أصحاب السبت وأمثالهم في عصرنا

عايد القزلان التميمي
1437/01/24 - 2015/11/06 04:48AM
خطبة عن :

أصحاب السبت وأمثالهم في عصرنا

الحمد لله عالم الغيب والشهادة، أحل الحلال وحرم الحرام، أحمده سبحانه، قسم العباد بعدله إلى شقي اجتاز حدود ربه وانتهك الحرمات، وسعيدٍ جرى على النهج السديد واتقى الشبهات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غافر الذنب ومقيل العثرات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حث على طلب الرزق الحلال، وحذر من الكسب الحرام؛ نصحًا للأمة وشفقة عليهم ومما يضرهم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين
أما بعد فاتقوا الله أيها المسلمون , يقول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وقال تعالى: فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
ولنا أيها المؤمنون : وقفة مع أسلوب حكيم من أساليب القرآن العظيم وطريقة من طرقه المؤثرة في توجيه الناس وتربيتهم على دين الله.
إنه أسلوب القصة والتي لم تُذكر في كتاب الله للتسلية والمتعة. إنما ذُكِرت للعظة والعبرة والانتفاع منها بما يقرب الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى
وصدق الله إذ قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ
عباد الله : ومن القصص القرآني قصة أصحاب السبت حيث أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يسأل أهل الكتاب عن قصة يعلمونها، فقال تعالى في سورة الأعراف : (( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ )) .
وفي سورة البقرة يخاطب الله تعالى أهل الكتاب مباشرة بشأن هذه القصة فقال تعالى: (( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)) .
عباد الله : أصحاب السبت هم طائفة من بني إسرائيل كانوا يسكنون في قرية تقع على ساحل البحر، وكان عملهم الذي يتكسبون منه هو صيد الحيتان، فكانوا يخرجون للصيد كل يوم إلا يوم السبت، لأن شريعتهم في التوراة تُحرم عليهم العمل يوم السبت، فكانوا يلتزمون بشريعتهم تلك كشأن سائر المؤمنين من اليهود، وقد ابتلاهم الله بأن الحيتان تأتيهم يوم السبت حتى يرونها طافية على الماء قريبة من الساحل، وفي غير يوم السبت لا تَأتِيهم، فلم يَصْبِروا على هذا الابتلاء، وإنما خالفوا شريعة الله بحيلٍ خبيثة، فمنهم من خرج يوم السبت واصطاد حوتًا، ولكنه لم يُخرجه من الماء، وإنما حَزمه بحبل مربوط بِوَتَدٍ على الشاطئ، حتى إذا جاء يوم الأحد، سحب الحبل وأخرج الحوت. ومنهم من حفر حفرة على الشاطئ متصلة بقناة إلى البحر، فإذا دخل الحوت إلى هذه الحفرة في يوم السبت لا يستطيع الرجوع إلى البحر مرة أخرى، فإذا جاء يوم الأحد أخرجه من الماء. وكانوا يفعلون ذلك سرًا في بادئ الأمر، حتى كثر صيدهم للحيتان، وباعوها في الأسواق، فانتشر ذلك الأمر بينهم حتى جاهروا بالصيد بعد ذلك بمثل هذه الحيل.
عباد الله فعندما رأى بعض الصالحين من أهل هذه القرية المنكر قاموا بواجب الوعظ، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وبينوا أن صيد هذه الحيتان يعتبر اعتداءً على شريعة الله في التوراة التي تحرم العمل بالصيد في يوم السبت، ولكن المعتدين في السبت ظلوا يصيدون بمثل هذه الحيل بحجة أنهم لا يخرجون الحيتان من الماء إلا في يوم الأحد, وظل الواعظون يَعِظُونَهم ويُخَوِفُونَهُم عِقَاب الله، وعِنْدَئذ رأت طائفة أخرى من الصالحين من أهل هذه القرية أن الوعظ لا ينفع ، وأن السكوت أولى، فقالوا للواعظين: (( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا )) فقال الواعظون:(( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ))، أي: إننا نَعِظُهم لتكون موعِظَتنا هذه عذرًا لنا أمام الله في أننا وإن كنا لم نغير هذا المنكر بأيدينا، ونمنعهم بالقوة من الصيد في يوم السبت، فقد نهينا عن هذا المنكر بألستنا، وبهذا نقيم عذرنا عند الله، وأيضا موعظتنا هذه قد تجعلهم يتقون الله فيقلعون عن هذا المنكر.
ولكن المعتدين في السبت رغم وعظهم وتذكيرهم بأمر الله نسوا ما ذكروا به، وظلوا على اعتدائهم، فأخذهم الله بعذاب بئيس، لم ينج منه إلا الذين ينهون عن السوء، وهم الواعظون الناهون عن المنكر.
وبرغم حلول العذاب البئيس لم ينته المعتدون ولم يتوبوا إلى الله، بل عتوا واستكبروا عما نهوا عنه، وعندئذ قال الله لهم: ((كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)) . فمسخهم الله قردة ولعنهم، وجعل هذه العقوبة نكالًا أي: ردعًا وزجرًا لمن عاصرها في وقت وقوعها، فرآها بعينه أو سمع بها، وأيضًا لمن أتى بعدها وعلم بها، وجعل الله هذه العقوبة أيضًا موعظةً للمتقين، ليعلم الناس جميعا سوء عاقبة الاعتداء على شريعته وانتهاك أوامره ونواهيه. ومكث هؤلاء الممسوخون ثلاثة أيام، ثم هلكوا بعدها فلم يكن لهم عقب ولا نسل، وفي حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل لمسخ نسلًا ولا عقبًا»
عباد الله ويمتلئ واقعنا المعاصر بوقوع ابتلاء مشابه لابتلاء أصحاب السبت، فنرى المكسب الحرام يعرض نفسه بكثرة ، بحيث يكون سهل التناول للبعض من الناس ، بأدنى حيلة، بل وبدون حيلة. فنسمع عن موظفًا تُعرض عليه الرِّشوة باسم الهدية فيأخذها. ونرى من يعمل أوراقًا على خلاف الحقيقة، ويتحصل بها على الأموال العامة. ونرى من يُوَكَّل في الشراء فيشتري بمائة، ويعطيه البائع فاتورة بمائة وعشرين، ليأخذ العشرين الزائدة بغير حق ممن وكله في الشراء، وبهذا يتعاون البائع والمشتري على الإثم والعدوان. ونرى من يتكسب من المحرمات، فيبيع شيئًا محرمًا، أو يعمل عملًا محرمًا. فمن يعظ هؤلاء معذرة إلي ربكم ولعلهم يتقون؟!
عباد الله ومن نماذج الحيل المعاصرة:
مثل ما يجري في حراج السيارات عند البيعبالمزايدة؛ حيث يتفق صاحب السيارة مع أصدقاء له ليزيدوا في سعر السيارة وهم لايريدون شراءها، بحيث إذا وقفت على غيرهم بالمبلغ الذي يريده صاحب السيارة انسحبواوحصل البيع، ولو وقفت على واحد منهم لا يحصل بيع، وإن سموه تعاوناً، فهو النجش الذيورد النهي عنه في الحديث، وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها وهذه الحيلةمحرمة.
عباد الله ومن الحيل المعاصرة نكاح الشغار وقد نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشِّغَارِ . وَالشِّغَارُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ : زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي ، أَوْ زَوِّجْنِي أُخْتَكَ وَأُزَوِّجُكَ أُخْتِي ) . وهذا النكاح باطل، وفيه ظلم للبنت؛ حيث لا تأخذ مهرها، وتُزَوَّج بمن لاتُرِيد غالباً.
ولتعلم يا عبد الله : إن التحذير من أكل الحرام وبيان سوء عاقبته في الدنيا والآخرة هو أحد عناصر موعظة المتقين بقصة أصحاب السبت، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك...
بارك الله لي ولكم ....

الخطبة الثانية
الحمد لله يحبُّ الطيّبَ الحلال، ويُبغِضُ الخبيثَ الحرام، أحمده سبحانه حمدًا نرجُو به المزيدَ من الإكرام والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ القدُّوس السلام، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله خاتمُ النبيين سيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام.
أما بعد: فيا عباد الله : إن أمة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس كما قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ،
وقد أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بتغيير المنكر ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من رأى منكم منكرًا فليغيَّرْهُ بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم.
عباد الله : ، إذا كان الله تعالى قد جعل عقوبة المسخ لأصحاب السبت نكالًا أي: ردعًا وزجرًا لكل من أتى بعدهم، وجعلها أيضًا موعظة للمتقين، فعلى المؤمن أن يحذر استحلال محارمِ الله، وأن لا يُصِر على معصية، فكم من ذنب تراه هينًا وهو عند الله عظيم، لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، واعلم أن الله تعالى قد قال في كتابه: (( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ )) .
فاتقوا الله يا عباد الله، وتوبوا إلى ربكم لعلكم ترحمون.
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا وارزقنا. اللهم باعد بيننا وبين الخطايا كما باعدت بين المشرق والمغرب...
المرفقات

خطبة عن أصحاب السبت وأمثالهم في عصرنا.docx

خطبة عن أصحاب السبت وأمثالهم في عصرنا.docx

المشاهدات 2707 | التعليقات 0