أسوارُ سُورةِ النّور للشيخ عصام بن صالح العويد

بسم الله الرحمن الرحيم


أسوارُ سُورةِ النّور

عصام بن صالح العويد
(1/6)



" النور" لم يبتدئ العظيم في القرآن العظيم سواها بتعظيم ، اختصها من بين كل القرآن أن افتتحها بالثناء عليها فقال :
ـ (سورة) والسورة في اللغة هي الأمر المنيف المرتفع عما حوله ، وكذلك هي من بين سور القرآن .


ـ (أنزلناها) (وفرضناها) وكلُّ القرآن كذلك ، لكن لها تنزيل وفرضية خاصة تليق بها .

ـ (وأنزلنا فيها آيات بينات) والقرآن بيّن كله ، لكنْ هنا بيان فوق البيان
(وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) ، فأحكامها واضحة معللة ليس فيها أدنى التباس ،
فليس فيما تنزلت من أجله من متشابه القرآن شيء ،


لأن قضايا الأعراض وحمايتها من الدنس ليست من المسائل التي يُقال فيها (اختلف العلماء) ،
نعم يختلفون في تقدير الوسيلة الموصلة إلى الغاية ، وتبعاً لذلك يختلفون في حكم الوسيلة ،
هل تغطية الوجه واجبة أم مستحبة ؟
فلو تبين أن "كشفه" موصل يقيناً إلى الفاحشة فلا خلاف بينهم في تحريمه ،
بل لو قُدر أن "تغطيته" مآلها كذلك فالتحريم قول واحد عند كلّ فقيه .


ولأجل ألا تقع الأعراض ضحية الخطأ والصواب ،
وتضطرب طرائق المربين بحثاً عن العلاج ؛


تكرر التأكيد فيها (سبع مرات) أن السورة بيّنةٌ أشد البيان :

1. (وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (1)

2. (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) (34)

3. (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (46)

4. (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (54)

5. (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (58)

6. (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (59)

7. (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (61)

فويحُ من تركها واستعاض بغيرها من تجارب البشر ، طلباً للطُرق (الإيجابية) فيما يزعم ،
فلو أفاد منهما وجعل ذِهْ تبعاً لتلك لأحسن وأجمل .


بدأت النور بكلمة (سورة) لتبني ـ والله أعلم ـ أسواراً (خمسة) شاهقة متينة
تحوط العفة وتحمي الطُهر ، العِرض فيها كقلب المدينة الحَصان لن تتسلل إليها الأيدي الخائنة
إلا بغدرة خوَّان من داخلها ، فإذا غَدرت جارحة ثُلم في الجدار ثُلمة .


فإلى بيان هذه الأسوار ،،

من بريد ملتقى الخطباء
المشاهدات 4787 | التعليقات 3

أسوارُ سُورةِ النّور
عصام بن صالح العويد
(2/6)



السُّور الأول:
أن بيضة العفة لن يحميها من لُعاب الوالغين فيها بفروجهم أو بألسنتهم إلا حزم خازم وتنكيل بالغ
في الدنيا قبل الأخرى .

"النور" لم تبدأ بفضل العفاف وذكر محاسنه والتنفير من ضده ، بل ولم تخوف الزاني بعقاب الآخرة ،
بل "النور" حين استهلت قالت :
ـ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ..) ، وإن كان محصناً فيُرجم حتى يُثلغ رأسه بصحيح السّنة.
ـ (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) وتأمل (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ..) فهنا شرطٌ عدمه عدمٌ للمشروط ،
فمجردُ وجود "الشفقة" في تنفيذ الحد زال معه الإيمان الكامل .
ـ ولا بد من التشهير (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

ـ ولم تكتف "النور" بهذا بل ضربت (عُزلة اجتماعية) و (حجراً صحيا) حتى تضيق دائرة الفُحش ،
وحتى يتردد من ثارت فورته ألفَ مرة وهو يتدبر كيف سيعيش بعدها في المجتمع إن كشف الله ستره
(الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
فالعفيف لن يتزوج زانية ، والعفيفة لن ترضى بزان ، بقي أن يكونا زوجيين زانيين ؛
كِخْ كِخْ فلن يقبل حتى الزاني أمَّ ولده فاجره ، والزانية أيضاً أيضاً كذلك ،
فلابد بسلطان المجتمع (أيضاً) أن يكونا عفيفين ، إما أصالةً أو بتوبة ،
وهنا يتدخل التشريع ليفرض على المجتمع أن يقبل به أو بها بعد التوبة .

إن سُوْرَ "النور" الأول لحماية المجتمع من شيوع زنى الفرج - عياذاً بالله -
هو "المجتمع الطارد" لهذه الرذائل ،
فهو مجتمع محصن ، يجلدهم بلا رأفة ، يشهر بهم ، يحجر عليهم .
وقد بُدء بهذا السوْر لأنه أقواها ردعاً وأبقاها أثراً ،
لكنه "سوْرٌ جماعي" قبل أن تبنيه لابد أن تبني المجتمع الذي يتبناه .

فإن قيل : فأين التخويف بعذاب الآخرة ؟
فالجواب : قد جاء كثيرا في ثنايا السورة ، لكن الفاحشة إذا فارت في القلب طغت على نور العقل ؛ فقلما يردعها تذكر الآخرة إلا عند عبادٍ لله مخلصين ، بينما بأس الدنيا من الجلد والفضيحة وخوف نبذ المجتمع ينزع الله به مالا ينزع بالقرآن .
وإن قيل : وأين التحصين بالتربية وغرس محبة الطهر والعفة ؟
فبيانه أن هذا وغيرَه سيأتي ، ولكن هكذا شاء العليم الحكيم أن يرتب آيات هذه السورة العظيمة .
هذا هو السوْر الأول لتحصين الفرج ،

وأما تحصين اللسان عن الفاحشة كما جاء في "النور" فشيء آخر
فقد تعاملت "النور" مع الوالغين في الأعراض بألسنتهم
بحجج عقلية ونداءٍ ايماني وصرامة شديدة في الوصف والجزاء والشرط ،
حتى إنه يتخايل لك حيناً أن تهديدها للألسنة الوالغة أشدُّ مما هددت به الفروج الزانية ،
(فالفرج) جريمته مع بشاعتها هي واحدة ، فإذا تناقلتها (الألسنة)
صارت ثقافة شائعة فانتُهكت آلافُ الفروج المحرمة .
ومن البدهي أن ليس للإشاعات نمط واحد لا تتجاوزه ، بل يدخل فيها شائعات البريد الإلكتروني ومنتديات الإنترنت ومواقع اليوتيوب والفيسبوك والتشات والدردشة ورسائل الجوال والماسنجر عن فلانة وفلان ، ونلحظ أن بعضهم إذا اختلف مع رجل أو امرأة في عقيدة أو فكر أو منهج ونحوها استباح من مخالفه كل عرض ، وظن أن هذه المخالفة تسوغ له بهتانه ، بل حيناً يحتسب الأجر عند الله ـ بزعمه ـ لأن مخالفه عدو لله .
وله نصيب وافر منها أيضا ًذاك الكذاب الذي رأى ظِنةً فصيرها مِئنة ، فأخذ يثير الظنون الفاسدة بين الناس ، بمثل قوله لهم : رأيت زوجته تكلم فلانا ، وبنات جيراننا يعدن في ساعة متأخرة من الليل ،
وفلانة تركب مع رجل غريب ...
ومن هؤلاء من يحدث بكل ما سمع ، ويزعم أنه لم يتهم وأنه وأنه .. وإنما هو ناقل ،
فيقول مبيناً حكمه : " كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع " رواه مسلم .

وهذه هي الأوصاف التي اختارها الله لهم :
ـ (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
ـ (فَأُولَئِكَ "عِنْدَ اللَّهِ" هُمُ الْكَاذِبُونَ)
وصيغة الحصر في الآيتين للمبالغة كأن لا يوجد في الدنا من الفاسقين والكاذبين إلا هم ،
و(عند الله) جملة حالية أي أنهم في علم الله الذي لا يدخله تغيير أو تبديل هم كاذبون .

ـ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (15)
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) والتلقي عادة بالآذان لا بالألسنة لكنهم لسرعة إلقائهم لهذه الإشاعات بألسنتهم بمجرد سماعهم لها فكأنها عبرت للسان دون مرور بالسمع ، وتأمل خفة العقل هنا .
(وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ) ومن المعلوم أن القول يكون بالأفواه لا بغيرها ، فهل ذُكر عبثاً ؟ حاشاه ، لكن هذا القول لما لم تقلبه القلوب و تمحصه العقول أصبح مجرد حركة للفاه لم يتأمل عُقباه .
(وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) أما هذه فقد نطقت بما ليس للعبد معها إلا أن يرددها .

أما الجزاء :
ـ (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)
ـ ( وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) [النور : 4] حتى يتوبوا .
ـ (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور : 14]

وأما الشرط :
ـ (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [النور : 17]
(يَعِظُكُمُ اللَّهُ) الموعظة تأتي في غالب القرآن ولا تُسند لفاعل (يوعظ به) (يوعظون) (موعظة) ، وهنا جاء لفظ الجلالة صريحاً (يعظكم الله) ، وهي تكون لمن علم التحريم أعظم ممن لا يعلمه .
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط ، ومن المقرر أن الشرط يلزم من عدمه العدم ، فمن عاد فليس بمؤمن .
وهذا الشرط دليل عند الإمام أحمد على تكفير كل من رمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لأن الآيات نص فيها .

- وهنا واجبات أربع فرضها الله على المجتمع حين ورود شائعة تتعلق بالأعراض :
فأولها : حسن الظن ببعضنا (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) وتأمل قوله (بأنفسهم)
فهم نفس واحدة ، فكل ما يصيب المؤمن يصيب أخاه شاء ذلك أم أبى .
ثانيها : التكذيب المباشر والصريح إعمالا للبراءة الأصلية (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) ،
ولم يرض منهم بقول : لاندري .. الله أعلم .. قد يكون .. هذا مستبعد .. بل يقذفون القاذفَ صريحاً
بقولهم له"إفك"و"بهتان" (مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (16)
ثالثها : هات دليلك وبرهانك أو أنت رأس الكاذبين
(لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [13] .
وهنا ثلاثة مؤكدات لاستحقاقهم هذا الوصف "عند الله" و "هم" و"ال" وأنكاها أولها ،
وأصل الكلام "فأولئك كاذبون"
رابعها : التروي وتقليب الأمر والنظر في العاقبة وترك العجلة في الكلام والحكم
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ، (مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا)

ختاما ً، في صحيح البخاري قال جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم :
"وأما الرجل الذى أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ، ومنخره إلى قفاه ، وعينه إلى قفاه ،
فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق"
حفظ الله فروجنا وألسنتنا وجوارحنا من كل سوء

وإلى السّوْر الثاني بمشيئة النور وعونه سبحانه ،،


بسم الله الرحمن الرحيم
أسوارُ سُورةِ النّور (3/6)

عصام بن صالح العويد



السُّوْر الثاني :

أن العِفة في حقيقتها قضية قلبية وجدانية
فمن أُسس تربية "النور" للمجتمع تربية الأجيال على محبة الطهر وبغض الفاحشة .
تأمل اللفظَ وتنفيرَه ، (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) و(الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ) هكذا بلا كناية ولا مُواربة ،
فأين توارت توريات وكنايات القرآن ؟!
بل يؤكد معناها بالنص على ضدها (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)
فلا بد من أحد الوصفين إما خبيث أو طيب .

وحين يرد هذا اللفظ المستشنع "خبيث" تتهادى إلى خاطرك آية الأنفال :
(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ)
كانت أجسادا على الأرائك بعضها فوق بعض بالحرام ، فصارت أجسادا بعضها أيضاً فوق بعض لكن متراكمة كجثث الموتى في نار جهنم ، عياذا بالله .

ومن طهر نفسه فهو "الطيب" ، والناس في هذا يتفاوتون :
1 – فمنهم المحصن : وهو من حصن نفسه منها وإن نازعته شهوته .

2- وفوقه الغافل : وهو من لم تدُر الفاحشة بخاطره أصلا .
ولما كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قد حازت أعلى المرتبتين قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [ 23]
وفي القوم أناس جريرتهم الكبرى هي المحبة

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) ،

فهؤلاء يحبون مشاهدالفاحشة بين الشباب والفتيات ، يطربون لسماعها في المجالس ،
يرسلون روابطها للناس عبر المنتديات والإيميلات والقروبات ،
يتسابقون إلى برمجة ونشر (البروكسي) لتحطيم سدود الطهر ،
وما درى هذا المسكين أنه يُسابق إلى جبل من جبال جهنم ، أيها يحطم رأسه أولاً .


فغرس محبة العفاف سوْرٌ عظيم للفضيلة :
ولذا امتن الله على المؤمنين بقوله (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) [الحجرات : 7]
وأثنى عليهم بقوله (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة] ، وقوله (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة]
ودعا به صلى الله عليه وسلم لأمته "اللهم طهِّر قلبَه، وحصِّن فرجَه ".
وهذا الغرس له من الوسائل والأساليب ما لا يحصى :
1- الإقناع : " أترضاه لأمك ... "
2- معرفة شرف العفة وفضلها :

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) [التحريم : 12] ، (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) [الأنبياء : 91] .
وهنا لطيفة في مجيء حرف الفاء (فـنفخنا) بين الجملتين (أحصنت) و (نفخنا) ،
فهي تفيد التفريع ، اي أن ما بعدها (نفخنا) فرع ونتيجة لما قبلها (أحصنت) .


بل إن الله لما ذكر مريم عليها السلام وصفها بثلاث صفات :

(الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا..) (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ) (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)

فتأمل كيف قدم الله وصفها بالإحصان على وصفها بالتصديق والقنوت ،

وكيف ذُكر النفخ بعده وقبلهما إظهارا للسبب الأبلغ أثرا لاصطفائها بهذا النفخ العظيم .

ومن السنة في الحديث الحسن قال صلى الله عليه وسلم
"إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت".


وما أجمل لو حفظنا بناتنا مثل هذه الأبيات الرائقة

أختاه لا تهتكي ستر الــــحياء ولا *** تضيعي الدين بالدنيا كمن جهلوا
تمسكي بكتاب الله واعتصـــمي *** ولا تكوني كمن أغراهم الأجل
أختاه كوني كأسماء التي صـبرت *** وأم ياســـر لما ضامها الجَهـِل
كوني كفاطمة الزهراء مؤمنـــة *** ولتعلمي أنــها الدنيا لها بدل
كوني كزوجات خير الخلق كلهمو *** من علم الناس أن الآفة الزلل
من صانت العرض تحيا وهي شامخة *** ومن أضاعـته ماتت وهي تنتعل
كل الجراحات تشفى وهي نافـذة *** ونافذ العرض لا تجدي له الحيل
أختاه إنا إلى الرحمان مرجعنـا *** وسـوف نسأل عما خانت المُقل
أختاه عودي إلى الرحمان واحتشمي *** ولا يــغرنك الإطراء والدجل
توبي إلى الله من ذنب وقعت به *** وراجعي النفس إن الجرح يندمل


3 - التخويف من عاقبة الفاحشة : كما في حديث التنور في البخاري في رؤياه صلى الله عليه وسلم :
" قَالَا لِي - أي الملكين - انْطَلِقْ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، قَالَ عَوْفٌ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ وَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ ، قَالَ : فَاطَّلَعْتُ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهِيبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا ،
فَقُلْتُ مَنْ هَذَا ؟ .. قالا : وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ ".


وأحاديث انتشار الأمراض المستعصية بين أهل الفواحش
ودلالة الواقع على ذلك .


3- القصص : ومنها قصة يوسف عليه السلام ، وحديث الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، وعند الاسماعيلي في مستخرجه وأصله في صحيح البخاري مختصراً
عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون قَالَ :
" كُنْت فِي الْيَمَن فِي غَنَم لِأَهْلِي وَأَنَا عَلَى شَرَف ، فَجَاءَ قِرْد مِنْ قِرَدَة فَتَوَسَّدَ يَدهَا ، فَجَاءَ قِرْد أَصْغَر مِنْهُ فَغَمَزَهَا ، فَسَلَّتْ يَدهَا مِنْ تَحْت رَأْس الْقِرْد الْأَوَّل سَلًّا رَفِيقًا وَتَبِعَتْهُ ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَأَنَا أَنْظُر ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَجَعَلَتْ تُدْخِل يَدهَا تَحْت خَدّ الْأَوَّل بِرِفْقٍ ، فَاسْتَيْقَظَ فَزِعًا ، فَشَمَّهَا فَصَاحَ ، فَاجْتَمَعَتْ الْقُرُود ، فَجَعَلَ يَصِيح وَيُومِئ إِلَيْهَا بِيَدِهِ ، فَذَهَبَ الْقُرُود يَمْنَة وَيَسْرَة ، فَجَاءُوا بِذَلِكَ الْقِرْد أَعْرِفهُ ، فَحَفَرُوا لَهُمَا حُفْرَة فَرَجَمُوهُمَا ، فَلَقَدْ رَأَيْت الرَّجْم فِي غَيْر بَنِي آدَم "

وليت من استفرغ جهده في جمع هذه الوسائل من الكتاب والسنة وتجارب الناس ؛ فسيجد درراً وجواهر أغلى من الألماس .


بسم الله الرحمن الرحيم

أسوارُ سُورةِ النّور

عصام بن صالح العويد
(4/6)




السور الثالث : حفظ الفروج لا يكون إلا بحفظ الجوارح .

(البصر) (السمع) (اللسان) (القلب) (الأيدي) (العورة) (الرِّجل) (الرأس "خُمرهن") (الجَيب "النحر والصدر")
هذه "تسع" جوارح نصّت عليها "النور"،
عجباً من أجل صوت خلخال من رِجْلِ امرأةٍ يتكلم الله !! نعم إنها العفة .
العِرض في سورة النور كقلب المدينة الحَصان لن تتسلل إليها الأيدي الخائنة إلا بغدرة خوَّانمن داخلها ، فإذا غَدرت جارحة ثُلم في جدارالعفاف ثُلمة .
وأثر هذه الجوارح على العفة أو ضدها واضح لا يحتاج إلى برهان
ولذا اتفق الأئمة الأربعة على :

تحريم مس يد المرأة الأجنبية الشابة
وعلى حرمة النظر إليها والخلوة بها لكون ذلك سببا ظاهرا للفساد
وعلى حرمة كشف المرأة لوجهها إذا خيف عليها خوفاً ظاهراً
وكذا تعطرها بما يجد الرجال رائحته منها ، أو تغنجها بالكلام أو بالرسائل أو تكسرها بالمشي أو غمزها بالعين ونحو ذلك .
وقد قال الله تعالى في "النور" (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِوَالْمُنْكَرِ)
وفي الصحيحين "فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ ، وَزِنَااللِّسَانِ الْمَنْطِقُ ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ"
والذي نحتاجه من "النور" هو النور القلبي الذي يضيء لهذه الجوارح طريقها
أين تمضي؟ وأين تقف ؟ فإن المضي دائماً هلاك ، والوقوفَ دوماً فناء .


وهنامسألة أُصولية عظيمة نبهت عليها إشارات "النور" وهي أن :
حِياطة الطُّهر لابد فيها مِن إعمال قاعدتين :"سدّ الذريعة" و "مراعاة الحاجة"


فالأولى تَقي والثانية تُبقي ، الأولى تَحُوط والثانية تُنفِّس .
وإهمال إحدى القاعدتين مآله إلى شيوع الفاحشة في الذينآمنوا .
فإهمال الأولى ؛ تركٌ لذئاب الشهوة من داخل النفسوخارجها تُمزق العفة تمزيقا ،
وإغفال الثانية بزعم الغيرة ؛ سيحبس النفوس هُنيهة ثم ترقب متى يتفجر البركان ؟


وقاعدة سدّ الذريعة في النور ظاهرة جداً :
- ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِوَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِوَالْمُنْكَرِ(
- )قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) 30
- (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) 31
- (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) 31
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ...) 27
ولذا اتفق الفقهاء على أن المرأة إذا تميزت بحسنها أو كثر الفساق في مجتمعها من دون رادع عن الطمع فيها ؛ فإنه يجب على المرأة أن تستر زينتها سواء كانت في وجهها أو في غيره عند خوف الفتنة الظاهرة عليها .


وقاعدة مراعاة الحاجة أيضاً ظاهرة :
- (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)
- (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)
وقد غايرت "النور" بين الأبصار والفروج فالأولى فِعلُها (يَغُضُّوا) والثانية فِعلُها (يَحْفَظُوا) ، والإغضاء هو : صرف المرء بصره عن التحديق وتثبيت النظر فهو أغلبي وليس تاماً بخلاف الحفظ .
ثم جيء بـ (مِن) التي للتبعيض مع (الغض) دون (الحفظ) .
يقول ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين (1 / 92) عن غض البصر : ولما كان تحريمه حريم الوسائل فيباح للمصلحة الراجحة ويحرم إذا خيف منه الفساد ولم يعارضه مصلحة أرجح من تلك المفسدة ؛ لم يأمر سبحانه بغضه مطلقا بل أمر بالغض منه وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال لا يباح إلا بحقه فلذلك عم الأمر بحفظه .
- (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)
وهنا حرّم الله على النساء إبداء كل زينة وهذا هو الأصل فلا يجوز إظهار الزينة إلا ما استثناه الله وهو (إلا ما ظهر منها) ، واللفظ الذي جاءت به "النور" هو (ظهر منها) ولم يقل هنا سبحانه (إلا ما أظهرته) أو (إلا ثيابها) أو (إلا وجهها وكفيها) بل إلا ما ظهر هو ولم تقصد هي إظهاره قال ابن عطية رحمه الله : ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي ، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لابد منه ، ونحو ذلك ، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه . اهـ
ولذا جاز ما ظهر ضرورةً كالقوام من وراء الجلباب ، وما أظهرته الحاجة كالنقاب للعينين وهو جائز بالنص والاتفاق ، وجاز لها ظهور يديها عند الحاجة لذلك كتناول شيء أو فتح باب أو أداء مهنة ونحوها ولم يوجب أحد من الفقهاء القفازين عليها ، وجاز ظهور وجهها عند الشهادة والخطبة والبيع والشراء إذا احتاجت لذلك عند كافة الفقهاء .
- ومن آيات مراعاة الحاجة في "النور" عند ضعف الفتنة (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( (60)


والمسألة هنا رباعية :
1) إذا قويت الذريعة وضعفت الحاجة :
كفتاة جميلة لا تحتاج إظهار يديها أو وجهها ، أو صوتها رخيم رقيق بطبعه ولم تحتج للكلام مع أجنبي عنها . فهنا يُغلب جانب سد الذريعة .
2) قويت الحاجة وضعفت الذريعة :
كامرأة كبيرة لا يُشتهى مثلها عادة تعمل فتحتاج لكشف يديها ووجهها حينا لطبيعة عملها ، أو في بلد لا يُنظر لمثلها عادةً ، فهاهنا يُغلب جانب مراعاة الحاجة .
3) تقاربتا في الضعف :
وأمثلة هذه تظهر مما سبق ، والأصل هنا الستر كما سبق في آية الزينة ويؤيده قوله تعالى في القواعد من النساء (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) ، فكيف بغيرهن ؟!
4) تقاربتا في القوة :
وهذا الموطن مُشكل ، فمثلا إذا كانت حسنة الوجه واحتاجت حاجة قوية لكشفه عند الجوازات لتسافر مع زوجها أو لطبيعة عملها الذي تعول نفسها وأهلها منه ، وكانت حصاناً تحفظ نفسها ، ونقول هنا بأن الأصل وجوب ستر الزينة ما لم يقع الحرج (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج : 78 ، ولحديث الخثعمية المشهور فإنها مع فتنة الفضل رضي الله عنه بنقابها فلم يأمرها صلى الله عليه وسلم بتغطية عينيها لشدة حاجتها إلى النظر مع ما يحتاج إليه الحج والسفر ، وإنما صرف صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها ، وهذا هو أرجح الوجوه في تأويل الحديث .
والله أعلم ،،