أعظم آية

إبراهيم بن صالح العجلان
1438/05/05 - 2017/02/02 22:39PM
أعظم آية 5/5/ 1438هـ

إخوة الإيمان:
عاش مع آيات القرآن، تعاهد محفوظه، وتدبر معانيه، وتفكر في دلالاته حتى بزَّ أبو المنذر أُبي بن كعب بين الصحب الكرام، ناداه النبي ص يوماً: يا أبا المنذر، أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ فما أراد أُبي أن يتقدَّم في الجواب على رسول الله ص فقال: الله ورسوله أعلم، فأعاد عليه النبي r السؤال ثانية: أي آية في كتاب الله معك أعظم؟ فقال أبي: الله ورسوله أعلم، فسكت النبي r ، ثم أعاد سؤاله مرة ثالثة، فعلِمَ أُبي أنَّ النبي r يستفهمه عمَّا عنده من العلم، فقال أُبي: (الله لا إله إلا هو الحيُّ القيُّوم)، فضرب النبي r على صدر أُبي وقال: ليهنك العلم أبا المنذر.
آية الكرسي خصت عند العلماء بمزيد عناية، وأفردت بالتأليف لأنها أعظم آية .
هي آية واحدة لكنها مَلْئَ بتعظيم الله وتمجيده، وأفراده وتوحيده.
جُمَلُها معدوداتٍ، لكنها فائقة فريدة، متناسقة بديعة، حافظة للإنسان، واقية من الشيطان، من حافظ عليها حفظته، ومن توقَّى بها وقته.
فتعالوا أيها الكرام نبحر مع هذه الآية العظيمة، نغور في أسرارها، ونستنطق معانيها، ونتفهم إشاراتها، فكم نقرأ هذه الآية، وتمر علينا ونحن عن معانيها غافلون، فلا يليق بنا أن نقرأ الحروف ونجهل المعاني، وقد قرر علماؤنا الأكابر أنَّ أعظم ما تستصلح به القلوب هو وقوفها مع معاني القرآن فكيف بأعظم آية فيه.
بدأت الآية باسم الأجل (الله)، وهو أصل الأسماء، ومعناه المألوه الذي يَتقرب إليه عبادُه بشتَّى الطاعات حباً وتعظيماً.
(لا إله إلا هو) جملة عظيمة جمعت التنزيه والتوحيد، والإفراد والتمجيد. ومعناها: لا معبود بحقٍّ إلا الله، فهو المتفرد بالخلق والملك والرزق وغيرها من صفات الكمال، ومن صرف شيئاً من العبادة لغير من يستحقها فقد ظلم نفسه، وأشرك بربه (ومن يشرك بالله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً).
وجملة (لا إله إلا هو) اشتملت على نفي وإثبات، (لا إله) نفي لكل معبود سوى الله، (إلا الله) إثبات استحقاق العبودية لله، وهذا هو التوحيد الذي من أجله أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنَّه لا إله إلا أنا فاعبدون).
ثم أكد سبحانه لنفسه استحقاقه بالإفراد بالإلهية فقال: (الحي القيوم)، اسمان عظيمان، اشتملا على وصفين جليلين، (الحي) له الحياة الدائمة التي لا نهاية لها (وتوكل على الحي الذي لا يموت)، وكل صفات الله وأفعاله ترجع إلى اسم الله الحي، لذا يرى ابن تيمية أنَّ اسم الله (الحي) يستلزم جميع صفات الكمال لله.
(القيوم) أي القائم بذاته لا يحتاج إلى غيره، لا إلى معين ولا نصير، وهو قائم أيضاً بجميع مخلوقاته، فهو خالقهم ومدبرهم ورازقهم، ومحصي أعمالهم وأحوالهم، ومتكفل بهم.
وحين أثبت سبحانه لنفسه القيومية الكاملة نفى بعدها كل ما ينافي قيوميته، فقال: (لا تأخذه سنة ولا نوم) والسنة هي النعاس، وهو مقدمة النوم، فالله تعالى لا يعتريه نعاس ولا نوم ولا غفلة ولا ذهول، وفي الحديث الصحيح الذي خرجه مسلم أن النبي r قال: (إن الله لا ينامُ ، ولا ينبغي له أن ينامَ ، يَخْفِض القِسْطَ ويرفَعُه ، يُرْفَع إليه عملُ الليل قَبْلَ عَمَلِ النَّهار ، وعملُ النَّهار قَبْل عمل الليل ، حِجَابُه النُّورُ لو كَشَفَهُ لأحْرَقتْ سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصرُه من خلقه).
ومن كانت هذه قيوميته على خلقه فقطعاً استحق أن يكون (له ما في السموات وما في الأرض)، واللام هنا للمُلْك، فالكلُّ عبيده، وتحت ملكه وقهره وسلطانه.
ومن كان هذا وصفه وملكه فلن يتجاسر أحد من الناس في ذلك اليوم العظيم أن يشفع عنده إلا بإذنه، فالشفاعة لله، (قل لله الشفاعة جميعاً) ، لا يقوم بها لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي، ولا عبد إلا بعد إذن الله له، ولذ قال سبحانه: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، فالشفاعة يوم الدِّين لا تكون إلا بعد رضا الله عن الشافع والمشفوع له، ولا تحصل إلا بعد إذن الله للشافع أن يشفع.
ثم انتقلت الآية بعد هذا التعظيم إلى الحديث عن علم الله تعالى، (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)، فجميع تفاصيل الخلق محصية عنده في علمه( وسع كل شيء علماً)، لا يخفى عليه مثال ذرة منها، عليم بأحوال الخلق، مشاهدٌ لحركاتهم وسكناتهم، لا يخْفى عليه شيءٌ مِن شأن خلقِه، سرُّهم عنده علانية، وغيْبُهم لديه شهادة: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ)، يعلم ماضي الخلق، ويعلم حاضرهم، ويعلم مستقبلهم،
فربنا العليم (يعلم ما بين أيديهم) أي ما بين أيدي الخلائق من الأمور المستقبليةِ
التي لا نهاية لها، (وما خلفهم)، أي من الأمور الماضية التي لا حدَّ لها.
وأما المخلوقون فهم ضعفة عاجزون قاصرون، وكل ما أوتوه من العلم وما توصلوا إليه من علوم الأرض والبحار، والنبات، والنجوم والأفلاك فهو من الله وبإذن الله (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء).
ثم ذكر سبحانه عظمته بذكر عظمة مخلوق من مخلوقاته وهو الكرسي العظيم.
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)، صح عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "الكرسي موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل". أخرجه ابن خزيمة.
وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه، فإذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى، بل هناك ما هو أعظم منه وهو العرش، كما جاء في حديث أبي ذر أن النبي r قال: " مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلا كَحَلَقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ". أخرجه ابن أبي شيبة وغيره وصححه الألباني.
(وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا )، أي لا يثقِلُه سبحانه حفظُ السماوات والأرض (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ)
ثم بعد هذا الوصف والملك والقدرة والعظمة ناسب أن يكون ختام الآية:{وَهُوَ
العَلِيُّ العَظِيمُ} العلي: جَمَعَ كلَّ صفات العلو، علو الذات، والقَدْرِ، والقَهْرِ، فهو سبحانه عليٌّ بذاته على جميع مخلوقاته، عليٌّ بعظمة صفاته، وهو العليُّ الذي قهر المخلوقات، ودانت له كل الموجودات، وخضعت وذلَّت.
وهو العظيم الذي جمع صفات العظمة والكبرياء، والقدرة والبهاء، ومن كانت هذه صفاته وقدرته فَحُقَّ للقلوب أن تخشع من خشيته، حقَّ للأرواح أن تذوب في محبته، حقَّ لكل من عقل هذه الآية أن يقدر ربَّه حق قدره، (وما قدروا الله حقَّ قدره) بارك الله لي ولكم في القرآن والسُّنَّة ....



الخطبة الثانية

أما بعد فيا إخوة الإيمان، ولعظم آية الكرسي وعلو قدْرها وشأنها، جاءت الأحاديث بقراءتها والمداومة عليها، في فضائل عدَّة تمتدُّ لها الأعناق وتتحرك لأجلها الهمم.
يا أهل القرآن يا أصحاب سورة البقرة التي لا تستطيعها البطلة يا حفاظ آية الكرسي صح عن نبيكم r أنه حضَّ على قراءة هذه الآية في مواضع.
ـ فاقرأ يا من تطلب الجنة آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة، قال عليه الصلاة والسلام:( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة لم يحل بينه و بين دخول الجنة إلا الموت)، خرجه النسائي وغيره وصححه الألباني.
ـ واقرأ يا أخا الإيمان آية الكرسي عند كل منام، ففي خبر أبي هريرة مع الشيطان الذي قال له: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّr لأبي هريرة: صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ.
ـ واجعل يا أخا الإيمان آية الكرسي هي حرزك في صبحك ومساءك، وعند دخول بيتك، ففي خبر أُبي بن كعب مع الشيطان الذي جاءه ليصيب من الصدقة، فسأله أُبي بن كعب ما الذي يُنْجينا منكم؟ فقال: هذه الآية (لا إله إلا هو الحي القيوم)، من قالها حين يمسي أُجير منها حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي، فلما أصبح أُبي أتى رسول الله r فذكر ذلك له، فقال: (صدق الخبيث). أخرجه النسائي وجوَّد إسناده المنذري، وصححه الألباني.
وجاء في خبر أبي أيوب الأنصاري في قصةٍ مُقَاربة استحباب قراءتها عند دخول المنزل وأنَّه لا يقرب العبد فيه شيطان. خرجه الترمذي وصححه الألباني.
تلك عباد الله وقفات موجزات، وفضائل سامقات، مع أعظم الآيات، فالزموها وتعلموها، واحفظوها وحفِّظوها يحفظكم ربكم، ويجزيكم فضلاً وخيراً.
صلوا بعد ذلك على الرحمة المهداة ...
المرفقات

1240.doc

المشاهدات 1664 | التعليقات 0