أَصْحابُ الكَهْف
عبدالعزيز بن محمد
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَيُّها المُسْلِمُون: سُورَةٌ في مُنْتَصَفِ الكِتَابِ شَعَّ ضِيَاؤُها. أَضاءَتْ في قُلُوبِ المَتَدَبِّرِيْن أَنْوارَ الهِدايَةِ، ورَفَعَتْ في طَرِيْقِ السَّالكِيْنَ أَعلامَ الرَّشَاد. سُورَةٌ فِيْها آياتٌ وفِيْها عِبَر، وفِيْها مَواعِظُ، وفِيها قَصَصٌ، وفِيْها مِن الأَنْباءِ أَصْدَقُ خَبَر.
سُورَةٌ جَاءَ في فَضْلِها ما يَحْمِلُ المُؤْمِنَ على حُسْنِ تَدَبُّرِها، وعلى حُسْنِ الوُقُوفِ عِنْدَ مَعانِيْها. سُورَةٌ مَنْ قَرأَها أَدْرَكَ نُوراً، ومَنْ حَفِظَ عَشْرَ آياتٍ مِنْها عُصِمَ مِن الدَّجال. عَنْ أَبِيْ سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ رَضيَ الله عنه قَالَ: (مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الكَهْفِ، أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّوْرِ فِيْمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَيْتِ العَتِيْق) وَعَنْ أَبِيْ الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ، عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ» وفي روايةٍ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الكَهْف» رواه مسلم
سُورَةٌ تَوالَتْ فِيها قَصَصٌ مِنْ أَعْجَبِ القَصَصْ، قِصَّةُ أَصْحابِ الكَهْفِ، وقِصَّةُ صاحِبِ الجَنَّتَيْنِ، وقِصَّةُ آدَمَ عليه السلامُ مَع إِبْلِيْس، وقِصَّةُ مُوسَى عليه السلامُ مع العبدِ الصَّالحِ، وقِصَةُ ذِيْ القَرْنَيْن. وكُلُّ قِصَّةٍ فِيْها مِن المَعانِيْ ما يُرْشِدُ، وفِيْها مِن الحِكَمِ ما يُبَصِّرُ، وفِيْها مِن العَواقِبِ ما يُثَبِّتُ قَلْبَ المُؤْمِنِ ويُطَمْئِنُهُ ويَهْدِيْه.
* أَصْحابُ الكَهْفِ فِتْيَةٌ أَطْهارٌ، أَتْقياءُ أَبْرارٌ، أَصْفِياءُ أَخْيَار. أَبْصَرُوا دَرْبَ الهِدايَةِ يَومَ ضَلَ عَنِ الهِدايَةِ قَومُهُم. سَلَكُوا دَرْبَ الرَّشادِ يَومَ زاغَ عَنِ الرَّشادِ فِئَامُ. ثَبَتُوا على الحَقِّ المُبِيْنِ، لَمْ يَهْلَكُوا في الهالِكِين، لَمْ يَرْتَعُوا في الرَّاتِعِيْن، بَلْ أَسْلَمُوا للهِ رَبِّ العَالَمِيْن. فِتْيَةٌ شَرَحَ اللهُ صُدُورَهُم للإِيْمانِ، فَما يَبْغُونَ عَنْ الإِيْمانِ بَدَلاً {نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} فِتْيَةٌ في مُقْتَبَلِ شَبابِهِم، اسْتَقَامَتْ فِطَرُهُم على الحَقِّ، فَآمَنُوا باللهِ وحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَه. وُصِفُوا بـ (الفُتُوَّةِ) لَمَا اقْتَرَنَ بِهِم مِنْ كَرِيْمِ الخِصَالِ، ونَبِيْلِ الخِلالِ، وجَمِيْلِ الفِعال. والفَتَى حَقاً مَنْ عَنِ السُّوءِ احْتَجَب، وإِلى الفَضْلِ انْجَذَبْ، وإِلى كُلِّ كَرِيْمَةٍ بَادَرَ وَوَثَبْ. الفَتَى حَقاً مَنْ كَمُلَ عَقْلُهُ، ورَجَحَ فِكْرُهُ، و وجَزُلَ فَهْمُهُ، واسْتَقامَ سَيْرُه.
إِنَّ الفَتَى حَمَّالُ كُلِّ مُلَمَّةٍ ** لَيْسَ الفَتَى بِمُنَعَّمِ الشُّبَّانِ
إِنَّ الفَتَى لَفَتَى المَكارِمِ والعُلا ** لَيْسَ الفَتَى بِمُغَمْلَجِ الصِّبْيانِ
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} ورأَسُ الفُتُوَّةِ إِيْمانٌ وتَقُوى، وشَجاعَةٌ وشَرَف. ثَباتٌ على المَبادِئِ واسْتِمْسَاكٌ بِعُرَى الدَّيْن. جُرأَةٌ في سَبِيْلِ الحَقِّ وصَلابَةٌ في وَجْهِ العِدَى. {وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}
أَبْصَرَ الفِتْيَةُ النُّورَ في مُجْتَمَعٍ كَانَ يَغْرَقُ في الظَلامِ. فآمَنَوا فِي زَمَنٍ لَمْ يَكُنْ لَهُم على الإِيْمانِ مُعِيْنٌ. وصَدَعُوا بالحَقِّ في زَمَنٍ لَمْ يَكُنْ لَهُم فيهِ على الحَقِّ نَاصِر. آمَنُوا باللهِ فَزَادَهُمُ اللهُ هُدى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} وإِنَّ قَلْباً مُنِحَ إِيْماناً مَعِ إِيْمانٍ، وزِيْدَ مَعَ الهِدايَةِ تَقْوَى، لَهُو أَجْدَرُ بوَلَايَةِ اللهِ، وهُوَ أَجْدَرُ بالحَفْظِ والإِعانَةِ والتَّثْبِثيْت.
جَهَرَ الفِتْيَةُ بإِيْمانِهِم، وتَبَرَّؤُوا مِنْ قَومِهِم وكَشَفُوا بُطْلانَ ما هُمْ عَلِيْهِ مِنْ مُعْتَقَدَات {هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} هَلَّا أَتَوا بِدَلِيْلٍ على صِحَةِ مَعْبُودَاتِهِم، وهَلَّا وأَتُوا عليها بِبُرْهانٍ بَيِّن { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}
كانَ الفِتْيَةُ في مُجْتَمَعٍ جَمَعَ مَعَ الضَلالِ ظُلْمٌ، وقَرَنَ مَعَ الكُفْرِ عُدْوانٌ. فَأَدْرَكَوا أَنَّ بَقاءَهُم بَيْنَ ظَهْرانَيْ قَوْمٍهِمْ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ الفِتْنَةِ ومِنْ أَجْلَبِ أَسْبابِ الضَّرَر. أَدْرَكَوا أَنَّ قَومَهُم لَنْ يُقِرُّهُم عَلى البَقاءِ على الإِيْمانِ ولَنْ يذَرُوهُم {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} لَنْ يُفْلِحَ مَنْ انْتَكَسَ إِلى الكُفْرِ أَبداً.
فَما السَّبِيْلُ إِلى النَّجاةِ إِلا بِمُفَارَقَةِ الكُفْرِ والكَافِرِيِنَ واْعْتِزالِ مُخالَطَتِهِم {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا}
مَا كانَ أَمامَ الفْتْيَةِ إِلا أَنْ يَعْتَزِلُوا في كَهْفٍ في جَوْفِ جَبَلٍ، يَعْبُدُونَ اللهِ في بُعْدٍ عَن أَعْيُنِ النَّاسِ، وفي مَنأَى عَنْ أَذى الكَافِرِيْن.
أَوَى الفِتْيَةُ إِلى الكَهْفِ، وقْدْ أَيْقَنُوا أَنَّ مَنْ أَوى إِلى اللهِ آواهُ، وأَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلِيهِ كَفاه، وأَنْ مَنْ اعْتَصَمَ بهِ حَفِظَهُ وَوَقَاه {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} فاسْتَجَابَ اللهُ تِلْكَ الدَّعَوات. وَوَهَبَهُم مِنْ جَزِيْلِ العَطاءِ وأَمَدَّهُم بِوافِرِ الهِبات. آتاهُمُ اللهُ مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً، وهَيَّأَ لَهُم مِنْ أَمْرِهِم مِرْفَقاً، وهَيّأَ لَهُم مِنْ أَمْرِهِم رَشَداً. أَكْرَمَهُم بِأَعْظَمِ الكَرامات، وجَعَلَ مِنْهُم آيةً مِنْ أَعْظَمِ الآيات.
رَقَدَ الفِتْيَةُ في كَهْفِهِم مُطْمَئِنِيِن، وما عَلِمُوا أَنَّ الرَّقْدَةَ سَتَمْتَدُ مِئَاتِ السِّنِيْن، رَقَدُوا {فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} وفي مَرْقَدِهِم حُفِظُوا، حَفِظَ اللهُ أَبْدَانَهُم، كَما حَفِظَ أَدْيَانَهُمْ {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} مَلأَ اللهُ قُلُوبَ الرائِينَ لَهُمْ رُعْباً. فَلا يَجْتَرِئُ مُجْتَرئٌ على القُرْبِ مِنْهُم. والرُّعْبُ مِنْ جُنْدِ اللهِ يَهِزِمُ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ أَعْدَائِه. وفي الحَدِيْثِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ.. الحديث» متفق عليه
* رَقَدَ أَصْحابُ الكَهْفِ مُطْمَئِنِّيْنَ تَرْعاهُمْ عِنايَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِيْن. وبَعْدَ أَنْ بَلَغَ الكِتابُ أَجَلَه، ومَضَتْ المُدَّةُ التي قَدَّرَها اللهُ لَهُم {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} أَيْقَظَهُم اللهُ مِنْ رَقْدَتِهِم وَقَدْ فَنِيَتْ أَجْيالُ الكُفِرِ التِي كانُوا قَبْلِ النَّوْمِ عَاصَرُوها. وخَلَفَهُم في الدِّيارِ قَومٌ مُؤْمِنُون. أَيْقَظَهُمُ اللهُ، وَمَا عَلِمُوا مِقْدارَ مَا رَقَدُوا، ولكنَّ شَكَّاً سَاوَرَهُم {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}
أَعْثَرَ اللهُ النَّاسَ على الفِتْيَةِ وأَطْلَعَهُم على أَمْرِهِم. فأَبْصَرَ النَّاسُ فِيهِم آيَةً مِنْ أَعْظَمِ آياتِ الله {وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} لِيَعْلَمَ النَّاسُ حِيْنَ رأَوا هذهِ القُدْرَةَ الإِلهِيَّةِ. وهذهِ الآيَةَ الرَّبَّانِيَّةِ { أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} فَإِنَّ مَنْ قَدِرَ عَلى إِرْقادِ الفِتْيَةِ مِئاتِ السّنِيْنَ ثُمُ أَيْقَظَهُم، قادِرٌ عَلى أَنْ يُمِيْتَ البِشَرَ آلافَ القُرُونِ ثُمَّ يَبْعَثَهُم {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون
أيها المسلمون: أَعْثَرَ اللهُ النَّاسَ عَلى الفِتْيَةِ وأَطْلَعَهُم على الكَرامَةِ التي وَهَبَهُم. فَتَمَكَّنَتْ مَكَانَةُ الفِتْيَةِ في قُلُوبِهِم. فَلَمَّا مَات الفِتْيَةُ، تَنازَعَ النَّاسُ في أَمْرِهِم ما يَفْعَلُونَ بِهِم. فَقَالَ بَعْضُهُم: {ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أَحِيْطُوا قُبُورَهُم بِبِناءٍ يَسْتُرُها {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ} أَهْلُ الأَمْرِ النَّافِذِ فِيْهِم {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}
واتِّخاذُ المَساجِدِ على القُبُورِ مِنْ أَوسَعِ الأَبوابِ المُفْضِيَةِ إِلى الشِّرْك. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضيَ اللهُ عَنها : (لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ــ المَوتُ ــ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا) مُتَّفَق عليه
* أَوَى الفِتْيَةُ إِلى الكَهْفِ وبَقِيَ كَلْبُهُم {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} في فِنَاءِ الكَهْفِ لَمْ يَدخُلِ مَعَهُم. والمَلائِكَةُ لا تَدْخُلُ بَيْتاً فيهِ كَلْبٌ أَو صُورَةٌ، كَما في الحديثِ المُتَفَقِ عليه. وفي الحَدِيْثِ قالَ رَسُول ُالله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إلَّا كَلْبًا لِصَيْدٍ أوْ كَلْبَ ماشِيَةٍ، فإنَّه يَنْقُصُ مِن أجْرِهِ كُلَّ يَومٍ قِيراطانِ» متفق عليه قَالَ ابنُ عُثَيْمِنٍ رَحمَهُ الله: (واقْتِناءُ الكَلِبِ لغِيْرِ الحَاجَةِ مِنْ كَبائِرِ الذُّنُوب). وَفِتْيَةُ الكَهْفِ أَتْقَياءُ صَالحُونَ، لَنْ يَقْتَنُوا كَلْباً لِلْعَبَثِ، ولَنْ يَقْتَنُوهُ لِغَيْرِ الحَاجَة.
وَفِيْ قِصَّةِ أَصْحابِ الكَهْفِ، يُدْرِكُ الشَّابُ ويُدْرِكُ كُلُّ مُسْلِمِ ضَرُورَةَ اصْطِفاءِ صُحْبَةٍ صَالحَةٍ يَقْتَرِنُ بِها، تُعِيْنُهُ على الهِدايَةِ وتُقَوِّيْهِ بالثَّبَاتِ عَلِيْها. فَبَعْدَ أَنْ خَتَمَ اللهُ هذهِ القِصَّةَ، قَال لِنَبِيِّهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}
وفي زَمَنٍ اشْتِدادِ الفِتَنِ، وتَلاطُمِ أَمَواجِها. أَعْقَلُ المُؤْمِنِيْنَ مَنْ اشْتَغَلَ بِحِمَايَةِ دِيْنِهِ، فَفَرَّ بِقَلْبِهِ إِلى اللهِ. وارْتَمَى بِحِماه. يَسْتَجِيْرُ بِهِ مِن الفِتَنِ، ويسْتَقِوِي بِهِ أَمامَ الشُّبُهاتِ والشَّهَوات. قَالَ السَّعْدِيُّ رحمه الله: وَفِيْ هَذِهِ القِصَّةِ، دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ فَرَّ بِدِيْنِهِ مِنَ الفِتَنِ سَلَّمَهُ اللهُ مِنْهَا، وَأَنَّ مَنْ حَرِصَ عَلَى العَافِيَةِ عَافَاهُ اللهُ، وَمَنْ أَوَى إِلى اللهِ آوَاهُ اللهُ وَجَعَلَهُ هِدَايَةً لِغَيْرِه، وَمَنْ تَحَمَّلَ الذُّلَّ في سَبِيْلِهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، كَانَ آخِرُ أَمْرِهِ وَعَاقِبَتُهُ العِزَّ العَظِيْمَ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب {وما عند الله خير للأبرار}
اللهمَّ اهدنا صِراطَكَ المُسْتَقِيْم.
المرفقات
1727950267_أَصْحابُ الكَهْف 1 ـ 4ـ 1446هـ.docx