أصحاب الظل

محمد بن خالد الخضير
1433/06/19 - 2012/05/10 10:31AM
الخطبة الأولى

ان الْحَمْد لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا "
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " أَمَّا بَعْدُ :
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالة و كل ضلالة في النار
عباد الله
حينَ تنشُر الشّمس أشعَّتَها اللاّهِبَة ويلسع لهيبُها الأجسادَ المنهَكَة حين يأتي الصيفُ ويشتدّ الحرُّ ويعرَق الناسُ في كلّ حركة وتنقُّلٍ ويبلغ الجَهدُ بالنّاس مبلَغًا تضيق به نفوسُهم فإنهم يُهرعون إلى الظّلِّ وإلى وَسائل التّبريدِ
وبوقفةِ تأمّلٍ في شمسِنا المحرِقَة حين يضيق بالإنسانِ نَفَسُه ويكاد يغلي كلُّ شيءٍ حولَه فإنَّ المسلمَ يتذكَّرُ وَقفةً عظيمة لا مناصَ عنها وكُربَةً شديدةً لا مفرَّ منها، وذلك حين يجمَع اللهُ الأوّلين والآخرين على صعيدٍ واحدٍ يُسمعهم الداعي ويَنفُذُهم البَصَر، حين تَدنُو الشمسُ من الرؤوسِ مقدارَ مِيل، فلا ماءَ ولا شجَر، ولا ظلَّ ولا مدر، ولا حتى حَجَر. إنها أرضُ السّاهرة، مستَوِيَةٌ مبسوطة، فأينَ المفرُّ؟! وإلى أين يكون المستقرّ؟! أإلى الجنّة أم إلى سقر؟ إنّه يوم تشتدّ فيه الكربةُ وتضيقُ النّفوس، وليس ذلك في شهرٍ أو شهرين، إنه يومٌ مقدارُه خمسون ألف سنَةٍ، حتى يقضي الله تعالى بين الخلائق.
عنِ المقدادِ بن الأسودِ قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((تُدنى الشَّمسُ يومَ القيامَةِ مِنَ الخلقِ حتى تكونَ مِنهم كمِقدارِ مِيل، فيكون الناسُ على قَدرِ أعمَالهم في العَرَق، فمنهم من يكون إلى كَعبَيه، ومِنهم مَن يكون إلى رُكبَتَيه، ومِنهم من يكون إلى حقوَيه، ومنهم من يُلجِمُه العرَقُ إلجامًا))، قال: وأشار النبيّ بيدِه إلى فيه. رواه مسلم. وفي الصّحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((إنَّ العرقَ يومَ القيامة ليَذهَب في الأرضِ سبعينَ بَاعًا، وإنّه ليبلُغ إلى أفواهِ النّاس أو إلى آذانهم)).
أيّها المسلمون، وفي خِضَمِّ هذهِ الشّدائِدِ والكُرَب وبَينَما النّاسُ في همٍّ وغمٍّ وعذابٍ وضَنك إذَا بِفِئامٍ من المؤمِنين ممّن أكرَمَهم الله تعالى ليسوا مِن هذه الشدَّةِ في شَيءٍ؛ إنهم في ظِلِّ عرشِ الرّحمن، قد اصطَفَاهم الله فأكرَمَهم ورَعَاهم في كَنَفِه وأحاطَهم بلُطفه، فهم في ظلٍّ وارِف حتى يُقضَى بين العِباد. في الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((سَبعةٌ يظِلّهم الله تعالى في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلُّه: إمامٌ عادِل، وشابٌّ نشَأ في عبادةِ الله، ورجلٌ قلبُه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتَمَعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دعَته امرأةٌ ذاتُ منصِب وجمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلَم شمالُه ما تنفِق يمينه، ورجلٌ ذكَر الله خالِيًا ففاضَت عيناه)).
أيّها المسلِمون، إنَّ الجامعَ بين هذه الأصنافِ السَّبعةِ هو خشيةُ الله تعالى بالغيبِ وتقواهُ في السرِّ والعلَن وتقديمُ أمرِ الله على هوَى النفس مع قُدرتهم على خِلافِه؛ فالإمام يعدِل مع قدرتِه على الحيفِ والظّلم، لكنه عظَّم الله في قلبِه وعلِم قدرتَه عليه ووقَر الإيمانُ في قلبِه، فاتَّقى الله في أمانتِه، وبَدَأ به لكَثرةِ مصالحِه وعمومِ نَفعِه. أمّا الشابُّ الذي نشَأ في عبادةِ الله فقَد شَبَّ وتَرَعرَع متلبِّسًا بالعِبادةِ مُلتَصِقًا بها، لم تُلهِهِ فُتوَّةُ الشّبابِ، ولم يَغُرَّه طولُ الأمَل، بل غلَب نفسَه في عُنفُوان شبابِه ومَلأَ قلبَه الإيمانُ والتّقوى، فنشأ في طاعةِ الله وعبادتِه، ليست له صبوةٌ ولا كَبوَة. وأمّا الذي تعلَّق قلبه بالمساجِد فهو شديدُ الحبِّ لها والملازمَة للجماعَة فيها، فقَلبُه مع الصّلاة وفِكرُه مشغولٌ بها، يتحيَّن وقتَها، ويترقَّب نِداءَها، ويتحرَّى إقامَتَها، لا يكادُ ينتهي مِن صلاةٍ حتى يشتاق للأخرى؛ إنّه الأنسُ بالله. أمّا الحبُّ في اللهِ فهو مِن أوثقِ عُرى الإيمانِ، وهو عملٌ قلبيّ يطَّلعُ عليه مَن يَعلَم خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصّدور، فهو سبحانَه أعلَمُ بمَن أحبَّ لله ووَالى في اللهِ، اجتَمَع المسلِمَانِ على المحبَّةِ والمودّة لله وفي الله، لم يجمَعهما عرَضٌ من الدّنيا زائِل، ولا طَمَعٌ في مالٍ ولا جَاه، بل هو الصِّدق والإخلاص. أمّا العفيفُ الوَرِع فمع اجتِماعِ أسبابِ المعصيَةِ وتوفُّر دواعِيها وقُدرتِه على الحرام في حالِ الخَلوَة والأمانِ إلا أنَّ خوفَ الله في قلبِه أعظمُ مِن هذه الفِتنةِ وأقوى من هذا البلاء. والمنفِقُ المتصدِّق بالغَ في الإخلاص وأبعَدَ عنِ الرّياء؛ يبتَغي بذلكَ وجهَ الله. والأخيرُ رَقيقُ القلبِ حاضِرُ الإيمان، إنّه المختَلِي بدمعَتِه، لم يُراءِ بها، إنَّ الإنسانَ ليقدِرُ علَى النشيجِ والصّراخ أمامَ الناس مجاراةً لهم أو تأثُّرًا بهم، لكن من الذي يذكُر الله في الخَلوةِ فتَفيضُ عينُه ويَهمل دَمعُه خشيةً وهيبةً ورجاءً وخوفًا ومحبّةً وشوقًا؟! إنّه الإيمانُ واليقين.
عبادَ الله،
هذه المُثُل العاليةُ والمواقِف الجلِيلَةُ ليسَت سَهلَةَ المنال ، إنها مَواقفُ يُؤثِر فيها المؤمِنُ رضا الله على رِضا غيرِه وإن عظُمَت فيه المحَن وثقُلَت فيه المُؤَنُ وضعُف عنه الطّولُ والبَدَن، وكم مِن غافلٍ يظنُّها يسيرةً هيِّنَة وما دَرَى أنّه لا يُوَفّق لها إلاّ المخلَصون، وقد يَرَى الإنسانُ نفسَه قادرًا على الصّمود لكنّه إذا فُتِن افتَتَن وإذا ابتُلِيَ فشل. وإنَّ الذي يبغِي النجاةَ والفلاح والعِصمةَ والنجاحَ ليتعاهَد إيمانَه حتى يتوصّلَ إلى الكَمَالاتِ ويمتَلِئ قلبُه بالإيمانِ واليقين والخوف من ربِّ العالمين والخشيةِ والإخلاص، عِندها تفيضُ النّفسُ بالأعمالِ الصّالحة وتَنزَجِرُ عنِ الرَّذائِل وتَثبُتُ عندَ الفِتَن، وهذا لا يحصُلُ مع التواني والكَسَل، فلا بدَّ مِن تفقُّد النّفسِ ومجاهَدَتها، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ؛ وذلك ليعلَمَ الله صِدقَكَ في طلَبِ الحقِّ والإيمانِ وصِدقَ رَغبَتِك في نيلِ الجنانِ والعِياذِ منَ النّيران.بارَك اللهُ لي ولكُم في الكِتابِ والسّنّة، ونَفَعنا بمَا فيهمَا مِنَ الآياتِ والحِكمَة، أقول قولِي هذا، وأستَغفِر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد:
عباد الله إنّ شدة الحر التي يجدها من وقف حاسر الرأس حافي القدمين في حرِّ الظهيرة ما هي إلاّ نَفَسٌ من فيح جهنم، نعوذ بالله منها ومن حرها، كان من دعائه : ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حرِّ جهنم)) .
في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم))، قالوا: والله إن كانت لكافية! قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها)).
فحقٌ على العاقل أن يسأل نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها؟
يا من لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من رؤوس الخلق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟!
تفر من الهجيـر وتتقيـه فهلا مـن جهنم قد فررتـا


ولستَ تطيق أهونها عذابا ولو كنت الحديـد بِها لذبتا


ولا تنكر فإن الأمر جـد وليس كما حسبتَ ولا ظننتا

تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون؟!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم جلّ في علاه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهم للبر والتقوى.
اللهم انا نسألك الجنه و ما قرب اليه من قول و عمل ونعوذ بك من النار و ما قرب اليه من قول و عمل
اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نَفَّسته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا عيباً إلا سترته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عقيماً إلا رزقته ذرية صالحة، ولا عدواً إلا دحرته، ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها بيسر منك وعافية، يا أرحم الراحمين!
اللّهمّ احشُرنا في زُمرة أوليائِك، وارزقنا مرافقَةَ أنبِيائك، وأظِلَّنا في ظلّ عرشِك يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلّك.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.......
المشاهدات 5241 | التعليقات 4

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فجزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم وجعل ذلك في ميزان حسناتكم.


جزاك الله خيرا
جعلني الله وإياكم ووالدينا وذرياتنا من أهل الظل


الخطبة على ملف وورد

المرفقات

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/1/0/9/4/أصحاب%20الظل.doc

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/1/0/9/4/أصحاب%20الظل.doc


جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم وجعل ذلك في ميزان حسناتكم.