُهم، وحارت ألبابُهم..

ووقف عمرُ في تلك الساعةِ العصيبة يخطبُ في الناس مفجوعٌ مصدوم، فقال: إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات، وإن رسول الله ﷺ ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بنُ عِمران، ووالله ليرجِعنّ رسولُ الله كما رجع موسى، فليُقطِّعنّ أيديَ رجالٍ وأرجلَهم زعموا أنه مات.

ثم خرج أبو بكر إلى الناس وعمر يكلمهم، فقال: اجلس يا عمرُ، فأبى عمرُ أن يجلس، فأقبل الناسُ إلى أبي بكر وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، فمن كان منكم يعبدُ محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.) [آل عمران:144]. قال ابنُ عباس: والله، لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر عليهم، فتلقاها الناسُ منه كلُّهم فما أسمعُ بشرًا إلا وهو يتلوها...

وأما عمرُ فقال: والله، ما هو أن سمعَت أبا بكر تلاها فعرفتُ أنه الحق، فعقِرتُ حتى ما تُقِلُّني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله ﷺ قد مات.. ثم انصرفوا للبيعة..

تَقُولُ عَائِشَةُ: وَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بكرٍ، وكان يَوْمُ الثُّلَاثَاء أقبلَ النَّاسُ على جَهازِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ولم يكنْ فِي الْبَيْت إِلَّا أَهلُه: عَمُه الْعَبَّاسُ بنُ عبد الْمطلب وبعضُ بني عمه وبعضُ مواليه، ولَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ النَّبِيِّ ﷺ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أَمْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ؟ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: «أَنْ اغْسِلُوا النَّبِيَّ ﷺ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَقَامُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَغَسَلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ، بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَيُدَلِّكُونَهُ بِالْقَمِيصِ دُونَ أَيْدِيهِمْ»، وجَفَّفُوهُ، ثُمَّ صُنِعَ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَيِّتِ، وكفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض يَمَانِية، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَة، وَلما فرغوا من جَهَازِ رَسُولِ الله ﷺ يَوْم الثُّلَاثَاء، وُضِعَ على سَرِيره فِي بَيته، فَدخل عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ أَفْوَاجًا، يصلونَ عَلَيْهِ ثمَّ يخرجُون، وَيدخل آخَرُونَ حَتَّى صلوا عَلَيْهِ كلُهم لا يؤمهم أحد.

أما دفنُه فقُرْب الفجر ليلة الأربعاء، ولَمَّا اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: «مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي المَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ»، ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ. رواه الترمذي وصححه الألباني.. فحفر قبره مَوْضِعَ فِرَاشِهِ ولَحَدَ له أبو طلحة رضي الله عنه، وَنُصب عَلَيْهِ تسع لبنات نصبًا، ثم دفنوه، وَرُفع قَبره نَحوًا من شبرٍ مسنمًا، ووضعت عليه الْحَصْبَاء.. ورُشَ على قبره المَاء رشًا.. قَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا عَلِمْنَا بِدَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ» وقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَصِحْنَا وَصَاحَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ صَيْحَةً وَاحِدَةً.. وَأَذَّنَ بِلَالٌ بِالْفَجْرِ، فَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيَّ ﷺ بَكَى، فَانْتَحَبَ، فَزَادَنَا حُزْنًا، وَعَالَجَ النَّاسُ الدُّخُولَ إِلَى قَبْرِهِ، فَغُلِّقَ دُونَهُمْ، فَيَا لَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ! مَا أُصِبْنَا بَعْدَهَا بِمُصِيبَةٍ إِلَّا هَانَتْ إِذَا ذَكَرْنَا مُصِيبَتَنَا بِهِ ﷺ. قَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لَمَّا مَاتَ ﷺ: يَا أَبَتَاهُ.. أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ.. يَا أَبَتَاهْ.. مَنْ جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ.. يَا أَبَتَاهْ.. إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ.. فَلَمَّا دُفِنَ، قَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ التُّرَابَ.. قَالَ أنس ثمَّ بَكت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا يعني من شدة وجدها عليه، وحزنها، ومعرفتها بأن الصحابة رضي الله عنهم قد ملأت محبته قلوبهم. والجواب: طابت؛ لأن هذا ما أراد اللهُ وهو شرعه، ولو كان ﷺ يُفْدي بكل الأرض لفداه الصحابة رضي الله عنهم.

قال الرواة: وكل مَنْ حَدَّثَ به بَكَى، بل لَا يمر هَذَا الحَدِيث بِمُؤْمِن إِلَّا بَكَى..

وقال أَنَسُ: «لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْأَيْدِي وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا» رواه الترمذي صحيح. وَكَانَ أطول النَّاس بكاء يَوْمئِذٍ عقبَة بن عَامر، ومعاذ بن جبل رَضِي الله عَنْهُمَا، فَقَالَ لَهما عمر رَضِي الله عَنهُ: حسبكما رحمكما الله..

 

المرفقات
المشاهدات 4595 | التعليقات 0