أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ

هلال الهاجري
1441/10/18 - 2020/06/10 08:53AM

الحمدُ للهِ مُغيثِ المُستغيثينَ، ومُجيبِ دَعوةِ المُضطرينَ، ومُسبلِ النِّعمِ على الخَلقِ أَجمعينَ، عَظُمَ حِلمُه فَسترَ، وبَسطَ يَدَه بالعطاءِ فَأكثرَ، نِعمَه تَتْرى، وفَضلُه لا يُحصى، من أَناخَ ببابِ كَرمِه ظَفرَ، وأَزالَ الضُّرَ عَنهُ وجَبرَ ما انكسرَ، إليه وَحدَه تُرفعُ الشَّكوى، وهو المَقصودُ وَحدَه في السِّرِ والنَّجوى، يَجودُ بأعظمِ مَطلوبٍ، ويُعمُّ بفضلِه وإحسانِه كُلَّ مَربوبٍ، سُبحانَه وَسعَ سمعُه ضَجيجَ الأصواتِ، باختلافِ اللُّغاتِ، على تَفنُّنِ الحاجاتِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، مُجيبُ الدَّعواتِ، وفَارجُ الكُرباتِ، ومُجزلُ النِّعمِ على البَرياتِ، وأشهدُ أن نَبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، أَصدقَ العبادِ قَصداً، وأعظمَهم لربِّه ذِكراً وخَشيةً وتَقوى، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه، وعلى آلِه الأتقياءِ وأصحابِه الأصفياءِ، أما بعد:

(إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)، هل تَأملنا يوماً هذه الكلماتِ، هل غُصنا في معانيها العظيماتِ، هل سألنا أنفسنا: لماذا يا تُرى حصرَ يعقوبُ عليه السَّلامُ الشَّكوى لربِّ الأرضِ والسَّماواتِ؟.

قد يكونُ لأنَّ هناكَ من الهمومِ والأحزانِ والبلاءِ، من لا يفهمُها ولا يعرفُ قدرَها إلا عالمُ الخفاءِ، فبثُّها لغيرِ اللهِ إنَّما يُحزنُ الأحبابُ ويُسرُّ الأعداءُ، فأحياناً قد لا تستطيعُ الكلماتُ أن تُعبِّرَ عمَّا في قلبِكَ، ولا يمكنُ للحروفِ أن تُظهرَ حقيقةَ أمرِكَ، ولا يعلمُ مدى أحاسيسِكَ إلا ربُّكَ، عندَها، دعْ ربَّكَ يتولى شأنَكَ أمامَ الآخرينَ، فهذه مريمُ تَلدُ من غيرِ زوجٍ فتقولُ بصوتٍ حزينٍ: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا)، فيأتيها الأمرُ من اللهَ بالسُّكوتِ والاتِّزانِ، وهو سيتولى براءَتها في تُهمةٍ لا ينفعُ فيها البيانُ، (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا).

وقد تكونُ الشَّكوى للهِ أحياناً، لأنَّكَ قد تجدُ من الآلامِ والأوجاعِ، ما تشعرُ معه بقُربِ ساعةِ الوداعِ، قد راجعتَ جميعَ الأطباءِ، ووصفوا لكَ أنواعَ الدَّواءِ، فتعلمُ أنَّه ليسَ لها إلا مَن في السَّماءِ؟، فتُخلصُ لربِّكَ الدُّعاءَ؟، فها هو أيوبُ عليه الصَّلاةُ السَّلامُ، بعدَ سنينَ من الصَّبرِ وتحمُّلِ الآلامِ، يُنادي نِداءً يُسجَّلُ على مدى الأيامِ، (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فماذا كانَ الجوابُ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).

إِلى اللَهِ فيما نابَنا نَرفَعُ الشَكوى *** فَفي يَدِهِ كَشفُ المَضرةِ وَالبَلوى

وقد تكونُ الشَّكوى للهِ أحياناً، لأنَّكَ تكونُ في مكانٍ، لا يراكَ فيه إلا الرَّحمنُ، فلمن ستبثُّ الشَّكوى؟، ومن يسمعُكَ إلا عالمُ السِّرِّ والنَّجوى؟، فهذا يونسُ عليه السَّلامُ في بطنِ حوتٍ أَسيرٌ، وفي أعماقٍ بحرٍ غزيرٍ، وفي ظُلمةِ ليلٍ كَديرٍ، فمن يسمعُه؟، ومن يُنقذُهُ؟، (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، فشكا إلى اللهِ وحدَه لا شريكَ له، وجاءَ الجوابُ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ).

إِذَا أَرْهَقَتْكَ هُمُومُ الْحَيَــاةِ *** وَمَسَّكَ مِنْهَا عَظِيمُ الضَّـرَرْ
وَذُقْتَ الْأَمَرَّيْنِ حَتَّى بَكَيْـتَ *** وَضَجَّ فُؤادُكَ حَتَّى انْفَجَـرْ
فَيَمِّمْ إِلَى اللهِ فِي لَهْفَـــةٍ *** وَبُثَّ الشَّكَاةَ لِرَبِّ الْبَشَـرْ

وقد تكونُ الشَّكوى للهِ أحياناً، لأنَّكَ لم تجدِ الحلَّ عندَ البَشرِ، فَترفعُ رأسَكَ إلى السَّماءِ فتَنتصرُ، جاءَت خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ رَضيَ اللهُ عنها إلى رَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ تستشيرُه في زوجِها الذي غَضبَ منها وقالَ لها: أنتِ عليَّ كَظهرِ أمِّي، فقَالتْ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أَوسًا تَزوجني وأنا شَابةٌ مَرغوبٌ فِيَّ، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَمَاتَ أَهْلِي، ظَاهَرَ مِنِّي، ، فقَالَ لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلمَ: (يا خَولةُ، مَا أَرَاكِ إلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ)، فقالتْ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ لي مِنْهُ صِبْيَةً صِغَارًا، إنْ ضَمَمْتُهُمْ إلَيْهِ ضَاعُوا، وَإنْ ضَمَمْتُهُمْ إليَّ جَاعُوا، فقَالَ لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلمَ: (يا خَولةُ، مَا أَرَاكِ إلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ)، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَفْعَلْ؛ فَإنِّي وَحِيدَةٌ لَيْسَ لِي أَهْلٌ سِوَاهُ، فقَالَ: (يا خَولةُ، مَا أرَاكِ إلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ)، ثُمَّ رَفعتْ رأسَها إلى السَّماءِ وَراحتْ تَقولُ: (اللَّهُمَّ إَلَيْكَ أَشْكُو حَالِي وانفرادي وَفَقْرِي)، ولسانُ حالِها:

ما لي سِوى قَرْعِي لبابِك حِيلةٌ *** فلئنْ رُدِدْتُ فأيَّ بَابٍ أَقرعُ
ومَن الذي أدعُو وأهْتِفُ باسمِه *** إن كانَ فَضْلُكَ عن فَقيرٍ يُمنعُ

 تَقولُ عَائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنها: (الحمدُ للهِ الذي وَسعَ سمعُه الأصواتِ، ولقد جَاءتْ المُجَادِلةُ إلى النَّبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسَلمَ تُكلمُه وأنا في نَاحيةِ البيتِ لا أسمعُ ما تَقولُ، فأنزلَ اللهُ فَرَجَها بعدما اشتكتْ إليه: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

أَقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الواحدِ الأحدِ، الفَردِ الصَّمدِ، الذي لم يَلد ولم يُولد ولم يَكن له كُفوًا أَحد، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ الواحدُ القَّهارُ، العَزيزُ الغفارُ، مُكوِّرُ النَّهارِ على اللَّيلِ واللَّيلِ على النَّهارِ، وأَشهدُ أن مُحمدًا عَبدُه ورسولُه، سَيِّدَ الرُّسلِ وإمامَ الأبرارِ، اللهم صلِّ وسلمْ على محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه الأطهارِ، أما بعدُ:

وقد تكونُ الشَّكوى للهِ أحياناً، لأنَّكَ لا تجدُ من تشتكي إليه، تحتاجُ إلى مَن يُنسيكَ همومَكَ، ويُشاركُكَ غمومَك، فتبحثُ عمَّن يسمعُ أشجانَكَ، ويواسي أحزانَكَ، فتجدُ حتى أقربَ النَّاسِ إليكَ مشغولاً في حياتِه، أسيراً لأحزانِه وآهاتِه، وإذا شكوتَ إليه أمراً، شكا إليكَ عَشراً، فتندمُ وتقولُ كما قالَ القائلُ:

وَإذَا عَرَاكِ بليةٌ فاصبِرْ لَهَــا *** صَبْرَ الكريمِ فَإنَّه بكَ أَعلـــمُ
وَإِذَا شَكَوتَ إلى ابنِ آدمَ إِنَّمَا *** تَشْكُو الرَّحِيمَ إلى الذي لا يَرْحَمُ

تَشكو إلى اللهِ لأنَّ للهمومِ سَطوةٌ عظيمةٌ تكتمُ الأنفاسَ، وللأحزانِ طعمٌ يتعكَّرُ معهُ كلُّ كأسٍ، فيشعرُ صاحبُ البلاءِ بحاجتِه إلى من يبثُّ له الأسرارَ، ليُطفىءَ شيئاً من لهيبِ النَّارِ، فالشَّكوى تحتاجُ إلى من يَعرفُها، والدُّموعُ تحتاجُ إلى من يُكفكِفُها، والآلامُ تحتاجُ إلى من يُخفِّفُها.

تشكو إلى اللهِ لأنَّكَ لن تجدَ أحداً أقربَ إليكَ منه، فمن ذا الذي يستطيعُ أن يعلمَ بمكنونِ القلوبِ، ولو قَصَّرتْ الكلماتُ في وصفِ الكروبِ؟، ومن ذا الذي يعلمُ ما يدورُ في البالِ، وهو القادرُ على أن يُبدِّلَ الحالَ؟، يعلمُ لو تلعثمَ اللِّسانُ ما هي حاجتُك؟، ويعلمُ سببَ حُزنِك ولماذا تفيضُ دمعتُكَ؟، ‏فَثقْ أيُّها المَهمومُ أنَّ اللهَ رحيمٌ، أنَّ اللهَ كريمٌ، أنَّ اللهَ عظيمٌ؛ يَراكَ ويَسمعُك، وهو قادرٌ على كُلِّ شَيءٍ، فبُثَّ شَكواكَ إليهِ، وأَظهرْ فَقرَكَ إليه، وأَخرجْ هُمومَ صَدرِكَ في سُجودِكَ بينَ يَديْهِ، وقُلْ: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِليكَ).

اللهمَّ إنا نَشكو إليك بَثَّنا وحُزنَنا، نَشكو إليكَ ضِعفَ قوتِّنا، وقِلةَ حيلتِنا، نَدعوكَ دُعاءَ من خَضعتْ لك رقبتُه، ورَغِمَ لك أَنفُه، ورَقَّ لك قَلبُه، وفَاضتْ لك عَيناه؛ اللهمَّ مَن نَقصدُ وأَنتَ المقصودُ، ومن نَدعو وأنتَ الربُّ المعبودُ، ومن يُعطي وأَنتَ صَاحبُ الكرمِ والجودِ، هل في الوجودِ رَبٌّ سِواكَ فيُدعى، أو هل في الملأِ إلهٌ غِيركَ فيُرجى، أم هل من حَاكمٍ فتُرفعُ إليه الشَّكوى، يا من عليه يتوكلُ المتوكلونَ، واليه يَلجأُ الخائفونَ، وبكرمِه يتعلقُ الرَّاجونَ، اللهمَّ إنَّا نعوذُ بكَ من جَهدِ البلاءِ، اللهمَّ ارفعْ عنَّا وعن المسلمينَ الوَباءَ، اللهمَّ وَفِّقْ وسدِّدْ ولاةَ أمرِنا لما فيه الخيرُ والصَّلاحُ، ووفِّقْ رجالَ الأمنِ والصِّحةِ على ما يبذلونَه للنَّاسِ، اللهمَّ يا حَيُّ يا قَيومُ برَحمتِكَ نَستغيثُ، أَصلحْ لنا شَأنَنا كُلَّه ولا تَكلنا إلى أَنفسِنا طَرفةَ عَينٍ، اللهمَّ رحمتَكَ بعبادِكَ يا ربَّ العالمينَ.

المرفقات

أشكو-بثي-وحزني-إلى-الله

أشكو-بثي-وحزني-إلى-الله

أشكو-بثي-وحزني-إلى-الله-2

أشكو-بثي-وحزني-إلى-الله-2

المشاهدات 1612 | التعليقات 0