أَشَدُ مُصِيبَةٍ أَصَابْت الأُمَّةَ (وَفَاةُ الحَبِيْبِ ﷺ) (2) 1441/3/18

عبد الله بن علي الطريف
1441/03/18 - 2019/11/15 12:56PM
أَشَدُ مُصِيبَةٍ أَصَابْت الأُمَّةَ (وَفَاةُ الحَبِيْبِ ﷺ) (2) 
أيها الإخوة: تقول عائشة: لما قُبض رسولُ الله ﷺ كان رَأسَهُ بَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي، وَلما خَرَجَتْ نَفْسُهُ الَطَاهِرَةُ، لَمْ أَجِدْ رِيحًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهَا ومَالَ رَأسُهُ نَحْوَ رَأسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ رَأسِي حَاجَةً، فَخَرَجَتْ مِنْ فِيهِ نُطْفَةٌ بَارِدَةٌ [ماء قليل] فَوَقَعَتْ عَلَى ثُغْرَةِ نَحْرِي، فَاقْشَعَرَّ لَهَا جِلْدِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ غَيْرِي ولم أتركْه على حَالِه فِي حجريِ حَتَّى يُغَسَّلَ، وَلَكِن تناولتُ وسَادَةً، فَوَضَعتهَا تَحت رَأسِهِ فَسَجَّيْتُهُ ثَوْبًا فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَجَاءَ عُمَرُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَاسْتَأْذَنَا، فَأَذِنْتُ لَهُمَا، وَجَذَبْتُ إِلَيَّ الْحِجَابَ، فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَاغَشْيَاهْ مَا أَشَدُّ غَشْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ثُمَّ قَامَا، فَلَمَّا دَنَوَا مِنَ الْبَابِ قَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا عُمَرُ مَاتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ، قَالَ: كَذَبْتَ بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ تَحُوسُكَ [تتخلك] فِتْنَةٌ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُفْنِيَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى فَرَسٍ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نزلَ بِبَاب الْمَسْجِد، ثمَّ أقبلَ مكروباً حَزينًا، فَاسْتَأْذنَ فِي بَيتِ ابْنَته عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، فَأَذنت لَهُ رَضِي الله عَنهُ، فَدخل وَرَسُولُ الله ﷺ قد توفّي على الْفراشِ، والنسوةُ حولَه، فخَمَرْنَ وجوهَهُنَّ واستترن، إِلَّا مَا كَانَ من عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَرَفَعْتُ الْحِجَابَ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ الشريف وَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَاتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمْي يَا نَبِيَّ اللَّهِ، طِبْتَ حيّاً ومَيْتًا، والله لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الـمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا».. قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ثمَّ قُمْت مَعَ النِّسَاءِ أصيحُ وألتدم.
ولما تسرّبَ النبأُ الفادحُ من البيتِ المحزونِ.. شعرَ المؤمنونَ أنَّ افاقَ المدينةِ أظلمتْ، فتركتْهم لَوْعَةُ الثُّكْلِ حيارى لا يدرون ما يفعلون.. واشتدَ بالناسِ الكربُ والحزنُ وثقلَ ألمه في نفوسهم، وغطت المصيبة عقولهم، وسُكّرتْ أبصارُهم، وحارت ألبابُهم، واضطرب المسلمون فمنهم من دهش فخربط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم ينطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، وحُقَ لهم ذلك.. فأيُ مصيبةٍ توازي فقدَهُ صلوات ربي وسلامُه عليه.. فمصيبةُ المسلمين به ﷺ ليست مثلَ المصائبِ بالآباء والأمهات والأولاد والأزواج والأحباب.. بل لن تأتيَ مصيبةٌ بعدَها أعظمُ منها أبداً إلى يومِ القيامة.! فبوفاته ﷺ انقطع الوحيُ وماتت النبوةُ، إلى قيام الساعة..
أيها الإخوة: ثمَّ خَرَجَ أبو بكرٍ سَرِيعاً من بَيتِ ابْنَته عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ.. ونَعى النبيَّr  للناس كما ذكرنا وعَلَّمَ الناسَ أن رسولَ الله r  قد مات، وأَغْلَقَ أهلُ النبيِّr  بابَ بيته عليه وهو مُسجى في فراشِهِ وحدثتْ أحداثٌ كثيرةٌ مهمة فيها عبرةٌ ففي ذلك الضحى..
وقع أَمْرُ سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ قال عمرُ بنُ الخطاب إنّهُ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفّى اللهُ نَبِيّهُ r  أَنّ الْأَنْصَارَ خَالَفُونَا، فَاجْتَمَعُوا بِأَشْرَافِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَتَخَلّفَ عَنّا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْت لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إلَى إخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نَؤُمّهُمْ حَتّى لَقِينَا مِنْهُمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ فَذَكَرَا لَنَا مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ وَقَالَا أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟ قُلْنَا: نُرِيدُ إخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ..، قَالَا: فَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَقْرَبُوهُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ اقْضُوا أَمْرَكُمْ.
قَالَ فَقُلْت: وَاَللهِ لَنَأْتِيَنّهُمْ فَانْطَلَقْنَا حَتّى أَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ رَجُلٌ مُزَمّلٌ فَقُلْت: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقُلْت: مَا لَهُ؟ فَقَالُوا: وَجِعٌ. فَلَمّا جَلَسْنَا تَشَهّدَ خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمّ قَالَ أَمّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ مِنّا، وَقَدْ دَفّتْ دَافّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ قَالَ وَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْتَازُونَا مِنْ أَصْلِنَا، وَيَغْصِبُونَا الْأَمْرَ.. فَلَمّا سَكَتَ أَرَدْت أَنْ أَتَكَلّمَ وَقَدْ زُوّرَتْ فِي نَفْسِي مَقَالَةٌ قَدْ أَعْجَبَتْنِي، أُرِيدُ أَنْ أُقَدّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وَكُنْت أَدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِك يَا عُمَرُ؛ فَكَرِهْت أَنْ أُغْضِبَهُ فَتَكَلّمَ، وَهُوَ كَانَ أَعْلَمُ مِنّي وَأَوْقَرَ فَوَاَللهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي مِنْ تَزْوِيرِي إلّا قَالَهَا فِي بَدِيهَتِهِ أَوْ مِثْلِهَا أَوْ أَفْضَلَ حَتّى سَكَتَ قَالَ أَمّا مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ.. وَلَنْ تَعْرِفَ الْعَرَبُ هَذَا الْأَمْرَ إلّا لِهَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، وَقَدْ رَضِيت لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ فَبَايَعُوا أَيّهمَا شِئْتُمْ، وَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا، وَلَمْ أَكْرَهْ شَيْئًا مِمّا قَالَهُ غَيْرُهَا، كَانَ وَاَللهِ أَنْ أَقْدَمَ فَتُضْرَبُ عُنُقِي، لَا يُقَرّبُنِي ذَلِكَ إلَى إثْمٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أَتَأَمّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ..
فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجّبُ مِنّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. قَالَ فَكَثُرَ اللّغَطُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ حَتّى تَخَوّفْت الِاخْتِلَافَ قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ وعنهم أَجْمَعِينَ وَقد أخذ بيد أبي بَكْرٍ: سيفان فِي غمدٍ إِذن لَا يصلحان، وَلَكِن من هَذَا الَّذِي لَهُ هَذِه الثَّلَاثُ؟: (إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا) من هُوَ.؟ أَبْسِطْ يَدَك يَا أَبَا بَكْرٍ فَبَسَطَ يَدَهُ فضرب عَلَيْهَا فَبَايَعْته، ثمَّ قَالَ للنَّاس: بَايعُوا. فَبَايعَ النَّاسُ أحسنَ بيعَةٍ..
وكانت هذه بيعة الخاصة.. ثم لما صار وقت الظهر صلى أبو بكر بالناس وبعد الصلاة خطبهم عمر وذكر البيعة لأبي بكر وفضله ومكانته بالإسلام فبايع الناس، ثم خطبهم..
وهنا تساؤل قد يطرحه أحد كيف يسعى فضلاء الصحابة في بيعة خليفة لرسول الله ﷺ ويتحدثون عنها، وهو لم يبرد جسده الشريف بعد.؟. الجواب: فعلوا ذلك لعلمهم بضرورة هذا الأمر وأنه لا يصلح وقت ولو كان يسيراً إلا وقد تنصب إمام للمسلمين يتولى أمرهم ويدير شئونهم.. فبها تنتظم مصالحُ العبادِ والبلادِ، ويحصلُ الأمنُ والاستقرارُ والاجتماعُ بين أفراد المجتمع، فعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: «دعانا رسولُ الله ﷺ فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أنْ بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تَرَوا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
 
أيها الإخوة: وَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بكرٍ، وكان يَوْمُ الثُّلَاثَاء أقبلَ النَّاس على جَهازِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ولم يكنْ فِي الْبَيْت إِلَّا أَهله: عَمه الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، وَعلي بن أبي طَالب، وَالْفضل بن عَبَّاس، وَقثم بن عَبَّاس، وَأُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة، وَصَالح مَوْلَاهُ، وحضره أَوْس بن خولى الْأنْصَارِيّ الخزرجي وَلم يل من غسله شَيْئا رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ..
تَقُولُ عَائِشَةُ: لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ النَّبِيِّ ﷺ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أَمْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ؟ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: «أَنْ اغْسِلُوا النَّبِيَّ ﷺ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَقَامُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَغَسَلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ، يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَيُدَلِّكُونَهُ بِالْقَمِيصِ دُونَ أَيْدِيهِمْ»، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا غَسَلَهُ إِلَّا نِسَاؤُهُ» رواه أبو داود وحسنه الألباني.
قَالَ ابن عباس: فَأَسْنَدَ عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ رَسُولَ الله ﷺ إِلَى صَدْرِهِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ يُقَلِّبُونَهُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَصَالِحٌ مَوْلاهُمَا يَصُبَّانِ الْمَاءَ، وَجَعَلَ عَلِيٌّ يَغْسِلُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وَلَمْ يُرَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَيْءٌ مِمَّا يُرَاهُ مِنَ المَيِّتِ، وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي وَأُمِّي، مَا أَطْيَبَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا حَتَّى إِذَا فَرَغُوا مِنْ غَسْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، وَكَانَ يُغَسَّلُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ، جَفَّفُوهُ، ثُمَّ صُنِعَ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَيِّتِ، وكفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض يَمَانِية، لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة، ولم يكفن ببرد حبرة كما قالت عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فقد جاؤوا بها، وَلم يكفنوه فِيهِا.
وَلما فرغوا من جهاز رَسُول الله ﷺ يَوْم الثُّلَاثَاء، وضع على سَرِيره فِي بَيته، فَدخل عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ أَفْوَاجًا، يقومُونَ يصلونَ عَلَيْهِ ثمَّ يخرجُون، وَيدخل آخَرُونَ حَتَّى صلوا عَلَيْهِ كلهم لا يؤمهم أحد.
أما دفنه فقرب الفجر ليلة الأربعاء َقَالَتْ عَائِشَةُ، لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَيْئًا مَا نَسِيتُهُ، قَالَ: «مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي المَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ»، ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ. رواه الترمذي وصححه الألباني.
ثُمَّ دَعَا الْعَبَّاسُ رَجُلَيْنِ فَقَالَ: لِيَذْهَبْ أَحَدُكُمَا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَضْرَحُ لِأَهْلِ مَكَّةَ [أي يشق]، وَلْيَذْهَبِ الْآخَرُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَلْحَدُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ الْعَبَّاسُ لَهُمَا حِينَ سَرَّحَهُمَا: اللهُمَّ خِرْ لِرَسُولِكَ، قَالَ: فَذَهَبَا، فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَوَجَدَ صَاحِبُ أَبِي طَلْحَةَ أَبَا طَلْحَةَ، فَجَاءَ بِهِ، فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَنزلَ فِي قبرِ رَسُول الله ﷺ عَليُّ بنُ أبي طَالبٍ، وَالْفضلُ بنُ عَبَّاس، وَقُثَمْ بنُ عَبَّاس، وشقران مولى رَسُول الله ﷺ وأَوْس بن خولى الْأنْصَارِيّ الخزرجي وأَدخل النَّبِي ﷺ من قبل الْقبْلَة، وألحد لَهُ لحداً، وَنصب عَلَيْهِ تسع لبنات نصبا، ثم دفنوه وَرُفع قَبره نَحوا من شبر مسنماً، ووضعت عليه الْحَصْبَاء.. ورش على قبر النَّبِي ﷺ المَاء رشاً وَكَانَ الَّذِي رش المَاء على قَبره بِلَال بن رَبَاح رَضِيَ اللهُ عَنهُ بقربةٍ، بَدَأَ من قبلِ رَأسه من شِقَّه الْأَيْمن حَتَّى انْتهى إِلَى رجلَيْهِ، ثمَّ ضرب بِالْمَاءِ إِلَى الْجِدَار.
أيها الإخوة: تقولُ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ: نَحْنُ مُجْتَمِعُونَ نَبْكِي، لَمْ نَنَمْ، وَرَسُولُ اللهِ فِي بُيُوتِنَا وَنَحْنُ نَسْكُنُ لِرُؤْيَتِهِ عَلَى السَّرِيرِ، إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ الْكَرَازِينَ فِي السَّحَرِ، وقَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا عَلِمْنَا بِدَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ» وقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَصِحْنَا وَصَاحَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ صَيْحَةً وَاحِدَةً.. وَأَذَّنَ بِلَالٌ بِالْفَجْرِ، فَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيَّ ﷺ بَكَى، فَانْتَحَبَ، فَزَادَنَا حُزْنًا، وَعَالَجَ النَّاسُ الدُّخُولَ إِلَى قَبْرِهِ، فَغُلِّقَ دُونَهُمْ، فَيَا لَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ! مَا أُصِبْنَا بَعْدَهَا بِمُصِيبَةٍ إِلَّا هَانَتْ إِذَا ذَكَرْنَا مُصِيبَتَنَا بِهِ ﷺ. وَقَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا التُّرَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقال أَنَسُ: «لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْأَيْدِي وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا» رواه الترمذي صحيح. وَكَانَ أطول النَّاس بكاء يَوْمئِذٍ عقبَة بن عَامر، ومعاذ بن جبل رَضِي الله عَنْهُمَا، فَقَالَ لَهما عمر رَضِي الله عَنهُ: حسبكما رحمكما الله..
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: إن ميلاد النبي ﷺ حدثٌ مبارك، فقد أشرقت الدنيا بمولده، لكن هذا الحدث ليس له تميز عن سائر ولادات الناس لو لم يبعث ويرسل ﷺ.
والحدث الأهم من ولادته هو هجرته التي أوجدت لنا المجتمع المسلم والدولة المسلمة التي استمرت قرونا طويلة، وقدمت للإنسانية حضارة فريدة على مر الزمان.. وكذلك الحدث الأهم من مولده في سيرته هو وفاته ﷺ لأن وفاته ليست كوفاة سائر الناس ولا كسائر الأنبياء، إذ بموته انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض.
وما يقوم به بعض المسلمين في هذه الأيام من الاحتفالِ والفرحِ بمولده وتوزيعِ الحلوى وإنشادِ القصائدِ الشركية وقراءةِ قصةِ المولد والوقوفِ عند الوصول في القراءة إلى قولهم: ولد النبي، واعتقادِ أنه يحضرُ مولدهم، وإقامةِ حلقاتِ الذكر الصوفي وما فيها من هزٍ ونطٍ، كلُ ذلك بدعٌ محدثة في دين الله عز وجل، الواجب على المسلمين ومن عنده علم أن يحذروا منها ومن حضورها، فأيٌّ احتفالٍ يكون في يوم أصيبت فيه الأمة بأعظم مصيبة في تاريخها؟! ويقول الفاكهاني: "هذا مع أنَّ الشهر الذي وُلِد فيه هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه".
 
المشاهدات 840 | التعليقات 0