أَشَدُ مُصِيبَةٍ أَصَابْت الأُمَّةَ وفاة الحبيب ﷺ

عبد الله بن علي الطريف
1441/03/10 - 2019/11/07 19:44PM
أَشَدُ مُصِيبَةٍ أَصَابْت الأُمَّةَ (وفاة الحبيب ﷺ.) (1) 11/3/1441هـ

الخطبة الأولى:

أيها الأحبة: نحن الآن في شهر ربيع الأول وفي هذا الشهر ولِدَ سيدُ ولد آدم وأفضلُ الرسل محمدُ بنُ عبدالله ﷺ، وفيه هاجر من مكة إلى المدينة تلكم الهجرة التي أعز اللهُ فيها الإسلامَ وأهلَه.. ولم يكنْ اليومان اللذان حدثت فيهما هذه الأحداث المهمة في تاريخ الأمة محل احتفاء منه  ﷺ ولا من أصحابِه رضي الله عنهم ولا من تبعهم بإحسان وإنما أُحِدثَ ذلك بعدَهم بقرون.. 

أيها الإخوة: وفي هذا الشهر أيضاً وقعت أعظمُ مصيبة على الأمة.. وأكبرُ فاجعة في تاريخ الإسلام.. ألا وهي وفاته ﷺ فما خبر وفاته.؟

لما حجَّ رسول الله ﷺ حجّة الوداع وبلّغ رسالة ربه وأكمل الله به الدين وأتم النعمة ورجع إلى المدينة ومكث بها أكثر من شهرين بدأ به الوجع تقول عائشة: رجع رسول الله ﷺ من البقيع، فوجدني وأنا أجدُ صُداعًا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه! فقال: بل أنا واللهِ يا عائشةُ وارأساه... ثم تتامَّ به وجعُه وهو يدور على نسائه، حتى اشتد عليه وهو في بيت ميمونةَ، فدعا نساءه فاستأذنهنّ أن يُمرَّضَ في بيت عائشة، فأذِنَّ له... وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُحَدِّثُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ، بَعْدَمَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ» وَأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ تِلْكَ، حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا: «أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ». ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ عاصبًا رأسَه؛ حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن دعا لأصحاب أحدٍ وترحّم عليهم واستغفر لهم، ثم أوصى بالأنصار خيرًا، فقال: أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ خيرا، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِىَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ. قال العلماء معناه جماعتي وخاصتي الذين أثق بهم وأعتمدهم في أموري.. وقال الخطابي ضرب مثلا بالكرش لأنه مستقر غذاء الحي الذي يكون به بقاؤه.. والعيبة: وعاءٌ معروفٌ عندهم يحفظ الإنسان فيها ثيابه وفاخر متاعه ويصونها.. ضرب بها مثلا لأنهم أهل سره وخفي أحواله... ثم قال: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَدَيْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا.! قَالَ: فَعَجِبْنَا.!! فَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا..! قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ.. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ ومودتُه، لَا تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلا سُدَّت إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ.

ومكث رسول الله ﷺ يصلي بالناس وهو مريض أحدَ عشرَ يومًا، كان آخرَها يومُ الخميس، قبل موته بأربعة أيام، فصلى بهم المغرب ذلك اليوم، ثم اشتد به المرض حين حضرتِ العشاءُ، فلم يستطع الخروج إلى المسجد، تقول عائشة فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» فَقُلْنَا لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَتْ: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، قَالَتْ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ، لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ وَقَالَ لَهُمَا: «أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ» فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَاعِدٌ. رواه مسلم في صورة تحكي خلافة أبي بكر للنبي في أصحابه.

وفي ذلك اليوم أعتق غِلمانَه، وتصدّق بمالٍ كان عنده، ووهب المسلمين أسلحته. ثم جاء يوم الاثنين، وما أدراك ما يوم الاثنين.! فقد كان آخرُ يومٍ في حياة الحبيب المصطفى ﷺ فقد كان يومًا أولُه فرحٌ واستبشارٌ وابتهاجٌ، وآخرُه حُزن وغمّ وحيرة.

قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ المُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي الفَجْرِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِهِمْ، «فَفَجِئَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ» فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ، وَهَمَّ المُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ، فَرَحًا بِالنَّبِيِّ ﷺ حِينَ رَأَوْهُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ: «أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ الحُجْرَةَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ»، وَتُوُفِّيَ ذَلِكَ اليَوْمَ.. وما شعرَ الناسُ أن تلك النظرةَ الحانيةَ الضاحكةَ الباسمةَ هي آخرُ نظرةٍ ينظرها رسول الله إليهم، وآخرُ مشهدٍ يرونه فيه.

لقد انصرف الناس وهم يرون أن النبي ﷺ قد برئ من مرضه، ولكنها كانت آخر صلاةٍ يشهدُها رسول الله ﷺ بنظره، فلم يأتِ عليه وقتُ صلاةٍ أخرى حتى قضى نحبه وفاضت روحه الطاهرة.

ولما ارتفع الضحى اشتد الوجع برسول الله ﷺ فدعا بفاطمة رضي الله عنها، فسارّها بشيء فبكتْ، ثم سارّها بشيء فضحكت، تقول عائشة: فسألناها بعد موته عن ذلك، فقالت: سارّني أنه يُقبض في وجعِهِ الذي توفي فيه فبكيتُ، ثم سارّني وأخبرني أني أولُ أهلِه يتبعه فضحكتُ.

ولما رأت فاطمةُ ما برسول الله ﷺ من الكرب الشديد الذي يتغشّاه قالت: واكرب أبتاه! فقال: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم، ثم دعا بالحسن والحسين فقبّلهما قبلة الوداع، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكّرهن.

وطَفِقَ الوَجَعُ يَشْتَدُ ويَزِيْدُ برَسُولِ اللَّهِ ﷺ تقول عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدَّ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ ولَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمَوْتُ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ.

وكَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ مَوْتِهِ: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» حَتَّى جَعَلَ يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ. رواه النسائي عن أم سلمة..

ثم حانت ساعةُ الاحتضار والنزع حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، وعائشة قد أسندته صدرها، وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ الشَرِيفَ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٌ» وَقَالَتْ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ مَرَضُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَرَضَتْ لَهُ بُحَّةٌ. ورفع يدَهُ أو إصبعَهُ وشخصَ بصرُهُ نحو السقفِ، وتحركت شفتاه فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقَيْنِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا اللَّهم اغفرْ لي وارحمني وألحقني فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» قَالَتْ عَائِشَةُ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَيَّرُ.. وكرر كلمته الأخيرة ثلاثًا، ثم مالت يدُه وفاضتْ روحُه الطاهرة.. وتُوفْيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في بيتِ عَائِشَةَ وفي يومها وبين سحرها ونحرها.. وفاضت روحه الطاهرة إلى بارئها.. راضية مرضية.. فصلوات ربي وسلامه عليه..

الخطبة الثانية

أما بعد: وتسرّبَ النبأُ الفادحُ من البيتِ المحزونِ ولَهُ طَنينٌ في الاذان، وَثُقْلٌ ترزحُ تحتَه النفوسُ، وتدورُ به البصائرُ والأبصارُ.

وشعرَ المؤمنونَ أنَّ افاقَ المدينةِ أظلمتْ، فتركتهم لوعةُ الثُّكْلِ حيارى لا يدرون ما يفعلون.. واشتد بالناس الكرب والحزن وثقل ألمه في نفوسهم، وغطت المصيبة عقولهم، وسُكّرتْ أبصارُهم، وحارت ألبابُهم، وغَابتْ عنهم تلك الحقيقةُ البسيطةُ أن الرسولَ ﷺ بشرٌ من البشر.. وقد كُتِب عليه ما كُتِبَ على البشر جميعًا، فإن يمت فقد مات قبله رسلٌ وأنبياء، ونسوا في غمرة الفجيعة آياتٍ صريحات كانوا يتلونها في هذا الشأن..

ووقف عمرُ في تلك الساعةِ العصيبة يخطب في الناس مفجوع مصدوم، فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات، وإن رسول الله ﷺ ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بنُ عِمران، ووالله ليرجِعنّ رسولُ الله كما رجع موسى، فليُقطِّعنّ أيديَ رجالٍ وأرجلَهم زعموا أن رسول الله مات.

وأقبل أبو بكر من العالية حتى نزل على باب المسجد وقد بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس.. فلم يلتفت إلى شيء، حتى دخل على رسول الله ﷺ في بيت عائشة مسجّى في ناحية البيت، فأقبل حتى كشف عن وجهه الشريف، ثم أكب عليه يقبّله ويبكي ثم قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبت حيّا وميتًا، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدًا، أما الموتةُ التي كتبها الله عليك فقد مُتَّها.

ثم خرج إلى الناس وعمر يكلمهم، فقال: اجلس يا عمرُ، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إلى أبي بكر وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.) [آل عمران:144]. قال ابن عباس: والله، لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر عليهم، فتلقاها الناس منه كلّهم فما أسمعُ بشرًا إلا وهو يتلوها. وأما عمر فقال: والله، ما هو أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفتُ أنه الحق، فعقِرتُ حتى ما تُقِلُّني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله ﷺ قد مات.

إنه موقف عظيم ولكن كان له أبو بكر، فما وقف أحدٌ في هذه المصيبةِ موقفه، ولا أبصر أحدٌ فيها الحق كما أبصره أبو بكر، فزاد ذلك من تعظيم الناس وتوقيرهم لأبي بكر. وللحديث بقية.. اللهم توفنا مسلمين، واحشرنا في زمرة النبيين مع الذين أنعمت عليهم...

 

 
المشاهدات 1213 | التعليقات 0