أشهرُ الحجِّ والشَّهرُ الحرام
عمر بن محمد بن مسعود الشريف
❉ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَالأَشْهُرُ الْحُرُمُ❉
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَى أَوْلِيَاءَهُ لِدِينَ الْإِسْلَامِ، وَوَفَّقَهُمْ لِزِيَارَةِ بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَخَصَّهُمْ بِالشَّوْقِ إِلَى تِلْكَ الْمَشَاعِرِ الْعِظَامِ، وَحَطَّ عَنْ وَفْدِهِ جَمِيعَ الْأَوْزَارِ وَالْآثَامِ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَّا إلَهَ إلَّا اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ السَّلَامُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَيْرُ مُعَلِّمٍ وَإِمَامٍ؛ اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْبَرَرَةِ الْكِرَامِ.
أمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوْا اللهَ تَعَالَى الَّذِي اصْطَفَى لَكُمُ الْإِسْلَام، وَفَضَّلَكُمْ بِهِ عَلَى كَافَّةِ الْأَنَام، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ الْجَسِيمَةَ الْعِظَام، وَاتَّقُوْا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَام.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: اصْطَفَى اللهُ مِنَ الْأَيَّامِ الْجُمُعَةَ، وَمِنَ الَّليَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَمِنَ الْشُّهُورِ رَمَضَانَ وَأَشْهُرَ الْحَجِّ وَالْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وللهِ جَلَّ وَعَلاَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِيمَا يَصْطَفِي وَيَخْتَار، قَالَ رَبُّنَا الْوَاحِدُ الْقَهَّار: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197]؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «هُنَّ: شَوَّالُ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، جَعَلَهُنَّ اللهُ سُبْحَانَهُ لِلْحَجِّ، وَسَائِرُ الشُّهُورِ لِلْعُمْرَة».
وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التَّوبة: 36]؛ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، وَقَدْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تُعَظِّمُهُنَّ وَتُحَرِّمُهُنَّ وَتُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِيهِنَّ، وَهُنَّ: رَجَبٌ وَثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّم.
وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُؤَخِّرُونَها لِلتَّحَايُلِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا، فَيُؤَخِّرُونَ حُرْمَةَ مُحَرَّمٍ إِلَى صَفَرٍ، وَيُسَمُّونَهُ «النَّسِيءَ»، أَيِ التَّأْخِيرَ، وَقَدْ أَبْطَلَهُ اللهُ فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ [التَّوبة: 37].
وَبَيْنَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بَعْضُ التَّدَاخُلِ: فَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ دَاخِلانِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، أَمَّا شَوَّالُ فَهُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَطْ، وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ فَهُمَا مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَقَطْ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: «وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَشْهُرُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةً، ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ؛ لأَجْلِ أَدَاءِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَحَرُمَ قَبْلَ شَهْرِ الْحَجِّ شَهْرٌ وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ؛ لأَنَّهُمْ يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنِ الْقِتَالِ –فيَتمكَّنونَ فيهِ مِن الوصولِ إلَى الحَرمِ بأمان- وَحَرُمَ شَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ؛ لأَنَّهُمْ يُوقِعُونَ فِيهِ الْحَجَّ وَيَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَحَرُمَ بَعْدَهُ شَهْرٌ آخَرُ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ؛ لِيَرْجِعُوا فِيهِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِهِمْ آمِنِينَ، وَحَرُمَ رَجَبٌ؛ فِي وَسَطِ الْحَوْلِ؛ لأَجْلِ زِيَارَةِ الْبَيْتِ وَالِاعْتِمَارِ بِهِ، لِمَنْ يَقْدُمُ إِلَيْهِ مِنْ أَقْصَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَيَزُورُهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ فِيهِ آمِنًا».
عبادَ الله: إنَّ اللهَ حَرَّمَ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُحْكَمِ: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ [التَّوبة: 36].
وَالظُّلْمُ أَنْوَاعٌ: أَعَظْمُهُ الظُّلْمُ فِي حَقِّ اللهِ، وَذَلِكَ بِالشِّرْكِ وصَرْفِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ، ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
ثُمَّ الظُّلْمُ فِي حَقِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِسُلُوكِ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَاَلَةٍ فِي النَّارِ؛ وَظُلْمُ النَّفْسِ بِاقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَظُّلْمُ الْخَلْقِ بِالاعْتِدَاءِ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ.
فَلْنَحْذَرْ مِنَ الظُّلْمِ بِشَتَّى أَنْوَاعِهِ فِي الْحَرَمِ وَأَشْهُرِ الْحَجِّ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ شُهُورِ الْعَامِ، وَلْنُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ، ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
اللَّهمَّ اجعلْنا جميعاً مِن المتَّقين. ونعوذُ بِكَ أنْ نظْلمَ أوْ نُظْلم. بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيم، وأسْتغفرُ اللهَ لي ولكمْ ولسائِرِ المسْلمين، ويا فوْزَ المسْتغفرين.
الخطبة الثَّانية
الحمْدُ للهِ وكفَى، والصَّلاةُ والسَّلامُ على الرَّسولِ المجْتبَى، ثمَّ أمَّا بعْد، فقدْ قالَ تعالَى عنِ اليهودِ لعنَهمُ اللهُ وأخْزاهم: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾[البقرة: 61].
وتأمَّلْ [وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ] أيْ: "ظُلْمًا؛ فإنَّهمْ قتَلوا زكريَّا، ويحْيَى عليْهِما السَّلامُ وغيرَهما، وحاولوا قتْلَ عيسَى عليهِ السَّلام.
هؤلاءُ همُ اليهود، قومٌ أرْذالٌ، سفَّاحون، سفَّاكو دِماء، لا يأْلونَ في مؤمنٍ إلًّا ولا ذِمَّة، لا يَرْعوْنَ حُرْمةَ الأشْهرِ الحُرُمِ المُحَرَّمِ فيها القِتال، ولا يفْهمونَ إلَّا لُغةَ الدِّماءِ والقتْل، فإذا جاءَهمْ رسولٌ بما لا تهْوَى أنفسُهمْ فريقًا كذَّبوا وفريقًا يقْتلون، هذا هوُ التَّعبيرُ القُرْآنيُّ عنْهم، واسْتخْدمَ القُرْآنُ صيغةَ المضارعِ في الفعْل (يَقْتُلُونَ)، لِيدلِّلَ علَى أنَّ هذا مِن شأنِهمْ وعادتِهمُ الَّتي لمْ تنفَكْ عنْهم في يومٍ مِن الأيَّام.
ولمْ تتوقَّفْ تآمراتُ يهود، الَّتي شهدتْها الأزْمانُ المتعدِّدة، والأماكنُ المخْتلفة، فمحاولاتُهمُ القتْلَ وسفْكَ الدِّماء، تعدَّتْ كلَّ ذلكَ لِتصلَ إلَى خيرِ البَشرِ نبيِّنَا محمَّدٍ ﷺ، وهوَ بينَ ظهْرانَي قوْمِهِ وصحابتِهِ الأجلَّاءِ بالمدينة، رغْمَ تمامِ عِلْمِ اليهودِ بأنَّهُ نبيٌّ مِنْ عندِ اللهِ تعالَى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146]، تلكَ المحاولاتُ اسْتمرَّتْ حتَّى نالَتْ بالفعْلِ مِنْهُ بأبِي هوَ وأُمِّي، عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام، حتَّى إنَّهُ ماتَ متأثِّرًا بإحْدَى تآمراتِ يهود.
فبعْدَ فتْحِ خيبرَ أبقَى النَّبيُّ ﷺ بعضَ اليهودِ فيهَا، علَى أنْ يتولَّوا رعايةَ بساتينِهَا علَى نصْفِ الغَلَّة، إلَّا أنَّ امْرأةَ أحَدِ زعماءِ اليهودِ أهْدَتْ للنَّبيِّ ﷺ شاةً مشْويَّة، دسَّتْ فيها السُّمّ، فلاكَ مِنْها شيئًا فاسْتكرهَها، وقالَ: ((ارْفَعوا أيديَكم؛ فإنَّها أخْبرَتْنِي أنَّها مسْمومة)) "أخْبرَتْنِي" أيِ: الشَّاة. فماتَ بِشْرُ بْنُ البراء، رضيَ اللهُ عنْهُ مسْموماً. واسْتدعَى المرأةَ فاعْترفَتْ. رواهُ أبو داودَ (4512)، وهوَ حديثٌ حسَنٌ صحيح. وهلْ يُسْتغربُ مِمَّن قتَلَ الأنبياء، أنْ يقْتُلوا الأبرياء، مِن النِّساء، والأطفالِ والشُّيوخِ الضُّعفاء؟
اللَّهُمَّ انْتصِرْ وانْتقمْ لحبيبِنَا ونبيِّنَا محمَّدٍ ﷺ، وأتْباعِهِ الموحِّدين. اللَّهُمَّ عليْكَ بالْيهودِ الغاصبين، والصَّهاينةِ المُعْتدين. وأرِنَا فيهمْ عجائِبَ قُدْرتِك.
اللَّهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنَا الْمُرَابِطِينَ ضِدَّ الْمُعْتَدِينَ، وَفِي الْدَّاخِلِ ضِدَّ الْمُفْسِدِيْنَ. اللَّهُمَّ وفِّقْ ولاةَ أُمورِنا لِمَا فيهِ عِزُّ الإسْلامِ والمسْلمين. وأدمِ الأمْنَ والأمانَ في بلادِنَا وفي السُّودان، وفي كلِّ مكان، يا رحيمُ يا رحْمن..