أسماء الله الحسنى(ملف علمي إيماني متجدد)
حسين عامر
والذي أبغيه في هذه الدراسة أن نبتعد عن المسائل الخلافية وفلسفات علماء الكلام لأني أؤمن أن العقيدة يقين يحرك وليست جدالا يؤرق ، فنتناول كل اسم تناولا إيمانيا ليكون لكل اسم في القلب أثرا كبيرا يحركه ويوقظ إيمانه المخدر ليصير إيمانا يقظا متحركا ، أسأل الله أن يرزقنا شرف التعرف عليه ، وحلاوة الأنس به .
وقبل البدء في شرح أسماء الله الحسنى نتكلم عن ثمرات معرفة أسماء الله الحسنى
الثمرة الأولى /الإيمان بالله العظيم
يقول الشيخ محمد النابلسي : الإيمان بالله شيء ، والإيمان به عظيماً شيء آخر ، قال تعالى في شأن مًن استحق دخول النار :﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾ سورة الحاقة
( العظيم ) ركز على هذه الكلمة
للتقريب : الله عز وجل يقول :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾ الأحزاب
الأمر ينصب على الكثرة لا على الذكر ، لماذا ؟
لأن المنافقين يذكرون الله ، قال تعالى :﴿ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ النساء
المنافق يذكر الله ، لكنه يذكره الذكر القليل ، لذلك حينما قال الله عز وجل :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾الأمر منصب على الكثرة لا على الذكر .
إذن ﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾الأمر منصب على العظيم لأن إبليس آمن بالله :﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ﴾آمن به رباً وعزيزاً وخالقاً :﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾
وآمن باليوم الآخر ، ومع ذلك هو إبليس ، فالذي يؤمن دون أن يستقيم يمكن أن نسمي إيمانه إيماناً إبليسياً ، الذي يؤمن دون أن يلتزم ، الذي يؤمن دون أن يقف موقفاً يؤكد إيمانه ، لأن الإيمان ما وقر في القلب ، وأقر به اللسان ، وأكده العمل
فأول شيء من آثار الإيمان بأسماء الله الحسنى تعظيم الله ، ويجب أن تؤمن أن هناك علاقة مطردة بين تعظيم الله و طاعته .
كلما تعمقت في أسماء الله الحسنى كان تعظيمك لله أكبر ، وكانت طاعتك أكثر ، وكانت مسارعتك إلى رضوانه أكثر ، فأصل الدين معرفة الله .
مقارنة بين يونس وهو في بطن الحوت وفرعون وهو يغرق :
إذن فالطاعة مرتبطة بالتعظيم والتعظيم مرتبط بأسماء الله الحسنى ، فمعرفة الله والإيمان به وتعظيمه ليس شيئا طارئا لينقذ الإنسان نفسه من الهلكة كما فعل عدو الله فرعون حينما أدركه الغرق لجأ إلى الله وقال : (آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) يونس
فيجيبه الله (آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢)يونس
ومن الملفت للنظر أن المد في ( آلآن ) في قراءة حفص مد لازم ست حركات
(آلآن) لم تتذكر أن لك إلها تؤمن به إلا الآن
أمَّا سيدنا يونس حينما ابتلعَهُ الحوت ( فنادى في الظلمات أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) الأنبياء
لماذا قُبِلَت هذه الكلمة من يونس ولم تُقبل من فرعون ؟ كلاهما في المحنة قال : لا إله إلا الله ؟
فرعون ما عَرَفَ الله قبل المحنة لذلك ما نفعته عند المحنة
سيدنا يونس عَرَفَ الله قبل المحنة فلما جاءت المحنة نفعته هذه الكلمة هذا أول فرق فرعون الذي قال بكل كبر وغرور (أنا ربكم الأعلى ) النازعات24
أما يونس نادى وهو مكظوم ( لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )(٨٧) الأنبياء
هناك شيءٌ آخر : وهو أنَّ سيدنا يونس قال " لا إله إلا أنت سبحانك" كلمة (أنت) يخاطبه وجهاً لوجهٍ .
أما فرعون فماذا قال؟ قال " لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل "
سيدنا يونس قال : "لا إله إلا أنت" وكأنه يرى الله معه
أما فرعون سمع أنه يوجد إله لموسى بيده كل شيء فلما شرع في الغرق شعَر أن إله موسى هو الذي أغرقه فقال " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل " ، فذِكرُ ضمير الغائب دليل على أنه غير مُتحقق .
قُبلتْ (لا إله إلا الله) من سيدنا يونس لأنه كان من المُسبحين ولم تُقبل من فرعون لأنه لم يكن من المُسبحين .
ففِرعون حينما قال :لا إله إلا الله قبل أن يغرق قالها ليتخلّص من الغرق
الثمرة الثانية / تحقيق شرف العلم بالله
فالإنسان يشرف بقدر ما يعلم وهل هناك أشرف من العلم بالله فهو أشرف معلوم كما قال الإمام الغزالي .
ومن أعجب الأمور أن الإنسان الغربي بلغ ما بلغ من العلم وعلى الرغم من ذلك تجده إنسان جاهل بالله الذي خلقه ، فهذه مصيبة الحضارة المادية التي علقت الناس بالمادة وأنستهم الله الذي خلقهم .
يذكر الدكتور عبد المجيد الزنداني في إحدى محاضراته :
جرت مجادلة بيني وبين أحد علماء بريطانيا: البروفسور كروستوفر بالس ، وهو طبيب منمشاهير علماء بريطانيا في الطب ، فقلت له : هل وُجِدَت عينك لحكمة ؟قال : نعم .
قلت : وهلوُجِدَ أنفك لحكمة ؟قال : نعم.
وأخذت أعدد أعضاء الجسم .
فقال لي : هذه مواضيع أبحاث علمٍ يسمى علم وظائف الأعضاء لا يتخرج الطبيب من أي كلية في الطبإلا إذا درسه .
فقلت له : هل الحكمة من هذا العضو خاصة بالعضو نفسه ، أم أنهامن أجل الكل؟(أردت أن يعترف أن الحكمة من الأجزاء ليست من أجل الأجزاء نفسهاوإنما من أجل الكل).
فقال: أرأيت لو جئت بالجهاز الهضمي وحده من دون الجسم ألهقيمة؟قلت: لا .
قال: كيف تقول: إن الأعضاء والأجهزة أحكمت من أجل نفسهاولم تحكم من أجل الكل؟قلت له: أنا كنت أسأل وأنت قد أجبتني .
فما الحكمة منهذا الكل؟ (يقصد الإنسان )فبهت وأطرق برهةً وأدرك أنه وقع في الفخ!!
وقال: هذه فلسفة !
قلت له: قبل قليل كان علماً (علم وظائف الأعضاء)!! لقد هربت ، وكنت أعلم أنكستهرب ، وأنا أعلم لماذا ستهرب. ولكن قبل ذلك عندي سؤال .. أفي استعمال حذائك حكمة؟قال: نعم لها فائدة: فهي تقيني الأذى، فهي تحمي قدمي من الاصطدام بالأجسامالثقيلة ومن الخدش بالأجسام الحادة ، ومن التضرر بالسوائل الضارة ، ومن تقلبات الجو، ومن اختراق بعض الكائنات وغير ذلك .
فقلت له: ألوجودك حكمة ؟فبهت مرةثانية !
فقلت له: والله أني لأعجب يا برفسور من حضارتكم التي تقول لكم: إنالإنسان أحقر من نعله !! فلاستعمال الحذاء حكمة، ولابسها لا حكمة من وجوده!!
أما لماذا لم تعرفوا الحكمة ولماذا هربت فذلك لأن الحكمة من خلقك لا تعرف إلابتعليم من الخالق ، وأنتم لا تعرفون الخالق ، فكيف ستعرفون حكمة وجودكم؟! لذلكسيبقى الإنسان في نظركم أقل شأناً من الحذاء.
ولا طريق للتخلص من هذا إلا أن تعرفربك لكي تعرف لماذا خلقك. وقلت له: يا دكتور سأضرب لك مثالاً: لو أن لدينا جهازاإلكترونيا معقدا غاليا ونريد أن نعرف الحكمة منه فليس هناك إلا طريق واحد وهو أننتصل بالذي صنعه ؛ لأن الحكمة من هذا الجهاز مختفية في نفس الصانع .
فأضافقائلاً: أو نتصل بمندوبه .
قلت : صدقت. فإذا أردت أن تعرف الحكمة من خلقك فليسلك إلا أن تتصل بمندوبي الذي خلقك، وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام .
وسيبقىالإنسان أحقر من حذائه ما لم يؤمن بالله ورسوله! لا يعرف الحكمة من وجوده، ولا يعرفربه ، ولا يعرف لماذا دخل إلى هذه الدنيا ولماذا يخرج منها! وهذا التخبطوالحيرة والتيه الذي يعيشه هؤلاء عبر عنه أحد الشعراء في قصيدة سماها "الطلاسم" والتي تدل على عمق حيرتهم، بقوله:
ولقدأبصرت قدامــي طريقـا فمشيــت
كيف جئت ؟ كيـف أبصــرت طريقي ؟!
وسأبقـــىسائـراً إن شئت هذا أم أبيت
لســـت أدري !! .....الخ هذا الضلال
الثمرة الثالثة / السعادة في توافق الحركة مع الهدففالإنسان إذا عرف الله عرف نفسه والغاية التي من أجلها خلق (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )
يقول الشيخ النابلسي : عبادةُ الله علّةُوجود الإنسان والسعادة في توافق الحركة مع الهدف . وضرب لذلك مثالا للتوضيح :
ذهب رجلٌإلى باريس ، ونام في الفندق ، واستيقظ في صبيحة اليوم الأول ، وسأل : إلى أين أذهب؟ ما هذا السؤال ؟ نسأله نحن : لماذا أتيت إلى هنا ؟ إن أتيت طالباً فاذهب إلىالمعاهد والجامعات ، وإن أتيت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات ، وإن أتيتسائحاً فاذهب إلى المتاحف والمتنزهات ، متى يصح عملك في مكان ما ؟ إذا عرفت سروجودك ، وغاية وجودك ، لذلك لا شيء يعلو في حياة الإنسان على معرفة سر وجوده ،وغاية وجوده ، وقد تجد إنسانا في أعلى درجات العقل يطلب العلم ، يبحث عن عمل صالحيرقى به عند الله ، يربي أولاده تربية صحيحة ، يتعامل مع الناس وفق منهج الله ، هذاعرف سر وجوده ، وغاية وجوده
إن طالبًا عنده امتحان في آخر سنة ، مادة أساسية أخيرة ،وأصعب مادة ، والامتحان بعد أيام ، ما الحركة المناسبة له ؟ أن يقبع في البيت ، وأنيقرأ الكتاب المقرر، لو أن أصدقائه الخلَّص أخذوه إلى مكان جميل مطلٍّ على البحر ،والجبل فيه نبات أخضر ، والطعام نفيس جداً ، وهو يحبهم ، جالس مع أصدقاء يحبهم ،والمكان جميل ، والطعام طيب ، لماذا يشعر بانقباض شديد ؟ لأن هذه الحركة لا تتناسبمع الهدف القريب .
إذاً أنت متىتسعد ؟ تسعد إذا جاءت حركتك متوافقة مع هدفك .اسأل تاجرا لا بيع ولا شراءعنده ، وهو جالس طول النهار في المحل ، هاتوا شاي ، هاتوا قهوة ، هاتوا مجلة ،هاتوا جريدة ، تجده مسموم البدن ، مع أنه مرتاح ، الراحة لا تتناسب مع هدف المحلالتجاري ، أما لما ينسى أن يتغدى من كثرة البيع فهو أسعد إنسان ، ما يجلس دقيقة ،من محل لمحل ، فلما يكون البيع شديدا يكون معه تعب شديد ، ويكون التاجر في أسعدلحظاته ، ولما يكون في راحة تامة واسترخاء ، وضيافة مستمرة ، وأصدقاء وصحف ومجلات ،تجده في أتعس حالاته .
متى تسعد ؟ إذا جاءت حركتك موافقة لهدفك
ومتى تشقى ؟إذا جاءت الحركة ليست موافقة لهدفك .
فعلة وجودنا في الأرض أن نعبده والسعادة في توافق الحركة مع الهدف .
قال تعالى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ... (١٢٤) طه
الثمرة الرابعة / (فَادْعُوهُ بِهَا )
قال تعالى (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُالْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)الأعراف:180.
(فَادْعُوهُ بِهَا ) فاسألوه بها من أجل أن يكون الدعاءمستجاباً
وقد جاء في دعاء النبي صلى الله عليهوآله وسلم: «اللّهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك منعقوبتك، وأعوذ بك منك....)
و: (يا حيُّ يا قيّوم، برحمتك أستغيث.)
و ( اللهم اذهب البأس ربالناس اشف وأنت الشافي ........)
وينبغي أن يستحضر من أسماء الله ما يناسب مطلبه فيراعى فيها التناسب ، كما تقول: يا غفور اغفر لي، ويا رزاق ارزقني،ويامنان منّعليَّ .
ولا يقبل أن يقول اللهم عليك بمن ظلمني يا أرحم الراحمين ، أو يا شديد العقاب اغفر لي !!!
قال الأصمعي: كنت أقرأ:( َوالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
وكان بجانبي أعرابي فقال: كلام مَن هذا ؟؟
فقلت: كلام الله
قال: أعِد
فأعدت؛فقال: ليس هذا كلام الله
فانتبهتُ فقرأت: )وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم)
فقال: أصبت
فقلت: أتقرأ القرآن؟؟
قال: لا
قلت: فمن أين علمت؟؟
فقال: يا هذا،
عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لماقطع
ففهم الرجل بفطرته أن القطع لاتناسبه الرحمة
ولهذا السبب نجد أن سورة التوبة لم تفتتح بالبسملة خلافا لسور القرآن لأنها افتتحت بالبراءة من المشركين (براءة من الله ورسوله) فلم يناسبلفظا ومعنى أن تفتتح بالبسملة المتضمنة لمعاني الرحمة (بسم الله الرحمنالرحيم) ، إذ لا يتفق معنى أن تفتتح خطابك بالرحمة ثم مباشرة تخبر المخاطب بالبراءةمنه ، فبين المعنيين تفاوت كبير .
الثمرة الخامسة / إحصاء أسماء الله الحسنى باب من أبواب الجنة
ورد في الصحيحين عن أبي هريرة (إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة )
ومعنى أحصاها ليس حفظها ؛ فالحفظ وحده غير مراد إنما على الراجح من تفسيرات العلماء أن معنى أحصاها أن يعرف الاسم ويفهم معناه وأن يتعبد لله بمقتضاه
وهذا سيكون منهجنا في شرحنا للأسماء أن نتناول الاسم ونتعرف على معناه من خلال تأملات في القرآن والسنة وكلام السلف الصالح ، ثم نختم بالحديث عن ثمرات الإيمان بهذا الاسم .
وهذه الثمرات الخمس ليست هي كل ثمرات معرفة أسماء الله الحسني ؛و إلا فكل اسم سنتناوله إن شاء الله على حدة له ثمرات سنتكلم عنها
نسأل الله أن ييسر ذلك وأن يوفقنا إلى مايحبه ويرضاه اللهم آمين
المشاهدات 58502 | التعليقات 53
1- الله
أولا /معنى الاسم في اللغة :
الله أصلها الإله استثقلت الألف واللام مع همزة إله فحذفت وشددت اللام فصارت (الله )
ولفظ الجلالة مأخوذ من التأليه والتأله وهو التعبد والتنسك فالله هو المألوه أي المعبود ومعنى ( لا إله إلا الله ) أي لا معبود بحق إلا الله
يقول ابن القيم في مدارج السالكين (باختصار )
فاسم (الله) دال على جميع الأٍسماء الحسنى والصفات العليا فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له ، مع نفي أضدادها عنه وصفات الإلهية يعني أن الله الإله الحق وحده لا شريك له .
ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم كقوله تعالى
) ولله الأسماء الحُسنى ) الأعراف 180
ويقال : الرحمن ، والرحيم ، والقدوس ، والسلام ، والعزيز ، والحكيم من أسماء الله ولا يقال: الله من أسماء الرحمن ولا من أسماء العزيز ؛ ونحو ذلك.
ولم يتسم بهذا الاسم غيره سبحانه لا حقيقة ولا مجازا قال تعالي (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) مريم
ثانيا تأملات وإيمانيات :
اسم الله إذا ذكر وجلت القلوب لجلاله وخشعت الأصوات لقوته وعنت الوجوه لعظمته وهو الذي إذا ذكر نزلت الطمأنينة في قلوب المؤمنين لجلاله ورحمته
قال تعالى (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الرعد
قال الإمام الجنيد لتلاميذه تعالوا بنا نذكر الصالحين فبذكرهم تحل البركة فقال بعض طلبته يا شيخنا إذا ذكرنا الصالحين تحل البركة فماذا إذا ذكرنا الله ؟ فاطرق الشيخ قليلا ….ثم رفع رأسه فقال إذا ذكرنا الله حلت الطمأنينة في القلوب (ألا بذكر الله تطمئن القلوب )
يقول الإمام ابن القيم: إذ استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنس الناس بأحبائهم فأنس أنت بالله، وإذا ذهب الناس إلى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق ويتوددون إليهم فتودد أنت إلى الله.
الإيمان بوجود الله فطرة :
والإيمان بوجود الله سبحانه فطرة مركوزة في الأنفس لا تحتاج إلى أدلة ، ولذلك لما سئل بعض السلف عن الدليل على وجود الله قال أغنى الصباح عن المصباح متى احتاج النهار إلى دليل ؟
وقال بعض الصالحين مناجيا ربه : سبحانك ربي آمن بك المؤمن ولم ير ذاتك ، وجحدك الجاحد ووجوده في ملكك دليل على وجودك وعظمة ذاتك .
وقال ابن عطاء الله السكندري :إلهي كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك
وقد بين الله تلك الفطرة بمثال بعض الكفار الذين ركبوا في سفينة ؛ وكانت الأمواج هادئة ، وانطلقوا في البحر، وفي أول الرحلة سخَّر الله لهم ريحًا طيبة جعلتهم يسيرون في البحر بسرعة، ففرحوا بها، وفجأة هاجت الأمواج، واشتدت الرياح والعواصف فأصبحوا في مأزق عصيب، عندئذ صاح هؤلاء الكفار بأعلى أصواتهم يدعون الله -عز وجل- ويلجئون إليه، ويطلبون منه النجاة، قال تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرينا بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين} يونس:22 .
وهكذا فطرة البشر تلجأ إلى الله -عز وجل-، وتظهر حقيقتها في وقت الشدة والكرب حتى وإن وجد عليها الصدأ، وطُمِست شفافيتها في أوقات الغفلة واللهو والرخاء، ذلك لأن الله -عز وجل- خلق الإنسان مفطورًا على الإسلام والإحساس بوجود الله، قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} الروم: 30
وفي الحديث (ما من مولود إلا يولدُ على الفِطْرةِ فأبواه يُهوِّدانه (يجعلانه يهوديًا)، أو ينصِّرانه (يجعلانه نصرانيًا)، أو يمجِّسَانه (يجعلانه مجوسيًّا) البخاري.
جاء بعض الزنادقة إلى الإمام الشافعي -رحمه الله- وسألوه: ما الدليل على وجود الله؟ فقال: ورق التوت طعمه واحد، تأكله الدودة فيخرج منها الإبريسم (الحرير)، ويأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعرًا وروثًا،وتأكله الظباء فيخرج منها مسكا فمن جعل هذه الأشياء مع أن الطعم واحد.
ومن شعره رحمه الله :
الله ربي لا أريد سواه هل *** في الوجود حقيقة إلا هو
الشمس والبدر من انوار حكمته *** والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش قدسه *** والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت الصخور الصم مجده *** والنحل يهتف حمدا فى خلاياه
والناس يعصونه جهرا فيسترهم *** والعبد ينسى وربى ليس ينساه
ويروى أن بعض الزنادقة (وهذا مصطلح قديم كان يطلق على الملاحدة المنكرين لوجود الله ) جاءوا إلى جعفر الصادق، فقال جعفر لأحدهم: هل ركبت البحر؟ قال: نعم. قال جعفر: حدثني عن أغرب شيء حدث لك؟ قال الرجل: هاجت يومًا رياح هائلة، فكسرت السفينة، وأغرقت الملاحين، فتعلقت أنا ببعض ألواحها، فإذا أنا مدفوع في تلاطم الأمواج، وفُقد اللوح، ودُفعتُ إلى الساحل.
فقال جعفر: قد كان اعتمادك على السفينة والملاح ثم على اللوح حتى ينجيك. فلما ذهبت عنك هذه الأشياء، هل أسلمت نفسك للهلاك أم كنت ترجو السلامة بعد؟
قال: بل رجوت السلامة. قال جعفر: ممن كنت ترجوها؟ فسكت الرجل، فقال جعفر: إن الله هو الذي كنت ترجوه في ذلك الوقت، هو الذي نجاك من الغرق. فاعترف الرجل بوجود الله وأسلم على يديه.
دلالة العقل على وجود الله:
سأل بعض القدرية- الذين ينفون قدرة الله، ويغالون في قدرة الإنسان- أبا حنيفة عن وجود الله -عز وجل- فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر أُخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر مملوءة بالبضائع، وليس فيها أحد يحرسها أو يسوقها، ومع ذلك فإنها تسير بنفسها، وتخترق الأمواج، وتسير حيث شاءت فماذا تقولون؟ قالوا: هذا شيء لا يقبله العقل. فقال أبو حنيفة: يا سبحان الله، إذا لم يجر في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر، فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ؟! ،
قالوا: صدقت وتابوا إلى الله، وحسن إسلامهم.
و سُئِل أعرابي عن الدليل على وجود الله؟ فقال: البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وآثار الأقدام تدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!
رائد الفضاء الروسي يوري جاجارين ذهب في 1961م على متن أول سفينة فضاء روسية ، وعندما عاد توجه له الصحفيين يسألونه عن مشاهداته وماذا حدث له ، فقال لهم لقد انبهرت بجمال الكون فظللت أبحث عن الله !!!
صدم الجميع من هذا التصريح ، فاجتمعوا طويلاً من أجل دراسة هل ينشر هذا التصريح أم لا في صحف اليوم التالي
أخيرا ، اتفقوا على أن يتم نشر التصريح ويتم إضافة عبارة فلم أجده !!!
فسبحان من أنطق الكافر الملحد وأنساه كل حياته التعليمية في مدارس الإلحاد
دلالة المشاهدة على وجود الله:
والمسلم يؤمن بكل ما يشاهده من نصر الله للمستغيثين والمكروبين، فالمؤمنون في غزوة بدر عندما دعوا الله -عز وجل- وطلبوا منه النصر، استجاب الله دعاءهم، وأيدهم بجنود من عنده يقاتلون معهم، قال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9].
وزكريا -عليه السلام- دعا الله -عز وجل- أن يرزقه الذرية الصالحة، فاستجاب الله دعاءه ووهب له يحيي -عليه السلام-، فبعد أن كانت زوجته عاقرًا لا تلد أصبحت لديها القدرة على الحمل والولادة بإذن الله، قال تعالى: {وزكريا إذ نادي ربه رب لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين . فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين} [الأنبياء: 89-90] .
وفي عهد الرسول ( أصاب المدينة جفاف وقحط، فقام أعرابي والرسول ( يخطب الجمعة، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا.
فأخذ الرسول ( يدعو وهو رافع يديه، فتجمع السحاب، ونزل المطر قبل أن يُنزل ( يديه، حتى إن المطر كان ينزل على رسول الله (، ورأى الصحابة قطرات الماء تنزل من كفيه، وظلت السماء تمطر طوال الأسبوع، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع الرسول ( يديه يدعو الله، ويقول: (اللهم حوالينا، لا علينا) فتوقف المطر. [متفق عليه].
لله في الآفاق آيات لعلّ أقلها هو ما إليه هداك
و لعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك
و الكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيرًا لها أعياك
قل للطبيب تخطفته يد الردى: يا مدعيا شفا الأمراض من أرداك ؟
قل للمريض نجا و عوفيّ بعدما عجزت فنون الطب: من عافاك ؟
قل للصحيح يموت لا من علة: من بالمنايـا يـا صحيح دهاك ؟
قل للبصير و كان يحذر حفرة، فهوى بها: من ذا الذي أهواك ؟
بل سائل الأعمى خطا بين الزحام بلا اصطدام: من يـقود خطاك ؟
قل للجنين يعيش معزولا بلا راع و مرعى: ما الذي يرعاك ؟
قل للوليد بكى و أجهش بالبكاء لدى الولادة: ما الذي أبكاك ؟
و إذا ترى الثعبان ينفث سمه فسأله: من ذا بالسموم حشاك ؟
و اسأله: كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا و هذا السم يملأ فاك ؟
و اسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهدا… و قل للشهد: من حلّـاك ؟
بل سائل اللبن المصفى كان بين دم و فرث: ما الذي صفّاك ؟
و إذا رأيت النخل مشقوق النوى فسأله: من يا نخل شق نواك ؟
و إذا رأيت الليل يغشى داجيا فسأله: من يا ليل حاك دجاك ؟
و إذا رأيت الصبح يسفر ضاحيا فسأله: من يا صبح شق ضحاك ؟
إنه الله في كل العجائب ماثل إن لم تكن تراه فإنه يراك
معجزات الأنبياء دليل على وجود الله:
اجتمع المشركون في مكة، وطلبوا من الرسول ( أن يشق لهم القمر نصفين، فقال لهم: (إن فعلت تؤمنوا؟) قالوا: نعم. فأشار الرسول ( إلى القمر -وكان بدرًا- فانفلق فلقتين، ورآه الناس. ولكن المشركين المعاندين رفضوا أن يستجيبوا لنداء الحق، وأبوا أن يذعنوا لمعجزة الله، قال تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1].
والمعجزة تدل على وجود الله تعالى، لأنها أمر خارج عن مقدرة البشر، يؤيد الله بها رسله وأنبياءه، ومن هذه المعجزات ما أيَّد الله به نبيه موسى -عليه السلام- من معجزة العصا، فكان يضرب بها الحجر فيخرج منه الماء، ويضرب بها الماء فيتجمد، ويتحول إلى أرض يابسة، بإذن الله تعالى، قال تعالى: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا} [البقرة: 60.
ثالثا ثمرات الإيمان بهذا الاسم الجليل :
1- ألا نقصد بالعبادة غير الله
2- أن تعبد الله كأنك تراه
3- من أحب شيئا أكثر من ذكره
(2)الرحمن(3) الرحيم
أولا /المعنى اللغوي :
الرحمن مشتق من الرحمة ، والرحمة في اللغة هي الرقة والتعطف والشفقة , وتراحم القوم أي رحم بعضهم بعضا والرحم القرابة .
وهو مبني على المبالغة ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها ، وهو لا يثنى ولا يجمع ولا يسمى به أحد غيره .
والرحمن هو من عمت رحمته الكائنات كلها في الدنيا سواء في ذلك المؤمن والكافر
وقد ذكر ابن القيم أن وصف فعلان يدل على سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به؛ ألا تري أنهم يقولون غضبان للممتليء غضبا وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن مليء بذلك فبناء فعلان للسعة والشمول
ولهذا يقرن الله تعالي استواءه علي العرش بهذا الاسم كثيرا كقوله سبحانه : ( الرحمن علي العرش استوي) طه:5 وكقوله أيضا : ( ثم استوي علي العرش الرحمن فاسأل به خبيرا) الفرقان:59
فاستوي علي عرشه باسمه الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات وقد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم علي اختلاف أنواعهم كما قال تعالي : ( ورحمتي وسعت كل شيء) الأعراف:156 فاستوي علي أوسع المخلوقات بأوسع الصفات ومن ثم وسعت رحمته كل شيء
واسم الرحمن اختص به الله لا يتسمى به غيره فقد قال الله (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) فقرن بين اسمي الله والرحمن الذي فكما أن لفظ الجلالة (الله ) لا يتسمى به غيره فكذلك اسم (الرحمن )
ولما تسمى مسيلمة الكذاب بـ(رحمن اليمامة ) واشتهر بذلك لقبه رسول الله بالكذاب وجعله الله نكالا فلايذكر اسمه إلا إذا اقترن بالكذاب فصار علما لا يعرف إلا به .
الرحيم :
مشتق أيضا من الفعل رحم فإذا قيل راحم فهو متصف بالرحمة والمبالغة رحمن ورحيم ويفترق هذا الاسم عن اسم الرحمن أنه يمكن تسمية غير الله به كما في قوله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) التوبة 128
وقال عبد الله بن عباس : ( هما اسمان رقيقان أَحدهما أَرق من الآخر ) .
وقال ابن المبارك :الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل يغضب
ما الفرق بين الرحمن والرحيم ؟
قيل في ذلك عدة أقوال :
1- الرحمن معناه ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في معايشهم ، وعمت المؤمن والكافر والرحيم خاص بالمؤمنين كما في قوله : ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيما ً) الأحزاب:43 (لكن ورد قوله تعالى (إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) البقرة 143
2- الرحمن في الدنيا والرحيم في الآخرة (لكن قد جاء في الدعاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما )
3- والراجح : أن الرحمن صفة للذات (ذات الله ) والرحيم صفة للفعل .
فالله في ذاته بلغت رحمته الكمال ، والرحيم دل على أنه يرحم خلقه برحمته
بيان سعة رحمة الله بعباده :
الله سبحانه (كتب على نفسه الرحمة ) الأنعام 12
والله عز وجل سبقت رحمته غضبه كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال : ( لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي )
ولم يجعل في الدنيا إلا جزءا يسيرا من واسع رحمته يتراحم به الناس ويتعاطفون ، وبه ترفع الدابة حافرها عن ولدها رحمة وخشية أن تصيبه ، روى البخاري من حديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول :
( جَعَلَ الله الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ )
وفي رواية أخرى عند البخاري قال : ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً ، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً ، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ ) .
نتأمل إخواني هذه الرحمة التي جعلها الله في قلوب عباده ومخلوقاته كلهم لا تزيد عن كونها جزءا واحدا من رحمته ، ونتأمل كيف وسعت رحمته من هذا الجزء عباده في الدنيا فماذا عن التسعة والتسعين جزءا في الآخرة ، فهذه بها يعفو الله وبها يغفر وبها يقبل شفاعة الشافعين ويعفو عن العاصين .
وورد عند البخاري أيضا من حديث عُمَر بن الخطاب أَنَّهُ قَالَ : ( قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ بِسَبْيٍ ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ : أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ قُلْنَا : لاَ وَاللَّهِ ، وَهِي تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ) .
والله إن الإنسان ليتوقف طويلا مع هذا الحديث الرقراق الذي يبين فيه رسول الله مثالا حسيا لهذه المرأة فقدت طفلها في الحرب ، فكانت إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ وقد فعلت ذلك ليخفف ألم اللبن في ثديها ، وأخذت تبحث عن طفلها حتى وجدته فأخذته وضمته وأرضعته ، فرحمة الله بعباده أعظم من هذه الرحمة
وما زلت أذكر هذا الرجل الذي وقف أمام بائع الفلافل (الطعمية ) وهو يقليها في الزيت فنظر إليها وهي تفور غليانا فقال بتلقائية : والله مانهون عليه !!!
فتساءل الواقفون على من ؟
قال على ربنا والله مانهون عليه يرمينا في النار هكذا !!
اللهم إنك أرحم بنا من أمهاتنا ، ورحمتك أوسع من ذنوبنا ،ومغفرتك أرجى من عملنا فاغفر لنا وارحمنا يا أرحم الراحمين .
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها:
{ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم}..
هذه الآية تتحدث عن رحمة الله، التي يرسلها تارة، ويمسكها أخرى، ولا أحد يقدر على ذلك غيره سبحانه وتعالى.
هذه الآية من تدبرها واستيقنها فإنها تيئسه من كل رحمة، وتصله برحمة الله.. وإذا أوصدت أمامه الأبواب علم أنه لن يحال بينه وبين رحمة الله .
- ورحمة الله ليست قاصرة على ما وهب وأعطى، بل تمتد إلى ما حرم ومنع:
فما حرم شيئا إلا رحمة بخلقه، وما منع رزقا إلا لرحمته بعباده، حرم الربا، والزنا، والخمر، والقمار، رحمة بهم، حتى لاتفسد معيشتهم و حياتهم، ومنع بعض عباده المال والصحة رحمة بهم كيلا يطغوا، ويعيثوا في الأرض فسادا.
- رحمة الله يجدها من يفتحها الله له، في كل مكان، وفي كل شيء، وفي كل حال، يجدها في نفسه، وفيما حوله، ولوفقد كل شيء مما يعد الناس فقده حرمانا.... ورحمة الله يفقدها من يمسكها الله عنه، في كل شيء، وفي كل حال ومكان، ولو وجد كل شيء، مما يعد الناس وجده من الإنعام..
وما من نعمة يمسك الله عنها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنة تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة:
ينام الانسان على الأرض فوق التراب مع رحمة الله فإذا هي مهاد، وينام على الحرير وقد أمسكت عنه رحمة الله فإذا هو شوك..
يعالج أعسر الأمور برحمة الله فإذا هي هوادة ويسر، ويعالج أيسر الأمور وقد تخلت عنه رحمة الله فإذا هي مشقة وعسر..
يخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام، ويعبر بدونها المسالك الآمنة فإذا هي مهلكة وبوار .. ولا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها..
لا ضيق معها ولو كان صاحبها يعيش في فقر، وتحت العذاب والأذى، ولا سعة مع إمساكها ولو تقلب في أعطاف النعيم.
يبسط الله الرزق مع رحمته، فإذا هو متاع طيب، ورغد في الحياة، وزاد الى الآخرة، بالإنفاق، وتحري الحلال، والرضا بالنصيب.. ويمسك رحمته، فإذا هو مثار قلق وخوف وحسد وبخل وطمع وتطلع الى الحرام وتوغل في الشبهات.
يمنح الله الذرية مع رحمته، فإذا هي زينة ومصدر فرح واستمتاع وذخر للآخرة وعون في الدنيا.. ويمسك رحمته، فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء وسهر بالليل وتعب بالنهار.
يهب الله الصحة والقوة مع رحمته، فإذا هي نعمة وحياة طيبة.. ويمسك عنها رحمته، فإذا الصحة والقوة وسيلة الى الحرام وتعدي الحدود والطغيان والظلم.
ويعطي الله السلطان والجاه، مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الصالح من العمل والأثر.. ويمسك عنها رحمته، فإذا هي مصدر قلق وطغيان وبغي واستكبار، يدخر بها رصيدا ضخما من العذاب في الآخرة.
- ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله:
فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك، ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة، ورجاؤك فيها، وتطلعك إليها هو الرحمة، وثقتك بها، وتوقعها في كل أمر هو الرحمة.. والعذاب في احتجابك عنها، أو يأسك منها، أو شكك فيها، وهو عذاب لايصبه الله على مؤمن أبدا:
{ إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} ..
- رحمة الله لاتعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال :
وجدها إبراهيم عليه السلام في النار..
ووجدها يوسف عليه السلام في الجب، كما وجدها في السجن ..
ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث ..
ووجدها موسى عليه السلام في اليم، وهو طفل مجرد من كل قوة،، كما وجدها في قصر عدوه فرعون..
الرحمة في قصة أهل الكهف :
ولعلنا لا ننسى أهل الكهف فروا بدينهم إلى كهف في الجبل .. والكهف مكان ضيق .. لا يستطيع الإنسان أن يمضى فيها إلا وقتا قصيرا .. وأقرأ قول الحق جل وعلا : ( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) سورة الكهف
هذا الكهف الضيق .. إن ضاق عليهم مساحة , فلن يضيق عليهم انعاما .. فرحمة الله سبحانه وتعالى ستجعل هذا المكان الضيق يبدو رحبا واسعا .. فلا يحسون بضيق المكان والزمن يتوقف فيه فلا يحسون بضيق الزمان .. بل تأتي رحمة الله لتحيط بهم .
لقد غمر الله أهل الكهف برحمته مكافأة لهم على الفرار بدينهم فلم يجعلهم يفكرون في أنهم مضطهدون حتى لا يعيشوا في قلق ورعب من أن يحلق بهم الطغاة الكفرة .. لذلك ألقى عليهم النوم في الكهف .. فلا يشعر بهم أحد ، ولا يشعرون بالوقت .. ولا يحتاجون إلى طعام وشراب .
وكانت هناك آيات بقدرة الله تولتهم بعنايته ورحمته ، فقال بعضهم لبعض: { فأووا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته } ..
ورحمة الله تتمثل في مظاهر لايحصيها العد، ويعجز الانسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها:
يقول الشيخ الشعراوي في شرح هذين الاسمين : (باختصار)
وإذا تأملنا الكون المحيط بنا تجلت لنا رحمة الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة
فالشمس تحافظ على بعد ثابت من الأرض , وهذا البعد الثابت يضمن لنا قدرا ثابتا من الحرارة .. لا يزيد فتقتلنا الحرارة , ولا ينقص فتقتلنا البرودة
والهواء يحيط بنا ويحوي الأكسجين اللازم لعملية التنفس وأكسدة المواد الغذائية كي تنطلق الطاقة التي تكفل للجسم القيام بوظائفه .
والماء الذي يمثل معظم مساحة الكرة الأرضية بما له من وظائف غير محصورة في جسم الإنسان , هذا فضلا عن استخدامه في الطهارة التي تقي الإنسان شر الأمراض والآفات .
وبعد أن أعد لنا عز وجل هذا الكون , أعد لنا في بطون أمهاتنا رحما رحيما بنا بأتينا فيه الرزق .. بلا حول ولا قوة .. رزقا منه تبارك وتعالى بلا تعب ولا مقابل
ومن رحمته جل وعلا أنه ينبت لنا من الأرض الجدباء طعاما نأكله وفي ذلك يقول تبارك وتعالى )فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( سورة الروم 50
ومن رحمته أنه جعل لنا الليل سكنا لنجد فيه الراحة والسكينة بعد عناء العمل , وجعل لنا النهار للسعي والعمل واكتساب القوت فقال عز وجل : ) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ( سورة القصص 73
ومن رحمته أنه أرسل الرسل بالرسالات السماوية إلى الناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، وأرسل رسوله محمدا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بالهدى ودين الحق ليكون رحمة للعالمين فيقول تعالى ) وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( سورة الأنعام
ولكن ما معنى كونه سبحانه رحيما وأرحم الراحمين ونجد البلاء والعذاب والمرض وهو يقدر على رفع ذلك عن عباده ؟
والجواب :أن ذلك من تمام حكمته سبحانه فمثلا لو أن طفلا صغيراً يحتاج إلى حقنة فبكى الابن خوفا من ألمها فرقّت له الأم ،وحمله الأب عليها قهرا !!!
فالجاهل يظن أن الرحيم الأم دون الأب .
والعاقل يعلم أن إيلام الأب لابنه من تمام رحمته وعطفه وأن الألم القليل إذا كان لمنفعة كبيرة لم يكن شرا بل هو خير .
وكذلك اليد المصابة بالأكلة (الغرغرينا )قطعها شر في الظاهر لكن في الباطن هو خير لسلامة البدن كله ولو لم تقطع لكان الشر أعظم بهلاك البدن كله .
ونستطيع بذلك أن نرد على من ينكرون عقوبة الإعدام للقاتل أو قطع اليد للسارق ففيها خير على المجتمع كله بسلامته وأمنه .
إذن فما يقدره الله لعباده من شدة ومرض هو رحمة منه بعباده إما لرفع درجاتهم أو لتكفير سيئاتهم أو لتذكيرهم بنعمه عليهم إلى غير ذلك من الأسباب التي سنذكرها فيما بعد إن شاء الله بشئ من التفصيل .
ثمار الإيمان بهذين الاسمين : الرحمن والرحيم
1- الدعاء بهما وسؤال الله الرحمة :
فنسأل أرحم الراحمين أن يرحمنا (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )آل عمران 8
و{ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }البقرة286
و(وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) المؤمنون 118
وفي الصحيحين عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي وفي بيتي قال : قل :
(اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)
وكان عمر بن عبدالعزيز يقول “اللهم إن لم أكن أهلا لبلوغ رحتمك، فإن رحمتك أهلا لأن تبلغني، فرحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء فلتسعني رحمتك يا أرحم الأرحمين"
2- أن تكون رحيما بالخلق :
فالاصل أن المسلم متصف بهذه الصفة في تعامله بين الخلق وقد وصف الله المؤمنين بذلك فقال {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ }الفتح29
فالأصل في المسلمين الرحمة فيما بينهم لكنهم صاروا في كثير من الأحيان أشداء بينهم ... تجد هذا في الطبيب الذي يعالج مرضاه نسي رحماء بينهم ، وكذلك المحامي والتاجر ووو..............إننا بحاجة أن نعيد هذا المفهوم إلى الأذهان أن الله أمر المؤمنين أن يكونوا رحماء بينهم وفي الحديث (من لا يرحم لا يرحم )رواه البخاري
وعن أبي هريرة (لا تنزع الرحمة إلا من شقي ) حسنه الألباني
ورحمة المؤمن لا تقتصر على إخوانه المؤمنين وإنما هو ينبوع يفيض بالرحمة على الناس جميعا :
وقد قال رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لن تؤمنوا حتى ترحموا. قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم. قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة"، رواه الطبراني.
وكما في حديث ابن عمرو (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) صححه الألباني
ومن صفات المؤمنين في القرآن: "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ" البلد:17.
3- الرحمة بالضعفاء والأطفال وسائر المخلوقات :
دخل الأقرع بن حابس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو يقبل الحسن ويقبل الحسين فقال : والله أنا لى عشرة من الآولاد ما قبلت واحدا منهم فغضب النبى وقال:" وما أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك، من لا يرحم لا يرحم ) متفق عليه
بل كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من المسجد فقابله الصبيان وقف يسلم عليهم، فعن جابر بن سمرة يقول جابر: صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة الأولى، فخرج إلى أهله فقابله الصبيان، فجعل النبى صلى الله عليه وسلم يمسح خدى أحدهم واحدا واحداً، ثم مسح النبى صلى الله عليه وسلم على خدى فوجدت ليده بردا وريحا كأنه أخرجها من جوْنة عطار. صحيح مسلم" .
وتمتد هذه الرحمة لتشمل البهائم والطير
والرحمة تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فالمؤمن يرحمه ويتقي الله فيه، ويعلم أنه مسئول أمام ربه عن هذه العجماوات. وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن الجنة فتحت أبوابها لبغي سقت كلبا فغفر الله لها، وأن النار فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة حتى ماتت، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. فإذا كان هذا عقاب من حبس هرة بغير ذنب، فماذا يكون عقاب الذين يحبسون عشرات الألوف من بني الإنسان بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله.
وقال رجل: يا رسول الله، إني لأرحم الشاة أن أذبحها. فقال: "إن رحمتها رحمك الله"، رواه الحاكم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم امسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا: يارسول الله! وإن لنا في هذه البهائم لأجراً؟؟! فقال صلى الله عليه وسلم: في كــل كــبد رطـبــة أجر» مسلم
وبلغ من رحمته بالحيوان أنه مر عليه بحمار قد وسم في وجهه (مكويا في وجهه) فأنكر ذلك وقال: لعن الله الذي وسمه ) رواه مسلم
ورأى عمر رجلا يسحب شاة من رجلها فقال ويلك قدها( سقها ) إلى الموت قودا جميلا .
ويروي المؤرخون أن عمرو بن العاص في فتح مصر نزلت حمامة بفسطاطه (خيمته) فاتخذت من أعلاه عُشًّا، وحين أراد عمرو الرحيل رآها، فلم يشأ أن يهيجها بتقويضه، فتركه وتكاثر العمران من حوله، فكانت مدينة "الفسطاط".
الرحمة مع الأعداء
هذه الرحمة غلبت على أعمال المسلمين الأولين، حتى مع الأعداء المحاربين، فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب حين مر في إحدى غزواته، فوجد امرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه لتقاتل.
وينهى عن قتل النساء والشيوخ والصبيان، ومن لا مشاركة له في القتال.
ويسير أصحابه على نفس النهج أبرارا رحماء لا فجارا قساة؛ فهذا أبو بكر يودع جيش أسامة بن زيد ويوصيهم قائلا: "لا تقتلوا امرأة ولا شيخا ولا طفلا، ولا تعقروا نخلا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، وستجدون رجالا فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما أفرغوا أنفسهم له".
ويقول عمر: "اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب".
ويُحمل إلى أبي بكر رأس مقتول من كبراء الأعداء المحاربين، فيستنكر هذا العمل، ويعلن سخطه عليه ويقول لمن جاءه بالرأس: "لا يُحمل إلي رأس بعد اليوم. فقيل له: إنهم يفعلون بنا ذلك. فقال: فاستِنان(أي اقتداء) بفارس والروم؟! إنما يكفي الكتاب والخبر.
وهكذا كانت الحرب الإسلامية حربا رحيمة رفيقة، لا يُراق فيها الدم إلا ما تدعو الضرورة القاهرة إليه، وقد لاحظ ذلك الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون فقال: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.
4- الرحمة بالعصاة :
يقول الإمام الغزالي في كتابه (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)
"وحظ العبد من اسم (الرحمن) أن يرحم عباد الله الغافلين، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله بالوعظ والنصح بطريق اللطف دون العنف، وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة، لا بعين الإيذاء، وأن يرى كل معصية تجري في العالم كمعصية له في نفسه، فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه؛ رحمة لذلك العاصي من أن يتعرض لسخط الله تعالى، أو يستحق البعد عن جواره.
وحظ العبد من اسم (الرحيم) ألا يدع فاقة لمحتاج إلا ويسدها بقدر طاقته، ولا يترك فقيرا في جواره أو في بلده، إلا ويقوم بتعهده ودفع فقره، إما بماله أو جاهه، أو الشفاعة إلى غيره، فإن عجز عن جميع ذلك، فيعينه بالدعاء، وإظهار الحزن، رقة عليه وعطفا، حتى كأنه مساهم له في ضره وحاجته".
ومرأبو الدرداء بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته.
5- صلة الأرحام :
صلة الرحم تعني الإحسان إلى الأقربين وإيصال ما أمكن من الخير إليهم ودفع ما أمكن من الشر عنهم.
وقد عظم سبحانه قدر الأرحام فقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) النساء:1.
وعن أنس-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : (يقول ـ تبارك وتعالى ـ : أنا الرحمن الرحيم ، و إني شققت للرحم من اسمي ، فمن وصلها وصلته،ومن نكثها نكثه)) رواه البزار وإسناده حسن
وعن عائشة_ رضي الله عنها_ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرحم معلقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله،ومن قطعني قطعه الله ) البخاري ومسلم
من الأرحام الذين تجب صلتهم :
الأرحام عام في كل ما يشمله الرحم, فكل قريب لك هم من الأرحام الذين تجب صلتهم.
وإن كان تتنوع كيفية وصلهم فهذا تجب صلته كل يوم وهذا كل أسبوع وهذا كل شهر وهذا في المناسبات وهكذا.
كذلك يتنوع الموصول به فهذا يوصل بالمال وهذا يوصل بالسلام وهذا يوصل بالمكالمة وهكذا.
وعلى كل حال نقول إن الرحم القريب أولى بالصلة من البعيد, وليس هناك تحديد للزمن الذي يجب فيه الوصل فلا نستطيع أن نقول يجب عليك أن تصل أخاك كل يوم أو كل يومين أو كل أسبوع وعمك كل كذا إن كان في بلدك وكذا إن كان في غير بلدك.
وإنما يرجع في ذلك إلى العرف بحيث يتعارف الناس على أن هذا الرحم يوصل في كذا وكذا وهذا إن كان قريب المسكن فيوصل عند كذا وكذا.
وعموماً الصلة يمكن أن تكون بالزيارة أوالاستضافة بأن تستضيفهم عندك في مكانك.
وبتفقدهم والسؤال عنهم والسلام عليهم،ومشاركتهم في أفراحهم بتهنئتهم ومواساتهم في أحزانهم بتعزيتهم ،وعيادة مرضاهم.
6- استحباب التسمية بعبد الرحمن :
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحب الاسماء الى الله تعالى عبدالله وعبد الرحمن) سنن أبي داود
7- طاعة الله ورسوله سبب الرحمة :
إن طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من أسباب الرحمة في الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )آل عمران:132
وهذه الرحمة ذكرت مطلقة، فهي رحمة في الدنيا والآخرة، فيرحم الله سبحانه وتعالى من أطاعه وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم .
و قد بين لنا الله موجبات رحمته ، وعرفنا السبيل إلى استجلابها ؛ فقال تعالى ( إن رحمة الله قريب من المحسنين )
فأوضح بذلك أن رحمته تبارك وتعالى تكون قريبا من عباده المؤمنين به، الطائعين له .. فهؤلاء يتغمدهم برحمته .. فينجيهم من كروب الدنيا ويبعثهم يوم الفزع الأكبر آمنين .
إن طاعة الله لا تأتي إلا بالخير، ومعصية الله لا تأتي إلا بالشر، ولذلك جعل سبحانه الرحمة مرتبطة بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل الشقاء والضنك لمن أعرض عن ذكره وعن متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى طه:124.
ورحمة الله لا تقتصر على المؤمنين الطائعين فقط بل تمتد لتشمل ذريتهم من بعدهم تكريما لهم وسكينة لأنفسهم .. وقد رأينا ذلك في قصة العبد الصالح والجدار والتي قال عنها المولى عز وجل : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا)
اللهم انا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها أمرنا وتلم بها شعثنا وتبلغنا بها رضاك في الدارين ياذا المن والعطاء يا أرحم الراحمين
تعظيم الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا
ضمن ملف تعظيم الله في النفوس
1- خطب تعظيم الله بأسمائه وصفاته
2- مقالات تعظيم الله بأسمائه وصفاته
شرح أسماء الله الحسنى (4) الرب
الرب اسم من أسماء الله الحسنى ورد القرآن الكريم به كقوله تعالى في سورة الفاتحة (الحمد لله رب العالمين )
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب )رواه البخاري عن عائشة
أولا معنى الاسم في اللغة :
الرب في اللُغة : هو المالك ، المصلح ، المربِّي .
وهو من الألفاظ المشتركة لغويا أي يطلق على الله حقيقة وعلى العبد مجازا لكن إذا نسب إلى العبد فإنه يأتي مضافا لشئ كقولنا : ربُّ الدار أي صاحبها، وربة البيت ومنه قول يوسف للرجل (ارجع إلى ربك ...) أي سيدك ،وقول عبد المطلب (أما الإبل فأنا ربها وأما البيت فللبيت رب يحميه ) والمعنى أنا صاحب الإبل ومالكها.
إذن فمعنى اسم الرب :هو المصلح أحوال خلقه القائم على أمورهم .
وتحمل هذه المعاني ما يسميه العلماء بتوحيد الربوبية ؛ وهو الاعتقاد أن الله هو الفاعل لكل شئ في الكون فهو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويقبض ويبسط ....الخ
تأملات وإيمانيات في رحاب الكتاب والسنة :
لفظ الربّ مشتقٌ من التربية ، فالله سبحانه وتعالى مربٍّ ومدبِّر لخلقه .
المربي له صفتان أساسيَّتان :
أنَّه مُمِدّ ، وأنَّه يرعى .
الذي يمدِّنا بما نحتاج هو ربُّنا ،والذي يهدينا إلى صراطه المستقيم هو ربُّنا .
كمثال الأب يوفِّر لأولاده حاجاتهم الماديَّة ، طعام ، شراب ، كِساء ، حاجات ثم يربِّيهم بمعنىً آخر يرعى أخلاقهم ، يرعى دينهم ، يرعى تعليمهم ، يرعى مستقبلهم ، ففي معنى الربوبيَّة المشتقَّة من التربية معنىً ماديّ ومعنىً روحيّ .
والرب من معانيه أنَّه خالقٌ ورازقٌ ، وكلُّ ربٍ سواه غير خالقٍ وغير رازقٍ .
الأب يربِّي أولاده لكن لم يخلقهم ولم يرزقهم ، فإذا قلنا فلان مُرَبٍّ ، والأب مُرَبٍّ ، والمعلِّم مُرَبٍّ أي يقدِّم توجيهات ، يتابع ، يحاسب ، يكافيء ، يعاقب أما إذا قلنا: الله ربُّ العالمين أي خلقنا وأمدَّنا ووجَّهنا .
لذلك أنت في نعمٍ ثلاث .. نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى والرشاد ، أوجدك ولم تكن شيئاً مِن قبل ، وأمدَّك بما تحتاج ، ثم هداك إليه .
فهو الذي خلقك ورزقك ودلَّك عليه .. قال الله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم :
(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) الشعراء
وكلمة (رب ) ذات خصائص جمة :
أولاً من خصائص التربية العلم والرحمة ، ومن خصائص التربية القدرة ، يعلم ، وهو على كل شيء قدير ، وهو رحيمٌ بنا، أما معنى قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الفاتحة " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " أيْ أنَّه خالق الأكوان وجميع العوالم التي خلقها ، فالعلاقة بين خالق الأكوان وبين جميع العوالم التي خلقها - الأكوان - علاقة تربية أي خلق وإمداد (فهو الخالق وهو الرازق ) وإكرام وعناية .
هل هناك عالم غير مرئي لنا ؟
نعم فهذا الكون الفسيح بمجراته وأفلاكه لم يخلقه الله عبثا ولا سدى
يقول الدكتور حسني حمدان (وكوننا الذي نراه عظيماً في اتساعه واتساقه يمثل دائرة نصف قطرها 30 ألف مليون سنة ضوئية ( بمعنى أننا لو بدأنا السفر من أقصى نقطة في الكون بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية وهى السرعة الكونية العظمى، فسنحتاج إلى 30 مليار سنة لنصل إلى أقصى نقطة في الطرف الآخر من الكون).
وعلماء الكون يتساءلون بشدة هل يوجد عالم غير عالمنا المرئي، وما هي أبعاد الأكوان إن وجدت، إننا لا نراها ولكن ربما تكون موجودة، حقا إننا لا نرى كل موجود، ولا نبصر كل كائن، ورب العالمين يقول:
" فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ" الحاقة: 38-40
ويتنادى علماء الكون بأن كوننا قد يكون برمته مجرد غشاء رقيق في الفضاء الكامل الأبعاد.
وتثار في الأوساط العلمية اليوم كثير من الأسئلة المحيرة حول وجود عوالم أخرى في ذلك الخلق العظيم.
ومن عينة تلك الأسئلة هل توجد عوالم تحكمها قوانين غير متطابقة مع القوانين التي تسود عالمنا؟ أين يسافر الضوء بسرعة أكبر؟ أين تكون الجاذبية أقوى مما نعرف؟ وأين تكون الرابطة النووية ضعيفة؟ وأين توجد كهارب (إلكترونات) أقل في الشحنة؟ وأين توجد أكوان مختلفة عن كوننا؟ وأين تختفي العناصر الكيميائية فيما عدا الأيدروجين والهليوم؟ أين يوجد العالم الخالي من النجوم؟ وأين توجد الذرات التي تتكون من البروتونات المضادة والنيترونات المضادة التي تدور حولها البوزوترونات؟ وأين يرتد الزمن إلى الوراء؟ أين تتوحد القوى؟
ويعتقد كثير من العلماء بوجود عوالم أخرى غير عالمنا، ومنهم ماكس تجمارت وجون كريمر وسوزان ويلز ودافيد هويتاويس. ومن أبسط وأشهر النماذج الكونية ذلك الذي يتنبأ بوجود توأمة مجرتنا والتي تبعد عنها 10 28متر.
ويرى ماكس تجمارت أن الأكوان المتكافئة ليست مجرد خيال علمي, بل إن العوالم الأخرى ما هي إلا تطبيق مباشر لمشاهدات كونية.)
الرابط /
http://quran-m.com/firas/arabic/inde...select_page=12
فهذا الكون كما قال بعض علماء الفلك كمكتبة فيها مليون مجلد الأرض بالنسبة للكون تمثل نقطة فوق حرف في كتاب من كتب هذه المكتبة !!!
وقال تعالي :وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩)الشورى
وقال (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) النحل
فهاتين الآيتين تدلان على أن هناك خلقا لا نراهم ولا نعلم عنهم شيئا غير الجن والإنس والملائكة والدليل على ذلك أن لفظة دابة ليس المراد بها الملائكة لأنها جاءت معطوفة عليها كما في الآية الثانية والعطف يفيد التغاير فمثلا نقول جاء محمد وأحمد فنحن نخبر عن شخصين متغايرين بخلاف لوقلت جاء محمد أحمد فأنت تخبر عن شخص واحد فالدواب التي تسجد في السموات لا شك أنها غير الملائكة
ونريد أن نصل بهذا إلى أن الله رب العالمين رب كل شئ نراه أو نؤمن به أو خفي عنا علمه وحقيقته وندرك مدى عظمة الله رب العالمين .
ألا له الخلق والأمر :
وقال تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤) الأعراف
فهذه الآية أشارت إلى تعريف الربوبيَّة
بعض الدول تصنع طائرة وتبيعُها ، بعد البيع أمرها بيد من اشتراها ، قد يستخدمها لعدوان، أو يستخدمها لنقل ، أو يستخدمها في أعمال الاستطلاع ، أو يجعلها على أرض المطار ساكنة ، أو يخفيها ، الذي اشتراها هو الذي يملك أمرها ، نحن صنعناها ثم بعناها ، لكنَّ الله سبحانه وتعالى ولله المثل الأعلى أيُّ شيءٍ خلقه بيده ، بملكوته .. " أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ".
فالمعنى الأول : " لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ " أمره بيده ، تحت سيطرته ، في قبضته.
المعنى الثاني : أنَّ هذا الشيء الذي خُلق لا يصلُح ولا يستقيم أمره إلا إن اتبع أمر الذي خلق
فأنت بشكل عام والجو برد قارص وابنك الذي تحبه بلا معطف ، تذهب وتشتري له معطفاً، هذه تربية خَلْقِيَّة ، يحتاج إلى غرفة خاصة ، يحتاج إلى مال ، يحتاج إلى كتب ، يحتاج إلى أقساط ، يحتاج إلى أشياء ثانوية .. فتعطيه إياها هذه كلها تربيةٌ خَلقيِة .. لكن أحياناً رأيته يكذب فتؤدبه ، رأيته لا يصلي فتأمره بصلاة ، رأيته يلهو بأشياء سخيفة تنهاه عنها ، أنت الآن عملك شرعي .
يوجد تربية خَلقيِة وتربية شرعية ، فربنا عزَّ وجلَّ يربي أجسامنا بإمدادها بما تحتاج ، ويربي نفوسنا بتزكيتها لتكون أهلاً لجنَّته ، فتربية الله تربيتان ، لذلك ليس لغير ربَّ الناس جهةٌ يمكن أن تشرِّع للعبادة أبداً ، العبادة لربِّ العالمين .
معنى الربانية :
الرباني هو المنسوب إلى الرب وزيدت الألف والنون للمبالغة ، ويقال عالمٌ ربَّانيِّ أي راسخٌ في العلم وكما يقول علي : الناس ثلاث .. عالمٌ ربَّانيّ ، ومستمعٌ على سبيل نجاة ، وهمجٌ رَعاع أتباع كلِّ ناعق ، لم يستضيؤوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق .
،ورجل ربَّانيِّ : أيْ كلُّ حياته محصورةٌ في معرفة الله وذكره وخدمة عباده .
قال الغزالي : هو القريب من الرب وأكثر الناس ربانية أقربهم من الله عز وجل .
فالربَّاني هو الذي لا يتحرَّك إلا وفق منهج الله ، لا يقف موقفاً ، ولا يُعطي، ولا يمنع ، ولا يغضب ، ولا يرضى ، ولا يصل ، ولا يقطع ، إلا وفق مرضاة الله .
فكلما تخلص الإنسان من جواذب الأرض بروحه وارتفع قلبه إلى السماء وازدادت صلته بالله كان ربانيا .
وفي هذا المعني يقول عبد القادر الكيلاني : العبد ملقى بين الله وبين نفسه إن نصر نفسه كان عبدا لها وإن نصر الله كان عبدا له .
لماذا نتخذ الوسائط بيننا وبين الله :
أتساءل دائما لماذا نفرغ عبادة الدعاء من روحها ، ولماذا لا ندعو الله مباشرة بلا وسائط ، لقد اختلف العلماء قديما وحديثا في قضية التوسل لكنهم اتفقوا جميعا على أن المسلم لا يحتاج إلى واسطة للدخول على الله فلماذا لا أقصد الباب مباشرة وأدعو دعاء خالصا لله ؟!!
وأذكر أن الشيخ الغزالي في كتاب عقيدة المسلم ذكر أن بعضهم أرسل إليه رسالة وكان مما قاله فيها : جمهور الناس عصاة والله إنما يتقبل من المتقين فلو ذهب إنسان وهو مثقل بالسيئات لن يجبه الله !!!
فقال له : إن الله قد استجاب لإبليس لما قال (أنظرني إلى يوم يبعثون ) واستجاب للمشركين لما كانوا في البحر ولعبت بهم الأمواج وظنوا أنهم أحيط بهم فدعوا الله مخلصين له الدين فأنجاهم الله منها (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) يونس
فإذا استجاب الله لإبليس وللمشركين أفلا يستجيب لك ؟!!
ثم إن الرجل إذا كان بحالة لا يقبل منه دعاء معها فلن يقبل منه دعاء غيره له ولو كان سيد الأنبياء ، فقد رفض استغفار النبي لابن سلول .
وقال رحمه الله في كتابه: «دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين»:
قالوا: عندما احتل الانكليز القاهرة في القرن الماضي ذهب حشاش إلى قبر الإمام الشافعي يلومه كيف عجز عن رد هؤلاء المغيرين؟ فقال له حشاش آخر معتذراً: اذا كان الأكبر منه الإمام الحسين نفسه عجز عن ردهم فما يفعل هو؟!…
وقال الغزالي: «ان ناساً عندنا يرسلون شكاوى مكتوبة إلى ضريح الإمام الشافعي وآخرين يفزعون إلى بعض قبور الأولياء متذللين يطلبون منها مالا يقدر عليه إلا رب العالمين».
حكى بعض الظرفاء أنه كان جالساً في مزار مشهور فجاء رجل يطلب من الولي الميت النجدة! لأن امرأته تلد والولادة متعسرة! وانصرف. واذا رجل يجيء بعده ليطلب مساعدة ابنه الذي دخل الامتحانات العامة! وهنا قال له الظريف الجالس ان الولي ليس هنا فقد ذهب لتوليد حامل تعسر وضعها!!
وقد يوسوس الشيطان للعبد فيقول له إنك تدعو ولا يستجاب لك فلا فائدة من الدعاء !!!
وهذا كلام باطل لأننا على يقين أننا إذا دعونا فإن الله يسمع كلامنا ويرى مكاننا ولا يخفى عليه شئ من أمرنا لكن عطاؤه رحمة ومنعه رحمة .
كما قال سفيان الثوري إن الله ليس ببخيل ولا فقير وإنما يعطي لحكمة ويمنع لحكمة .
وقال الفضيل بن عياض: تعلمت الرجاء في الله من طفل صغير!!
قالوا كيف ذلك ؟!!
قال: كنت في طريقي إلى المسجد ، فاذا بأم تفتح باب بيتها وتلقى منه طفلا صغيرا وأُغلق الباب، وبعدها وقف الصغير على الباب يبكي ويستعطف ويرجو ، فرقت له أمه ففتحت له وضمته إليها.
فقلت سبحان الله، هذا طفل وقف بباب أمه يبكي ويستعتب (يعتذر) ففتحت له ولو وقف العبد بباب ربه يبكى ويستعتب لفتح له
تحريم الحلال ، وتحريم الحرام يناقض توحيد الربوبية :
ومن معاني الربوبية : الأمر والنهي والتشريع ، قال -سبحانه وتعالى-: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) الأعراف.
فالرب: هو الذي له الخلق والأمر.
فكما يعتقد المؤمن أن الله - سبحانه وتعالى- منفرد بالخلق ، فكذلك يعتقد أنه - سبحانه وتعالى- منفرد بالأمر ، فيعتقد المؤمن أنه سبحانه له حق التشريع ؛ بمعنى أنه له حق الأمر والنهي.
ولذلك من مظاهر الشرك في الربوبية في هذا المعنى ، اعتقاد أن مع الله -عز وجل- من له حق الأمر والنهي والتشريع ، أو حق تبديل الشريعة فبهذا قد جعله رباً مع الله .
والدليل على ذلك :
قول الله -عز وجل- عن اليهود والنصارى : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)(التوبة: من الآية31) ، فهم لم يعتقدوا أن الأحبار والرهبان خالِقون ، أو رازقون أو يدبرون الأمر ! ليس كذلك.
فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله}، قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال صلى الله عليه وسلم: (أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلّون ما حرم الله فتحلونه؟!) قال: قلت: بلى. قال: (فتلك عبادتهم)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة للرجال" مجموع الفتاوى (7/67).
وقال أيضاً: "هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.
والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الطاعة في المعروف).
ثمار الإيمان بهذا الاسم :
1. الاعتقاد بأن الله هو الفاعل لكل شئ في الكون .
2. طمأنينة القلب وسكينته في الرضا بالقضاء والقدر ، فكل ما يحدث في الكون بإرادة الله ووفق تدبيره .
3. الربانية وهي أن تكون الحياة كلها لله في التصورات والأقوال والأفعال (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) الأنعام .
شرح أسماء الله الحسنى
(8) السلام
أولا /المعنى اللغوي
سلم من الآفات ونحوها أي برئ ... وأسلم أي انقاد
وتطلق أيضا على من يعتنق الإسلام .. وأسلم أمره لله أي فوضه فيه
وسلم بالأمر أي رضي به .. وسلم على القوم أي حياهم بتحية الإسلام .
ومنه : السلّم وهو من السلامة أيضا لأن النازل عليه ترجى له السلامة
والسلم ضد الحرب لأن كلا المتحاربين يرجو السلامة من الآخر
والسلم أي الصلح ، وقد يراد بها الإسلام كما في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) البقرة 208 .
والسلام اسم من أسماء الله الحسنى ، وهو يعني في اللغة البراءة من العيوب والنقائص .. ويشمل في ثناياه معاني متعددة كالسكينة والأمان والاستقرار والهدوء .
الفرق بين اسم الله السلام والقدوس
القدوس المبرئ من جميع العيوب في الماضي والحاضر
السلام لا يطرأ عليه شئ من العيوب في الزمان والمستقبل فإن الذي يطرأ عليه شئ من العيوب تزول سلامته ولا يبقى سليما.
تأملات وإيمانيات في رحاب الكتاب والسنة :
الله سبحانه هو السلام : فهو سبحانه سلام في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله من كل عيب ونقص وظلم وشر .
إذا نظرت إلى صفات كماله وجدت كل صفة سلاما مما يضاد كمالها :
1. فحياته سلام من الموت ومن السنة والنوم
2. وكذلك قيوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب
3. وعلمه سلام من عزوب (غياب ) شيء عنه أو عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر وتفكر
4. وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة
5. وحلمه وعفوه ومغفرته سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذل أو مصانعة بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه .
6. وكذلك عذابه وسرعة عقابه سلام من أن يكون ظلما أو تشفيا أو غلظة , أو قسوة بل هو محض حكمته وعدله ووضعه الأشياء مواضعها
7. سلم ملكه من كل منازع أو شريك أو معاون
8. سلم كل ما خلق من الآفة والعيب إلا بإذنه (الذي أحسن كل شيء خلقه )
9. شاء الله ألا تكون الدنيا في سلام كامل لأنها ليست دار قرار أما الجنة فهي دار السلام وأهلها في عافية وسلام فلا حسد ولا حقد .
والسلام اسم من أسماء الله الحسنى التي تمثل صفة من صفاته عز وجل :
فإذا تأملت الكون ستجد أن السلام كامن في كل بقعة من بقاعه , فالكون يسير وفقا لنظام محكم وثابت لا يعتريه خلل ولا عطب ..
الأرض التي نعيش عليها تدور بسرعة كبيرة حول نفسها .. وتدور في نفس الوقت حول الشمس بما يترتب على ذلك من تعاقب الليل و النهار وتعاقب فصول السنة .
ورغم هاتين الحركتين تجد أن الكون سلام من الأعطاب وسلام من الاضطرابات
الشمس تحافظ على بعد ثابت من الأرض لا تتجاوزه بالنقص أو بالزيادة ... فلو اقتربت الشمس من الأرض لا حترقت كل الكائنات الحية .. ولو بعدت لتجمدت كل الكائنات من البرودة .
الكواكب التي تدور في فلكها حول الشمس منها ما يمثل أضعاف أضعاف الكرة الأرضية من حيث الحجم والوزن .. فماذا لو خرجت إحدى هذه الكواكب عن مدراها فصدم الكرة الأرضية ؟
لا شك أنه سيصيب الأرض بدمار شامل .. وهب أن الأرض فقدت جاذبيتها للأجسام التي تعلوها ؟
ألن تتطاير تلك الأجسام إلى الفضاء الخارجي بلا ضابط ولا رابط وماذا لو ضعفت القشرة الأرضية أو تفككت ؟
ألن تسقط الكائنات الحية ضحايا للزلازل والبراكين ؟
إن الموجودات الكونية جميعها تؤدي عملها بلا توقف وبلا أعطال أو خلل فالكون كله في سلام وأمان وسكينة واستقرار ، وإن كان الحق جل وعلا يصيبنا ببعض الكوارث الطبيعية بين الحين والآخر ، فإنها إصابة مقصودة ولحكمة إلهية ؛ فهو سبحانه يريد بهذه الكوارث أن يجعلنا نذكره ونلجأ إليه لنطلب منه العون النجاة.
ويلاحظ أن هذه الكوارث تأتي في الغالب حين يكون هناك إعراض من الغالبية العظمى من الناس ... فتأتي الكارثة ليفيق الجميع من الغفوة ، ويتذكر بعد النسيان .
وقد تكون هذه الكوارث غضبا من الله عز وجل على من حلت بهم لتجعلهم عبرة للمؤمنين .
وقد تكون تذكرة لنا بنعمة السلام الدائم الذي نعيش فيه ليل نهار دون أن نلتفت إليها فنقدم من الحمد والشكر لله ما يكافئها .
اسم الله السلام والدين الذي ارتضاه هو الإسلام:
الإسلام سمي بهذا الاسم لما فيه من إسلام الوجه لله سبحانه وتعالى والخضوع له وطاعته .. ولما فيه من نشر السلام بين الناس
. إن العبادات في الإسلام بما فيها من تذكرة دائمة للإنسان بخالقه ولما فيها من تدريب على ضبط النفس وقمع الأهواء وبما يتخللها من إرشادات ونصائح كخطبة الجمعة وكالاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم في الصلاة وخارج الصلاة .. كل هذه المعاني الكامنة في العبادات الإسلامية تهذب النفس البشرية وتجعل الإنسان في سلام داخلي مع نفسه ومع خالقه ومع الكون المحيط به وتجعله في سلام مع غيره من الناس .
والإسلام قد نظم أيضا القواعد التي تحكم المعاملات بين الناس .. هذه القواعد تغطي جميع صور التعاملات .. وبها من القواعد العامة ما يكفي لاستنباط قواعد تفصيلية لكل ما يستجد من وجوه التعامل.
وتتسم هذه القواعد بتحقيق العدل بين الناس والتوازن بين مصالحهم المتعارضة , مما يؤدي إلى القضاء على أسباب المشاكل بين الناس على مستوى الأفراد والدول .. فيقيهم شر الحروب الطاحنة وينشر بينهم السلام والود والأمان .
وفضلا عن ذلك ؛ وضع الإسلام عقوبات معينة لكل من يرتكب جريمة من الجرائم كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر وغيرها من الجرائم المخلة بالأمن والسلام بين الناس . . فمن يرتكب أيا من هذه الجرائم يعاقب بالعقوبة المحددة لها فتكون رادعة له ولكل من تسول له نفسه ارتكاب هذه الجريمة .
إنه نظام محكم شيده الإسلام لتحقيق السلام بين الناس أفراد ودولا .. وبين الإنسان ونفسه .. وبينه وبين خالقه عز وجل .
ولا يوصف بالإسلام والسلام إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده ، وكيف يوصف به من لم يسلم هو من نفسه ؟
وقد أراد الحق سبحانه أن يكون الإسلام خاتما للأديان السابقة فقال : ( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)المائدة 3
وقال سبحانه : ( فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ) الأنعام125
والجنة دار السلام
الجنة دار السلام إضافة إلى مالكها الله،أو لأنها دار السلام من كل آفة ونقص وشر.
فإذا كنا قد عانينا في الدنيا من الأمراض المختلفة فإننا سننعم في دار السلام إن شاء المولى بصحة دائمة لا يقطعها مرض .
وإذا كنا قد تناحرنا وتحاربنا في الدنيا على متاعها فإننا سننعم في دار السلام بود لا يقطعه حسد أو حقد أو غل أو ضغينة .. ومن أين تأتينا هذه الآفات القلبية وليس في الجنة إنسان ينقصه شيء ... إن أقل أهل الجنة درجات سيكون لهم فيها ما تشتهي الأنفس وهو فيها خالدون .
حين يلقى المؤمنون ربهم سيحيهم بتحية السلام كما قال عز وجل : ( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا )الأحزاب 44
وسوف تحييهم الملائكة بتحية السلام كما قال سبحانه : (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)الرعد 23
اللهم أخرجنا من الدنيا بسلام ... وابعثنا يوم القيامة آمنين في سلام واجعلنا من الخالدين في دارك ... دار السلام .
مظاهر وآثار اسم الله السلام في جسم الإنسان :
يقول الدكتور راتب النابلسي - حفظه الله -
في شرحه لهذا الاسم (منقولة عن موقعه باختصار )
و من رحمة الله بنا أن الإنسان ينمو فإذا بلغ في نموه الحد المعتدل المقبول يقف النمو ، فرحمة الله عز وجل توقف نمو العظام عند هذا الحد ، لكن خلايا العظام تنمو فإذا وصلت الحد الذي رسم لها تقف عن النمو .
وقال العلماء : هذه الخلية العظمية تهجع وتنام ، قد يمضي على نومها أربعون عاما فإذا كسرت عظمة إنسان استيقظت هذه الخلايا وأعادت بناء ذاتها والتأمت مع أخواتها ونحن لا ندري ، لو أن العظم لا يلتئم ماذا نفعل ؟
فالتئام العظم يجسد اسم الله السلام ، الله عز وجل خلقك في أحسن تقويم وخلق في طبيعة الجسم إمكانية الترميم والإلتئام والشفاء .
أنت إذا سرت على قدميك اللطيفتين ماالذي يضمن لك أن لا تقع؟
جهاز للتوازن أودعه الله في أذنك الداخلية ثلاث قنوات فيها سائل ، فيها أهداب ، فإذا ملت على أحد محوريك ارتفع السائل في مكان دون الآخر وهذه الأشعار الدقيقة أحست بالميل فأعطت أمرا إلى الدماغ كي تعود إلى ما كنت عليه ، لولا هذا الجهاز الذي أودعه الله في الأذن الداخلية لاحتاج الإنسان إلى قدم قطرها سبعون سنتمتر ، يحتاج إلى مركز استناد واسع ، إذاً من أجل سلامتك جعل الله لك هذا الجهاز جهاز التوازن في الأذن ، نعم من أجل سلامتك ، ومن أجل سلامتك أنت أيها الإنسان جعل الله هذه الخلايا العظمية تهجع مديدا ثم تستيقظ لتلتئم .
الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان ، في عظامه ، من الداخل أعصاباً حسية بالغة الحساسية لماذا ؟
لماذا في نِقْيِ العظام (مخ العظام ) أعصاب حس ليس لها معنى ، فإذا كسر العظم تُبقي العظم على حالته لأن إبقاؤه على حالته هو ثلاثة أرباع العلاج ، فجعل الله في نقي العظام ذلك العصب الحسي البالغ الحساسية من أجل سلامتك لأن اسمه السلام .
وأعصاب الحس في الأسنان من أجل أن تبادر إلى طبيب الأسنان فتعالج أسنانك قبل أن تفقدها كلها ، فهذا العصب الحسي البالغ الحساسية في أسنان الإنسان من أجل سلامة الأسنان وهو تجسيد لاسم الله السلام .
جهاز المناعة ، وهو حديث العالم اليوم ، جيش عظيم أودعه الله في الدم : الكريات البيضاء بعض هذه الكريات تستطلع أحوال العدو وبعض هذه الكريات تصنع المصل المضاد بناء على استطلاع الكريات المستطلعة وبعضها تأخذ هذا السلاح المضاد الحيوي وتقاتل به الجرثوم وأنت لا تدري.
من أجل سلامتك أودع الله فيك جهاز المناعة ، هذه الكريات البيضاء التي بعضها لاستطلاع بنية العدو ومراكز ضعفه وبعضها لتصنيع المصل وبعضها لمحاربة الجرثوم إذا دخل معتديا على جسم الإنسان ، وما مرض الإيدز الذي هو شغل العالم الشاغل إلا ضعف في جهاز المناعة ، فمن أجل ماذا خلق الله جهاز المناعة في الإنسان ؟ من أجل سلامتك . إذاً هذا يجسد اسم الله السلام .
القلب : جعل الله عز وجل فيه مركز تنبيه كهربائي خاص به ، ما من عضلة في جسم الإنسان إلا وتأتمر بعصب حسي وعصب محرك، الإنسان عصب حسي ينقل إحساس المحيط إلى الدماغ وعنده عصب محرك ينقل أوامر الدماغ إلى العضلات وهذه من بديهيات التشريح ، كل عضلات الجسم تتحرك بأمر الدماغ لذلك الشلل من أين ؟
من الدماغ ، إذا تضيق شريان في الدماغ في منطقة الحركة يصاب الإنسان بالشلل ، إلا عضلة القلب إلا هذه العضلة فقد زودها الله جل جلاله بمركز توليد كهربائي خاص بالقلب ؛ لأن القلب خطر جدا ، المشكلة أن هذا المركز مركز التوليد إذا تعطل فهناك مركز آخر يعمل بعده مباشرة والدول المتقدمة جدا عندها أجهزة توليد كهرباء احتياط فلو أن مراكز التوليد الأساسية أصابها خلل أو عطب تعمل المراكز الإحتياطية، في القلب ثلاثة مراكز توليد كهرباء خاصة بالقلب إذا تعطل الأول يعمل الثاني وإذا تعطل الثاني يعمل الثالث ، لماذا خلق الله هذه الإحتياطات ؟ من أجل سلامتك .
قال لي طبيب متخصص في الكليتين : لو أننا جئنا بمبضع الجراح واستأصلنا الكلية الأولى وجئنا إلى الكلية الثانية واستأصلنا تسعة أعشارها بالمبضع ، إن عشر الكلية الثانية يكفي لتصفية دم الإنسان ، إذا الله عز وجل من أجل سلامتك أعطى كليتيك عشرين ضعفا عن حاجتك، هذا من أجل سلامتك .
الأوعية أوردة وشرايين لحكمة أرادها الله عز وجل جعل الشرايين في داخل الأعضاء والأوردة في الظاهر ، لأن الشريان موصول بالقلب مباشرة فإذا أصابه جرح فقد الإنسان دمه كله لأنه مثل المضخة ، لو أن إنساناً فُتح شريانه هل تدري ما يكون .
وقال لي طبيب جراحُ أوعيةٍ : في أثناء بعض العمليات حينما يُفتح الشريان وإلى أن نُغلقَهُ بملقط فإنَّ الدم يصل أحيانا إلى سقف الغرفة لشدة الضغط، فهذا الشريان الذي أودعه الله في الإنسان حفاظا عليه وضمانا لسلامة صاحبه جعله في الداخل وجعل الأوردة في الخارج ، فعندما تأخذ أبرة في العرق كما يقولون هذه ليست في الشريان ولكن في الوريد، من صمم الشرايين في الداخل والأوردة في الخارج ؟
الله السلام سبحانه .
عندما يجوع الإنسان لدرجة يكاد يموت جوعا ، أنت كإنسان عندك مواد غذائية ؛ عندك مثلا بقول حبوب وعندك دهون ، فأنت مهما أوتيت من علم عظيم هل بإمكانك أن تحول هذا القمح إلى مواد دهنية إلى لحم ؟ هذا شيء فوق طاقة الإنسان ولكن الجسم مزود بآلية عجيبة جدا، بإمكانه أن يحول المواد النشوية إلى مواد دهنية عند الحاجة ، فهذه المرونة في تحويل المواد من أجل سلامتك والإنسان عندما يجوع يستهلك شحمه وحينما يجوع بعد ذلك يستهلك عضلاته ، في بعض حالات المجاعات العضلات تستهلك العضلة ، لا يبقى في يده إلا جهازه العظمي وعليه الجلد ، العضلات المخططة هذه تستهلك تؤكل
ماذا قال هذا الفتى الشاب لعبد الملك بن مروان حينما دخل عليه فقال عبد الملك ابن مروان: حينما رأى الصغار في مجلسه غضب وقال لحاجبه : ما شاء أحد أن يدخل علي حتى هؤلاء الصبيان ، فقال له : "أيها الأمير إن دخولي عليك لن ينقص قدرك ولكنه شرَّفني : أصابتنا سنة أكلت الشحم -أذابت الشحم- وأصابتنا سنة أكلت اللحم وأصابتنا سنة دقت العظم .....
أول شيء في الإنسان يُستهلك شَحْمُه وبعد ذلك تُستهلك عضلاته إلا عضلة القلب ، من صمم هذا التصميم ؟ الإنسان إذا أردت أن تميته جوعا يستهلك كل عضلاته إلا عضلة القلب ضمانا لسلامته.
بل إن في مخزون الإنسان الغذائي مخزون لا يستهلك إلا عند المجاعات ، الإنسان يجوع ، ما معنى أنك جائع ؟
يعني مخزونك في الكبد نقص ، المخزون الغذائي في الكبد لا في الشرايين لو فحصت دم إنسان جائع لوجدت النسب كلها نظامية في دمه ، ولكن المخزون في الكبد هو الذي نقص ، هذا كله من أجل سلامة الإنسان هذا معنى " ذو السلامة "
شيء آخر : الإنسان أحيانا ينام ، وزن جسمه الذي فوق عظمه يضغط على العضلات التي تحت العظم هذا الضغط يسبب ضيق في التروية أودع الله في الإنسان مراكز تنبيه للإحساس بالضغط فإذا تنبهت هذه المراكز لضغط الجسم عليها ولضيق الأوردة والشرايين وضعف التروية ، الدماغ يأمر الجسم وأنت نائم بالتقليب من شق إلى شق وهذا معنى قوله تعالى:
(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) الكهف 18
والتقليب ذات اليمين وذات الشمال ، مرة إلى اليمين ومرة إلى الشمال لئلا تقع من على السرير ، هذا من أجل سلامتك .
وأنت نائم هذا الريق هذا اللعاب في الفم إذا ازداد أعطى تنبيها إلى الدماغ والدماغ أمر البلعوم فتجعل هذا اللعاب في المعدة وأنت نائم ، هذا من اسم الله السلام .
الله عزو جل جعل أخطر عضو عندك هو " الدماغ " أين وضعه ؟ في الجمجمة ، ماذا جعل فيه ؟
أغشية بعضها فوق بعض ، وماذا جعل بين الدماغ وبين الجمجمة ؟
سائل ، ما وظيفة هذا السائل؟
هذا يمتص الصدمات ، إذا تلقى إنسان ضربة على رأسه أو وقع على جمجمته ، وإذا فسرنا الضربة بارتجاج في السائل ، هذه الضربة أو هذا الضغط يوزع على سطح السائل كله ، فإذا هو عشر الميليمتر فلا يتأثر ، فالله جعل الدماغ في صندوق محكم وجعل الصندوق له مفاصل ثابته ، هذة المفاصل الثابته تمتص بعض الصدمات، لولا هذه المفاصل المنكسرة لكان الإنسان لأقل ضربة تنكسر جمجمته ، أما هذه المفاصل فإنها تتمفصل تمفصلاً متكيفاً مع شدة الضربة ، فكلما تعرضت الجمجمة لصدمة تتداخل العظام مع بعضها ثم تعود لمكانها ، هذا من أجل سلامتك.
أين جعل النخاع الشوكي ؟ في العمود الفقري أخطر شيء في الإنسان .
أين جعل القلب ؟ في القفص الصدري .
أين جعل الرحم ؟ في الحوض (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ) المؤمنون 13
الرحم يقع في الوسط الهندسي تماما من جسم المرأة .
أين جعل معامل كريات الدم الحمراء وهي أخطر معامل في جسم الإنسان ؟ في نِقْيِ العظام، أترون كيف هي السلامة .
أين وضع العين ؟ في المحجر ، العين جعل لها محجراً يقيها الصدمات ولو تلقى الإنسان ضربة على وجهه فالضربة لا تصل إلى العين ، لأنها في حصن في كوة المحجر ، فالعين في المحجر والدماغ في الجمجمة والنخاع الشوكي في العمود الفقري والقلب في القفص الصدري ومعامل كريات الدم الحمراء فيِ ْنِقي العظام والرحم في الحوض ، ما هذا الإحكام البديع ؟
لماذا جعل الله عز وجل أنف الصغير الرضيع قاسيا ؟
لئلا يتطامن فيختنق الطفل ، كلما كبر الطفل أصبح هذا الغضروف لينا ، هذا من حكمة الله عز وجل
هذا الرحم إذا تقلص من أجل سلامة المرأة ماذا يحصل يتقلص تقلصا لطيفا . هذا هو الطلق ، فإذا خرج الطفل إلى خارج الرحم تقلص الرحم تقلصا حادا قاسيا لماذا ؟ قال : لأن الطفل حينما خرج من الرحم تقطعت عشرات ألوف الأوعية الشعرية فلو تقلص تقلصا لينا لماتت الأم من النزيف، يمسك الطبيب أو القابلة يجس الرحم فإذا كان صخريا تعد الولادة سليمة ، لو أن هذين التقلصين عكسا لماتت الأم ولمات وليدها ، لو جاء التقلص عنيفا لاختنق الوليد ولو جاء رخوا لماتت الأم ، فمن أجل سلامة الأم وسلامة وليدها كان التقلص الأول لينا متزامنا متسارعا والتقلص الثاني عنيفا حادا قاسيا من أجل سلامة المرأة ووليدها.
هذه الحوينات (الحيوانات المنوية )، أحد إخواننا الأطباء جزاه الله خيرا ذكر لي قبل أيام أن هذا الحوين الذي خلقه الله في الخصيتين ، هذا يتم خلقه خلال ثمانية عشر يوما هذا الحوين و يخزن في الخصيتين ويعطل فاعليته ، فإذا خرج ليستقر في الرحم حينما يبدأ بالإنطلاق من مكان تخزينه تبدأ فاعليته ، ولولا هذه الصفة لكان كل الرجال عقيمين ، يأتي العقم لأن هذا الحيوان له عمر وعمره عشر ساعات فإذا صنع في الخصيتين ولم يستهلك يموت ، إذاً يُصنع ويتم صنعه ويُخزن وتُعطل فاعليته فإذا انطلق من تخزينه ليستقر في الرحم بدأت فاعليته وعاش عشر ساعات إلى أن يستقر في البويضة ، هذا تصميم مَنْ ؟ تصميم الله عز وجل .
ثمار إيماننا بهذا الاسم :
1. وصفه سبحانه بالسلامة من كل نقص وعيب وشر في ذاته وصفاته وأفعاله .
2. أن الله هو السلام فمنه تلتمس السلامة من كل سوء ومرض وخوف :
ولذا لما كان الصحابة يقولون السلام على الله قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله هو السلام ولكن قولوا (التحيات لله والصلوات ....) مخرج في الصحيحين عن ابن مسعود
فأنكر عليهم لأن الله هو السلام فكل سلام ورحمة له هو معطيها ومالكها ومانحها .
ومن فقه خديجة أن جبريل لما قال إن الله يقرأ خديجة السلام فإخبرها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته )
ففقهت خديجة أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين لأن الله هو السلام .
3. المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده
4. إشاعة تحية الإسلام لأنها سلام على كل من تلقاه :
فلكل امة من الأمم تحية اصطلحوا عليها يتداولونها فيما بينهم , وقد منّ الله – عز وجل - على هذه الأمة بتحية الإسلام فجعلها شعارا لهم يميزهم عن غيرهم ؛ فهي شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة ، وقد جاء الحث عليها وعلى إفشائها وإعلانها بين الناس
عن عبد الله بن سلام – رضي الله عنه – قال :سمعت رسول الله "صلى الله علية وسلم " يقول: "يا أيها الناس افشوا السلام , وأطعموا الطعام , وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " رواه الترمذي وقال :حسن صحيح.
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه – قال : قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم ":"لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم " رواه مسلم .
(5)الملك،(6)المالك
و(هو الله الذي لا إله إلا هو الملك )الحشر23
و(يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم )الجمعة 1
و(ملك الناس ) الناس 2
وذكر اسم مالك مرتين :
(مالك يوم الدين ) الفاتحة4
و(قل اللهم مالك الملك )آل عمران 26
وورد بصيغة المبالغة في آخر سورة القمر (في مقعد صدق عند مليك مقتدر )
المعنى اللغوي :
ملك الشيء أي حازه وانفرد باستعماله والانتفاع به أوالتصرف فيه والاسم مالك .
والملَك( بفتح الميم واللام) هو واحدالملائكة، أماالملِك( بفتح الميم وكسر اللام )
فهو اسم من أسماء الله الحسنى.
وهو يعني ذو الملك وصاحب التصرف فيما يملك بجميع الوجوه ما علمناه منها وما لمنعلم.
فالله هو الملك صاحب التصرف المطلق الآمر الناهي الذي يصرف أمور عباده كما يشاء .
ولكن لماذا سمى الله نفسه مالك وملك ؟
لأن المالك يملك وقد لا يحكم .
والملك يحكم وقد لا يملك .
والله هو المالك الملك الذي يملك ويحكم .... وقد وردت القراءتان في سورة الفاتحة (مالك يوم الدين) وفي قراءة أخرى (ملك يوم الّدين)
الله مالك كل شئ وما ملك :
وفي ذلك يقول سبحانه (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض(البقرة 107
و(لله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير) آلعمران 189ومن آثار ملكه عز وجل لكونه أنه يملك استبدال هذا الكون أو بعض منه بخلق جديد وفي ذلك يقول جل وعلا: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلي الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلقٍ جديدٍ وما ذلك على الله بعزيزٍ ) فاطر17:15
سئل أعرابي يملك قطيعاً من الغنم ، لمن هذه ؟ قال : لله في يدي
وإنما خصّ الله نفسه بأنه ملكُ يوم الدين ومالكُيوم الدين لأمرين:الأول:أن الله يبدل الأرض في ذلك اليوم غير الأرض والسمواتغير السموات ,كما قال تعالى)يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهَّار(إبراهيم:48فحتى ينبه الله العباد على أن السموات والأرض له فهو سبحانه مالكهما.
الثاني: لأنه كان في الدنيا منازعين في الملك ، مثل فرعون ونمروذ وغيرهما ، وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه ،وكلهم خضعوا له ، وفي يوم القيامة ينادي الرب سبحانه (لمن الملك اليوم(غافر:16
فلا يجيبه أحد فيجيب الحقُّنفسه بنفسه (لله الواحد القَّهار)غافر:17
فلذلك قال : مالك يوم الدين ، أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولامجاز غيره ، سبحانه لا إله إلا هو .
وأيضا : أن البشر لهم شبهةُ ملك ٍ في الحياةالدنيا، فهم يملكون الأراضي والقصور والبساتين والذهب والفضة ، ولكنهم بين خيارين إماأن يزول عنهم ما يملكونه في الدنيا،وإما أن يزولوا عنه، ويخلفوه وراءهم فهو ملك زائل،وعارية مسترجعة،لكنهم في يوم الدين يوم الحساب والجزاء لا يملكون شيئاً ،فالناس فيذلك اليوم يحشرون حفاة عراة غرلاً كما قال تعالى(ولهُ الملكُ يوم يُنفخ في الصور) الأنعام 73.
وعندما يُفني الله يوم القيامةالأحياء ويبيدهم،يأخذ سمواته بيمينه ،والأرض بيده الأخرى كما قال تعالى)وماقدروا الله حقَّ قدره والأرض جميعاً قبضتُهُ يوم القيامة والسموات مطويات بيمينهسبحانه(الزمر:67.
وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم (يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنىثم يقول : أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ،ثم يقول :أنا الملك ،أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) رواه مسلم
تمجيد العباد ربهم بصفة الملك:
وعلى العباد أن يمجدوا ربهم بما علّمهم أنيمجدوه به قال تعالى (تبارك الذي بيده الملكُ وهو على كل شيءٍ قدير)الملك1
فالله يمجد نفسه في هذه الآية تعليماً لعباده أن يمجدوه بذلك،مقرينبأنه تبارك وتعالى هو المتصرف في جميع مخلوقاته كما يشاء لا راد لأمره ولا معقبلحكمة كما قال تعالى .
(قل اللهم ملك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممَّنتشاء وتعزُّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيءٍ قديرٌ)آلعمران26
فلأنه هو المالك فله مطلق التصرف في ملكه فلا يحدث شئ إلا بأمره ، فمرد الأمور كلها لله ، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ، يقدر أسباب الخير والعز لمن يشاء ، ويذل من يشاء ويسلب نعمه عمن يشاء فكل شئ بيده ولذلك ورد في الدعاء المأثور:
(اللهم لك الحمد كله ، ولك الملك كله ، ولك الشكر كله وإليك يرجع الأمر كله ، علا نيته وسره ، أسألك من الخير كله ، عاجله وآجله ، ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله ، عاجله وآجله ، ما علمت منه وما لم أعلم )
وليس المقصود من الآية كما يعتقد بعض المسلمين أن يستسلم للواقع المهين ويرضى بالظلم ويقنع بالمهانة ويقول - مهملا الأخذ بالأسباب - الحمد لله على كل حال هذه إرادة الله !!!
يا أخي هذه إرادة الله في القاعدين والكسالى ؛ فهذا معنى جبري لا ينبغي للمسلم أن يقول به أبدا ، فإن عون الله لا يكون للكسالى والقاعدين ، إنما عون الله لمن يبذل ما في وسعه آخذا بالأسباب ثم يترك النتائج على الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا . ولكن قل : قدر الله . وما شاء فعل . فإن لو تفتح عمل الشيطان ) رواه مسلم
ثمار الإيمان بهذين الاسمين :
1- اليقين بأن هذا الملك كله بيد الله وحده فهو سبحانه الذي يملك كل شئ (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير ) الملك 1
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمجد ربه باسمه الملك فيقول :إذا أمسى ( أمسينا وأمسى الملك لله،والحمدلله لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهوعلى كل شيء قدير ،رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها رب وأعوذّ بك من شرهذه الليلة وشر ما بعدها ,رب وأعوذ بك من الكسل ،وسوء الكبر ,أعوذ بك من عذاب فيالنار وعذاب في القبر،وإذا أصبح قال ذلك أيضاً، أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله) مسلم
2- - الله المستحق للعبادة لأنه الملك وما يعبد مندونه آلهة باطلة لأنها لا تملك:لما كان الحق تبارك وتعالى هو الخالقلكل شيء والمالك لكل شيء والمتصرف في كل شيء فإنه وحده المستحق للعبادة دون سواه،والآلهة التي تعبد من دون الله مخلوقة مملوكة مربوبة،لا تملك من دون الله شيئا،وألوهيتها باطلة،وعبادتها ظلم وضلال قال تعالى(قل أتعبدون من دون الله ما لايملك لكم ضرّاً ولا نفعاً والله السميع العليم)المائدة:76.
3- عدم الاغترار بالمال أو السلطان :
وقد ضرب الله لنا أمثلة في القرآن للعظة والعبرة فأعطانا مثال المغتر بسلطانه في فرعون الذي بلغ به الكبر والغرور أن يقول أنا ربكم الأعلى فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر وجعله عبرة لمن يعتبر !!
وأعطانا مثال المغتر بماله في قارون ، وقد حدثنا القرآن عنكنوز قارون فقال سبحانه وتعالى ( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِأُولِي الْقُوَّةِ )76القصص
إن مفاتيح الخزائن التي تضم الكنوز، كان يصعب حملهاعلى مجموعة من الرجال الأشداء(العصبة والعصابة العدد من 40:10) فكيف كانتالكنوز ذاتها؟!
ويبدو أن العقلاء من قومه نصحوه بألا يفرح فرحا يؤديبصاحبه إلى نسيان من هو المنعم بهذا المال،ولا ينبغي أن ينسى الآخرة مغترا بالدنيا،وأن عليه أن يتصدق من هذا المال.....فكان رد قارون جملة واحد تحمل شتى معاني الفساد)قَالَ إِنَّمَاأُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي(لقد أنساه غروره مصدر هذه النعمةوحكمتها، وفتنهالمال وأعماه الثراء.
فلم يستمع قارون لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه.
وخرج قارون ذات يوم على قومه، بكامل زينته، فطارت قلوببعض القوم، وتمنوا أن لديهم مثل ما أوتي قارون، وأحسوا أنه في نعمة كبيرة.
فردعليهم من سمعهم من أهل العلم والإيمان: ويلكم أيها المخدوعون، احذروا الفتنة،واتقوا الله، واعلموا أن ثواب الله خير من هذه الزينة، وما عند الله خير مما عندقارون.
فيجيء العقابحاسما(فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)هكذا في لمحة خاطفة ابتلعته الأرض وابتلعت داره. وذهب ضعيفا عاجزا، لاينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أومال.
وفي هذا يقول الشاعر :
قبل أن يكون لون حالك حالك (أسود )
ولست والله تدري أي المسالك سالك
إلى جنة عدن أو في المهالك هالك
4- العزة بالله :فلا نهاب إلا الله ، فما منع الكثيرين من كلمة الحق إلا الخوف والجبن وضعف يقينهم بالله مالك الملم وملك الملوك .
ورحم الله الإمام العز بن عبد السلام حينما خرج في يوم عيد ، وخرج موكب السلطان يجوب شوارع القاهرة ، والناس مصطفون على جوانب الطريق ، والسيوف مسلطة ، والعساكر واقفة ، وهنا وقف العز بن عبد السلام ، وقال : يا أيوب (هكذا باسمه مجرداً من أي لقب) فالتفت أيوب ليرى من هذا الذي يخاطبه باسمه الصريح ؟!!
فقال له الإمام العز: ما حجتك عند الله عز وجل غداً إذا قال لك : ألم أبوئك ملك مصر ، فأبحت الخمور ؟
فقال السلطان : أو يحدث هذا في مصر ؟ قال : نعم ، في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر ، وغيرها من المنكرات .
فقال : يا سيدي أنا ما فعلت ، إنما هو من عهد أبي .
فهز العز بن عبد السلام رأسه ، وقال : إذاً أنت من الذين يقولون : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، فقال : لا ، أعوذ بالله ، وأصدر أمراً بإبطالها فوراً ، ومنع بيع الخمور في مصر .
أحد طلابه سأله : يا سيدي أما خفت من السلطان وهو في أبهته وعظمته ؟ فقال: يا بني استحضرت عظمة الله عز وجل فصار السلطان قدامي كالقط !!!
5- الملك من الناس من يستغني عن كل شئ فلا يحنى الرأس بذل لغير الله من أجل دنيا فانية .
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، دلّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبّني الناس ، فقال : ( ازهد في الدنيا يحبّك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس ) .
،ومعنى ذلك : ألا يكون القلب متعلقا بما في أيدي الناس من نعيم الدنيا ، فإذا فعل العبد ذلك ، مالت إليه قلوب الناس ، وأحبته نفوسهم .
والسرّ في ذلك أن القلوب مجبولة على حب الدنيا ، وهذا الحب يبعثها على بغض من نازعها في أمرها ، فإذا تعفف العبد عما في أيدي الناس ، عظم في أعينهم ؛ لركونهم إلى جانبه ، وأمنهم من حقده وحسده .
ولذلك قيل (أحسن إلى من شئت تكن أميره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، واحتج إلى من شئت تكن أسيره )
ومما يروى في هذا الشأن :
دخل إبراهيم باشا بن محمد علي حاكم مصر المسجد الأموي في وقت كان فيه عالم الشام الشيخ سعيد الحلبي يلقي درسا في المصلين .
ومر إبراهيم باشا من جانب الشيخ ، وكان مادا رجله فلم يحركها ، ولم يبدل جلسته ، فاستاء إبراهيم باشا، واغتاظ غيظاً شديداً ، وخرج من المسجد ، وقد أضمر في نفسه شراً بالشيخ .
وما أن وصل قصره حتى حف به المنافقون من كل جانب ، يزينون له الفتك بالشيخ الذي تحدى جبروته وسلطانه ، وما زالوا يؤلبونه حتى أمر بإحضار الشيخ مكبلا بالسلاسل .
وما كاد الجند يتحركون لجلب الشيخ حتى عاد إبراهيم باشا فغير رأيه ، فقد كان يعلم أن أي إساءة للشيخ ستفتح له أبواباً من المشاكل لا قبل له بإغلاقها.
وهداه تفكيره إلى طريقة أخرى ينتقم بها من الشيخ، طريقة الإغراء بالمال ، فإذا قبله الشيخ فكأنه يضرب عصفورين بحجر واحد، يضمن ولاءه، ويسقط هيبته في نفوس المسلمين ، فلا يبقى له تأثير عليهم .
وأسرع إبراهيم باشا فأرسل إلى الشيخ ألف ليرة ذهبية ، وهو مبلغ يسيل له اللعاب في تلك الأيام ، وطلب من وزيره أن يعطي المال للشيخ على مرأى ومسمع من تلامذته ومريديه .
وانطلق الوزير بالمال إلى المسجد ، واقترب من الشيخ وهو يلقي درسه ، فألقى السلام ، و قال للشيخ بصوت عال سمعه كل من حول الشيخ : هذه ألف ليرة ذهبية يرى مولانا الباشا أن تستعين بها على أمرك .
ونظر الشيخ نظرة إشفاق نحو الوزير ، وقال له بهدوء وسكينة: يا بني، عد بنقود سيدك وردها إليه، وقل له: إن الذي يمد رجله، لا يمد يده.
(7)القدوس
وقد ذكر مرتين في القرآن في سورتي الحشر والجمعة
قال تعالى (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام ) الحشر 23
و(يسبح لله مافي السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيزالحكيم ) الجمعة 1
المعنى اللغوي
تقدّس في اللغة يعني تطهر
ومنها التقديس أي التطهير
والقدس ( بسكون الدال وضمها ) تعنى الطهر ومنها سميت الجنة حظيرة القدس .. وسمى جبريل روح القدس .
والقداسة تعنى الطهر والبركة
وقدس الرجل لله أي طهر نفسه بعبادته وطاعته ، وعظمه وكبره :
ومنها قوله تعالى :
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون . )البقرة 30
ومعنى ونقدس لك : يعني يا رب نحن نطهر أنفسنا ، ونقدسها كي نكون أهلاً للإقبال عليك ، وهذه مهمة الإنسان في الدنيا ، يجب أن يقدس نفسه كي ينال مقعد صدق عند مليك مقتدر .
والقدوس المطهرالمعظم فهو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص.
قال الغزالي : هو المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم .
وقَال ابن القيم َ : القدوس: المنزه من كل شر ونقص وعيب ، كما قَالَ أهل التفسير : هو الطاهر من كل عيبَّ المنزه عما لا يليق به .
ثانيا تأملات وإيمانيات :
يقول الشيخ فوزي السعيد في رسالة له عن هذا الاسم الجليل :
لو فرضنا البشر كلهم على أجملهم صورة ، على صورة جمال يوسف ، ثم جُمعَ جمالهم كُلُّه في شخص واحد ، هل يُتَصَوَّر جماله ؟!
الحق أنه لا يمكن تَصَوُّرُه لبلُوغه درجات عالية في كمال الجمال المخلوق فكيف لو انضاف إليه الجمال في جميع المخلوقات من الطير والوحش والفلَكَ والحدائق والغابات واللؤلؤ وغيره ، لا شك أنه سيكون أبعد عن التصور ، ومن ثَمَّ يستحيل وجود عيوب أو قبح أو نقص في هذه الحالة ، ثم لو نسبنا ذلك الجمال المفروض إلى جمال الخالق ، لكان أقل من شمعة ضعيفة إلى قرص الشمس ، فهل يخطر ببال أحد إمكانُ تصور جمال الرب سبحانه الذي له منتهى الكمال في الجمال ؟! فإذا كان ذلك مستحيلاً فهل يُتَصَوَّر بعد ذلك وجود عيوب أو نقص في جمال الرب سبحانه ؟! إن ذلك أبطل الباطل .
المثال الثاني :-
لو فرضنا مصباحاً كهربياً ذا قدرة عالية في الإضاءة فإنه يمكن تَصوَّر النَّظَرُ إليه وتصورُ قدرته الضَّوئية ، فلو فرضنا أن مصابيح العالم كلِّه تَركَّزَت في مِصْباح واحد ، فهل يمكن تصور النظر إليه عن قرب ، وتَصُّور قدرتهِ الضوئية ؟! أنا لا أستطيع تصور ذلك .
فكيف لو انضاف إلى ذلك كل وقود الأرض وجميع الطاقات الكهربية الموجودة وفرضناها إضاءة مركزة ، فهل يمكن التصور ؟!
إن ذلك مستحيل . فكيف بنور الشمس كُلَّه لو رُكِّز في المصباح المفترض ؟! فكيف لو انضاف إليها أنوار جميع النجوم في جميع المجرات في زينة السماء الدنيا ؟!
وكل هذه أنوار مخلوقه ، فكيف بأنوار الخالق ؟
هل يمكن تصور عَظَمَتِها وكمالِها ؟
وإذا كان ذلك التصور مستحيلاً تماماً ؛ فهل بعد ذلك يُتصور وجود نقص أو عيب ؟! حاشا لله .
واعتبر ذلك وقِسْ عليه في جميع صفات الله عز وجل
* مفهوم الطهارة الإلهية يختلف عن مفهوم الطهارة البشرية :
فالطهارة البشرية لها أكثر من معنى .. منها الطهارة من الدنس .. ومن كل ما يكون سبباللإصابة بالآفات والأمراض كما في قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنالسَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ) الأنفال 11
وقوله سبحانه وتعالى : ( وَثِيَابَكَفَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ )المدثر 4، 5
وقوله جل وعلا : ( فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءفِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ)البقرة 222
ومنا أيضا الطهارة منالآفات القلبية والنفسية كالحقد والحسد والبغض والبخل كما في قوله تعالى :(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) التوبة 102
وكما في قوله : (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) المائدة 41
ومناأيضا التخلص من كل عبادة غير عبادة الحق جل وعلا والتخلص من معصيتهكما فيقوله تعالى على لسان قوم لوط : أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) أييتطهرون من المعاصي .
هذا عن الطهارة البشرية .. فماذا عن مفهوم القداسة الإلهية ؟
لا يمكن أن تكون القداسة أو الطهارة الإلهية بهذا المعنى،بل إنها تختلف اختلافا مطلقا عن الطهارة البشرية .
ولكي نفهم هذا الاختلافينبغي أن ندرك أن النجاسة خاصة المادية كالبول والبراز وخلافه مرتبطة بالبنيةالمادية للإنسان ، فلولا الجسد لما كان هناك بول أو براز أو عَرَق أو دم الحيض .
ونظرا لأن الإنسان يتكون من روح وجسد فإنه لم يخل من كافة وجوه الدنس المرتبطة بتركيبه المادي .
أما الحق جل وعلا فهو مبرأ من المادة .. أي أن المادة لا تدخلفي تركيبة ، وكيف تدخل المادة في تركيبه وهي مخلوق من مخلوقاته عز وجل ؟!
لقد كانالحق تبارك وتعالى ولم يكن معه شيء على الإطلاق كان الله ولم تكن المادة .
وكونه سبحانه وتعالى مبرأ من المادة يجعله مبرأ تبعا لذلك من جميع وجوه النجاسةوالدنس التي تصيب البشر بسبب بنيتهم المادية .
وإذا انتقلنا إلى النجاسة أو الدنس المعنوي كالكفر والشرك والمعصية نجد أنها منتفية في حق الله عز وجل لأنه غيرخاضعلتكليف حتى يوصف بهذه الأوصاف .
وبالنسبة للآفات القلبية فهي أيضا منتفية فيحقه تعالى ، لأنه واحد أحد فرد صمد وليس له شبيه أو مثيل حتى ينظر إليه نظرة الحاسدأو الحاقد .
فماذا تعنى القداسة أو الطهارة الإلهية إذن ؟
إن القداسة الإلهية تعنى أن الحق جل وعلا مبرأ من كل عيب أو نقصيتعارض مع كماله المطلق .
وهذا يعني أن جميع صفات الله عز وجل مطلقة وليست نسبية .
فمثلاصفة القدرة بالنسبة للإنسان نسبية يقدر على أشياء ولا يقدر علىأخرى بينما نجد صفة القدرة لدى الحق جل وعلا مطلقة بمعنى أنه سبحانه قادر علىكل شيء فلا يعجزه شيء ولا يقف ضد إرادته حائل.
فجميع صفاته مطلقة أيتبلغ منتهى الكمال في الوصف ، فرحمته مطلقة وعلمه مطلق ، وحكمته مطلقة وسمعه مطلق،وعزته مطلقة وعدله مطلق ، وهكذا شأن جميع صفاته تبارك وتعالى
فهوسبحانه وتعالى الحي المطهر عن الموت .. العزيز المطهر عن الذل .. القادر المطهر عنالعجز .. الكريم المطهر عن البخل .. العليم المطهر عن الجهل .. وهكذا شأن سائرأسماء ذاته الإلهية العلية .
فالحق سبحانه وتعالى) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) وهو جل وعلا منزه ومطهر عن المثيل والشبيه والند والسمي والكفؤ والمضاد ، فتباركت ربنا وتعاليت
فكل شئ ألّه من دون الله عاجز ضعيف غير مقدس ولا مطهر بل عاجز ضعيف محتاج لا يقوم بأمر نفسه فضلا عن أن ينفع غيره .
ولعلنا نتأمل حوار الخليل إبراهيم مع قومه حينما رأى الكوكب ثم القمر ثم رأى الشمس ، ويسمى هذا الأسلوب (مجاراة الخصم ) وقد أراد إبراهيم بذلك إقناع قومه أن ما تعبدون من دون الله آلهة عاجزة ضعيفة تحضر وتغيب
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78))الأنعام
قوله { هَـذَا رَبِّي } على زعمكم وعلى ظنكم
{ فَلَمَّا أَفَلَ } يعني زال وذهب النجم
{ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } لأن من كان إلها لا يمكن أن يغيب ولا يمكن أن تغيب عنه غائبة لا في السماء ولا في الأرض
{ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً } يعني طالعا
{ قَالَ هَـذَا رَبِّي } على زعمكم وعلى ظنكم
{ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } فيه إشارة إلى أنكم ضلّال فانتبهوا ، لأن من يغيب ليس بإله .
{ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ } يعني أكبر من النجم وأكبر من القمر
{ فَلَمَّا أَفَلَتْ } أي زالت وذهبت ولم ينتفعوا
{ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } لم ينفع هؤلاء موعظة
فكأن إبراهيم أراد من ذلك بيان عجزها وضعفها وأنها تغيب أما إلهي وخالقي فهو حاضر لا يغيب .
وبين الله تعالى بشرية المسيح وأمه وأنهما ليس بإلهين كما زعم النصارى فقال :
(مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَايَأْكُلاَنِالطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْأَنَّىيُؤْفَكُونَ)المائدة: 75
وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
أيا عباد المسيح لنا سؤال .... نريد جوابه ممـن وعاه
إذا مات الإله بصنع قوم ... أماتوه فما هذا الإله
و يا عجبا لقبر ضم ربا... و أعجب منه بطن قد حواه
أقام هناك تسعامن شهور... في الظلمات و من حيض غذاه
و شق الفرج مولوداً صغيراً... ضعيفا فاتحاًللثدى فاه
يأكل ثم يشرب ثم يأتي ... بلازم ذاك فهل هذا اله
تعالى الله عن إفك النصارى .... سيسأل كلهم عما افتراه
يقول على بن أبي طالب (ربي لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، ليس قبله شيء ، وليس بعده شيء ، وليس فوقه شيء ، وليس دونه شيء ، وهو لا كشيء في شيء (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)
دلالة ذِكْرُ اسم القدوس في القرآن والسنة مقروناً بالمَلك :
وذلك في موضعين من القرآن سبق الإشارة إليهما :
(1) (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ) الحشر 23
(2) ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ..) الآتيان 1 ، 2 من سورة الجمعة
معلوم أن ملوك البشر لا يَخْلُون من النقص والعيب فِي الذات والصفات ، بل يحتاج أحدهم ضرورة إلى أعوان ورجال وجنود ، ولا يخلو حكمه مِنَ الظلم ، ثم هو فَقيْرَ فقر البشر ، وقد يُغْلب ويُسلب ملكه ، و يريد ما لا يفعل ، وقد يفعل ما لا يريد ، ويمرض ويموت ، وهكذا من النقص والعيب الكثير .
أما الملك القدوس سبحانه ، فقد جاء اسمه القدوس مقروناً باسمه الملك وصفاً له بالكمال المقدس ذاتاً وأسماءً وصفاتٍ وأفعالا فلا سبيل إليه لشيء من تلك النقائص بوجه ما ، فهو وحْده الفعال لما يريد ، وهو الملك القدوس فلا يظلم مثقَالَ ذرة ، ورسالاته وشرائعه وأمره ونهيه وأحكامه وجزاؤه وثوابه وعقابه كل ذلك على القداسة ، فلا عيب ولا شر ولا ظلم .
اسم القدوس في السنة مقروناً بالمَلك :
(1) عن أبى بن كعب قَالَ : ( كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)
هذا الذكر بعد صلاة الوتر ، أي بعد نهاية عمل اليوم والليلة كمسك الختام للعمل اليومي ، الذي هو تقديس لله عز وجل ثم هو تقديس ( تطهير وتبريك ) للروح والقلب ليكون لائقاً بمقام القدوس ولقائه عز وجل.
(2) في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ)
إن أعداد الملائكة لا يمكن تصورها بالعقل البشرى ، كما لا يمكن تسجيلها على الأوراق بكل الأرقام التي يعرفها البشر ، كما لا يمكن إحصاء الوظائف التي يقومون بها في السماوات والأرض وما بينهما ، وكذلك العبادة والتسبيح بالحمد والتقديس .
سؤال كثيرا ما يطرحه بعض العقلانيين :
لماذا خَلَق الله مخلوقاتٍ يَصْدُرُ منها الشر وهو يَعْلَم ؟!
ألم يكن الأولى أن يُبْقيها على عدمها فيتمحض الخير في الأرض وينعدم الكفُر والشركُ والفَسَاد وسفكُ الدماءِ والظلمُ بأنواعه ، وتنعدم الآلام وصَرْخات التألمُّ والاسْتِغَاثة ، لا سيما من كل طفل برئ بلا ذنب جناه ، ومن كل بائس جائع فقير ، ومن كل مريض ، ومن ضحايا الحروب المُدَمِّرة ؟!!
ومن كل فريسةٍ ضَعِيفَةٍ يَفْتَرِسُها سَبُع متوحِّش ، ومن كل بهيمة تَئِن من حادث أو مرض وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر ؟!!
بل أولى من ذلك أن تكون هذه الدنيا جنةً كلها والله على كل شئ قدير ، فما الحكمة في العدول عن هذا إلي الواقع المؤلم بشرورهِ الذي يعيشه كثير من الأحياء من الناس وغيرهم ؟
يجيب الشيخ فوزي السعيد :
هذه الأسئلة غالباً ما تكون من إنسانٍ ظَلُومٍ جَهول ، ظلوم لنفسه وفي أحكَامِه ورأيه ، جهولٍ بِربِّه ، لا يعرف قداسَتهَ سبحانه في عِلِمه وحكْمته المقدَّسةِ ، جهولٍ بنفسه لا يعرفها بعجزها وقُصُورِها وحقارتها ، فيجعل من رأيه الفاسد الكاسد حكماً على أقدار ربه يقول هذا لا يصلح وذاك لا ينبغي ، بل ينبغي كذا وكذا ، مع أنه لو تأمل في أيسر قدر يعرفه من حِكْمته الله في مخلوقاته لهداه ذلك إلى التَّسْليم لله فيما لا يعرفه .
2) يحلم أصحاب هذه التساؤلات بجنة في الدنيا ، ونَسَوَا أن يعترضوا على الموت ، لِم يكْتُبُ الله الموتَ على الناسِ والأحياء !!
فالموت مصيبةٌ كبيرةٌ وآلام وأحزان ( لكنهم لا يعترضون على أكل لحم الحيوان والطير والسمك ، ففي ذلك لذات لهم ، فلا يهم إيلام المخلوقات حينئذ )
يريدونها جَنَّة بلا آلام ولا أَنْكَاد ولا أَحْزان ولا غم ولا هم ولا نصب ولا وصب ولا نوم ولا موت ولا أمراض ولا أبتلاءات ولا ظلم ولا شر ولا سوء في القول .. إلى أخر ما يمكن تَمَنِّيه .
إن الجنة في الآخرة حق ، وفيها من النعيم وانعدام الشر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وخلود بلا موت ، فماذا يقْتَرِحُون على الله بعد ذلك ؟!
إنهم يريدون أن تكون هذه الجنة في الدنيا بلا ابتلاء ولا امتحان ولا دين ولا رسالات ولا عبوديات ولا حقوق لله ولا حساب ، فهم يريدون سِلْعة الله بغير شئ يُقَدِّمُونه – وكل ذلك من ظلمهم وجهلهم ،وبيان ذلك :-
( 3 ) الكون كله آثار ومقتضيات وأحكام لأسماء الله تعالى وصفاتِه
وإنما خُلِقَ الكَوْنُ وبُنِىَ على هذا الأصل وهذه الغاية ( بالحق وللحق) ، أي ليكون مظهراً لأسماءِ الله تعالى وصفاتهِ ، لا ليكون تبعاً لأهواء الظالمين الجاهلين
وقَالَ تعالى ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ) المؤمنون 71
وتبعاً لذلك الأصل الأصيل في خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وخلق اللهُ الجن والأنس ليعبدوه فُيْدخلَهم بذلك جنات النعيم ، وتلك العبوديات متنوعة بتنوع دعاء الله بأسمائه الحسنى ، فقدر الله الخَلْقَ والأَمْر – على هذا النَّحوِ الوَاقِع بالسنة الربَّانية التي لا تَتَبدَّل ولا تَتَحوّل إلى يوم القيامة .
بما يستخرج به تلك العبوديات المتنوعة من أتباع الرسل ، ومن أبى فقد ظلم نَفْسَه وخَسِرهَا في جهنَّم التي هي أشد شَرَّاً له كما قَالَ تعالى ( يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) الحج
فالنار في حق أصحابها شر مَا بَعْدهُ شر ، وأما في حق الله خلقاً وتقديراً فهي مَظْهَرُ عدلِه ، وهى الجزاء الوفاق ( والعدل كله خير ) .
نعود إلى العبوديات المتنوعة كالجهاد وما يتبعه من الحب والبغض والموالاة والمعاداة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والصبر على الأذى ، والاستغفار والتوبة والاستعاذة والهجرة والصبر عن المعصية وعلى الطاعة وعلى البلاء ، وغير ذلك فكيف تكون هذه العبوديات بدون سُنَّة اللهِ عَزَّ وجل في المواجهة بين الحق والباطل الحق بقيادة الرسل والباطل بقيادة إبليس وأعْوانِه من شياطين الجن والأنس ؟!
قَالَ تعالى ( قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) الأعراف 24.
فخلق إبليس هو السبب الرئيسي الذي قدره الله تعالى ، لاستخراج مثل هذه العبوديات ، فأين حكمتكم أيها الظَّلَمة الجَهَلَة من حِكْمة الله عز وجل ؟
وحكمتكم هذه ( إن كان لكم حِكْمة ) إنما هي مخلوقَةٌ مَفْعُولَةٌ لله ، ولا تعدل مثقَالَ ذرة في حِكْمة الله عز وجل المخلوقة في السماوات والأرض ، فكيف تجرأتم بالاعتراض على الحكيم الذي له الحكمة وصفاً وملكاً، وقد تبين لجميع العقلاء إن هذه الحِكْمة المخلوقة الموزَّعَة في أجزاء الكَوْن لا تدخل تحت إحصاءه بحال ، والاكتشافات المستمرة والمعارف الحديثة تؤكد ذلك لكل من له مسكه من عقل .
4) من أسمائه تعالى : الغَفَّار التَوَّاب العفوّ الحليم ( الصبور ) ، وظهور هذه الأسماء مستلزم للذنوب والمعاصي ، ولا يكون ذلك بدون عدو الله إبليس وجنوده ، فَلِمَنْ يَغْفِر اللهْ ؟ !!
وعلى من يتوب ويحلم ويصبر ويعفو إذا إنعدمت الذنوب من الجن والأنس ؟
روى مسلم من حديث هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ " وهذا أصل ينبغي أن يعرفه الصغير قبل الكبير .
5) أيضاً من أسمائه (وصفاته ) تعالى : القهار المعز المذل ، الضآر النافع ، الخافض الرافع ، النصير العدل ، عزيز ذو انتقام .
ومن صفاته أن بطشه شديد ، وأنه لا يعذب عذابه أحد ، ولا يُوثق وثاقه أحد .
فَبِمَنْ وفِيمَنْ يكون ذلك إلا بأعدائِه وأعداءِ رِسلهِ !! ، ولا يكون ذلك في حكمةِ الله إلا بخلق عَدُوِّ الله إبليس وما يترتب عليه من شرور تتضاءل أمام تلك المصالح .
6) ومن أثار قدرته وحكمته خلق المتقابلات من الخير والشر ، والقوة والضعف ، وجعل الظلمات والنور ، وخلق جبريل عليه السلام والملائكة وإبليس والشياطين ، والسلامة العافية ، والجن والإنس والصحة والمرض ، والذكر والأنثى وأصحاب النار وأصحاب الجنة وغير ذلك كثير .
7) أما عن إيلام الأطفال بغير ذنب ، وكذلك الحيوانات في الأمراض والحوادث والافتراس والذبح وغير ذلك ، فمثل هذه المعارضات لم تكن لتخطر ببال هؤلاء إلا لكثرة ما يرون من النعم والعافية وأنها هي الأصل ، فطمعوا أن تكون جنة بلا غُصَّة .
وسأجعل إجابتي في نقاط مركزة خشية الإطالة التي لا يتحملها هذا الموضع :-
(أ) أما رحمتكم وشفقتكم المزعومة ، فإن كانت حقيقة ( وما هي إلا نتيجة للظلم والجهل ) فإنما خلقها وجعلها في قلوبكم الخالق سبحانه ولقد علمتم أنها لا نسبة لها في جزء الرحمة الذي أنزله الله إلى الأرض تتراحم به الخلائق وهو جزء من مائة جزء في الرحمة المخلوقة ، فكيف برحمة الله وصفاً ؟!
فعلى من تَعْتَرِضُون !!
قَالَ تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ) يس 77.
(ب) ما قيل في الرحمة يقال أيضاً في الحِكْمة كما تقدم ، فلا وجه للمُعَارضةِ بمثل هذه الأسئلة إلاَّ أن يكون كفرا بواحاً أو يكون استفساراً عن وُجُوهِ الحكمة ، وعلى ذلك نُجيب بهذه الإجابة .
( جـ ) الآلام تدفع الإنسان إلى الفرار إلى الله والتوبة والرجوع إليه خشية زيادتها في الدنيا ووقعها في الآخرة ، وكيف يخاف الإنسان عذاب ربِّه ، وكيف يستَقْبل
تَخو يف الله له ، إذا لم يكن قد ذاق وعرف الألم ؟!
قَالَ تعالى (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) الزمر 16.
وقَالَ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ) هود 103.
وقَالَ (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) الرحمن 45:43.
فجهنم حَقٌ وعدلٌ وهو خير فهو من الآلام ، والتخويف بها رحمةٌ من اللهِ حتى يَبْتَعِد عنها المؤمن .
فكيف لو كان المخاطبون لا يَعْرفُونَ شيئاً عن الألم ؟
بل كيف يحمى الإنسانُ نفسَهُ ويَحفظُها إذَا لم يشعر بالألم !؟
إن الألم الذي يصدر من أي عضو من أعضاء الجسم إنما هو صَيْحةُ استغاثةٍ للإنقاذ والعلاج ، وذلك من رحمة الله وحكْمَتِهِ ، إن المريض بالقدم السكرية مثلاً لا تَشعر قَدَمُه بالإبرة تغوص فيها ، وقد تكون مُسَمَّمَةً أَوْ مُلَوَّثهً فتتَسبب في بتر القدم وأكثر ، إن الشعور بالألم جزء لا يتجزأ من الخَلْقِ والرِّعَاية والحفظِ لجميع الأحياء في البر والبحر والجو . فلا حول ولا قوةَ إلا بالله العليّ العظيم .
اللهم إنا نبرأ إليك من الضلال .
(د) من سُنَنِ الله التي لا تتبدل ولا تتغير أنه لن يَنْجوَ من الآلام مخلوق ؛ إنسان أو حيوان ، جنٌّ أو هوامّ ، صغير أو كبير ، عظيم أو حقير ، مؤمن أو كافر ، طائع أو عاصي ، سليم أو مريض ، آَكَلَهُ اللَّحْم أو آكله العُشْب ، أحياء الماء أو أحياء البر ، وهكذا ، وتنتهي الآم الدنيا وعافيتُها بسكرات الموت ، والسَّكْرة الواحدةُ تعْدِل أَلْفَ ضربةٍ بالسَّيْف مجتمعه ، وبعد ذلك ما يحدث في القبر وضمتِه التي لو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ الذي أهتز العرش لموته فرحاً بقدومه ، وبعد ذلك أهوال ومشاهدُ القيامةِ وما يحدث من رعب عند تطاير الصحف والميزان والصراط ، وفي النهاية يستقر الكافر في النار هي أمه ومأواه ومثواه ، ويستقر المؤمن في الجنة ونعيمها المقيم
وقَالَ تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ )الانشقاق6
وقَالَ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) البلد 4
فالآلام لا ينجو منها مخلوقٌ حَيٌّ على المرض وإن اختلفت في حِدَّتها ومُدَّتِها وأسْبَابِها . وأنْواعها وزَمَانِها بِحَسب الأَحْوَال ، وما من ألمٍ يُصِيُبُ الجنَّ والأنسْ والحيوانَ إلا وهو مكتوب عند الله ومُقَدَّر ، فَمِنْ هذه الآلام ما يَكْفِر السَّيئَات ومنها ما يُخَفَّفُ به من السَّكرات ومنها ما يُخَفَّف به الحساب ، ومنها ما تُرفَعُ بها الدرجات ، وهكذا ، فالمْقُصود هنا الآم الأطفال ، فلو أنَّ الطَّفْل مات قبل البلوغ ، فهو في رحمةِ اللهِ بإذنه مع الولدان المخلدين ، فأين هذه الآلام المُنْقَطِعةُ من ذلك النعيم المقيم ؟!! علاوة على ما تَنَعَّمَ به الطَّفْل في دنياه من مأكلٍ ومشربٍ ومَلْبسٍ ولعبٍ وغيرهِ كَإنَسانٍ فُضِّلَ على كثير من خَلْقِ اللهِ تفضيلاً .
أما إذا بلغ سِنَّ البلوغ وصار مُكلَّفاً ، فإن الآم طُفولتهِ قد تكون سبباً في التخفيف عليه حينئذ ، أو في هدايته أو في تخفيف السكرات أو في صَقِلْ رُجُولَته ونُضُوجِهِ وسَبْقِهِ لإقْراَنه وما شابه ، مما لا يعلمهُ إلا الله ، ولله في خلقهِ شئون علاوةً على ما يكون في حَقِّ الوالدين مثلاً من الابتلاء بِمَرضِ الوَلَد وتوجُّعه .
(هـ ) من الذي يجزم بأن الآم الأطفال كآلام الكبار !؟
بل ألام الأطفال أقل بكثير من مثيلها في الكبار ، وذلك أَمْرٌ معلوم بِالمُشَاهدة ، والرحمن تعالى يجعل من رَحْمتِه مع الأطْفَال ما لا يَجْعَلُها مَع الكبار ، فالطفل يسقط من سريرة على الأرض ، ويرتطم في جَرْيِهِ بالحائط وغيرهِ ، بل يسقط بعضهم من ارتفاع خمسه أمتار ، ومع ذلك لا نجد شيئاً قد حدث إلا بعضَ الخَوْفِ والصِّياح والبكاء ثم ينتهي الأمر . ومن المعلوم أنه لا نِسْبةَ للأطفال المرضى في المعافِين ، فإذا وجَدْتَ طفلاً يَبْكى من الأَلم ، فإنك تجد بجواره مئات يضحكون ويلعبون .
(و ) لقد كانت الآم الأطفال سبباً في تطور المعلومات الطيبة باستمرار ، وأُنْشِئت الأقسام والتخصصات والمستشفيات الخاصة بطب الأطفال ، والأبحاث التي لا تتوقف ، وظهرت من آيات الله في خلق الإنسان ما لم تكن لتظْهَرَ بدون ذلك ، وكذلك في الأغذية والأدْوِية وغيرها ويسأل في ذلك أساتذة طِبِّ الأَطْفَال لِتُعْرَفَ الحقائق .
(ز) لقد قتل الخَضِر عليه السلام غلاماً بلا مقدماتٍ يعرفها موسى عليه السلام بل لم يُحِطْ بها خُبْرا ، فأنكره بشدة قائلاً :
( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا ) الكهف 74
ثم تَبَيَّنَتْ حِكْمةُ اللهِ وظَهَر أَنهَّا رَحْمةٌ بالغة بالغلام وأَبَويْه المؤمنين الطِّيبين ، إذ الغلام جاءه أجله في ساعته المحددة بإذن ربِّه ، وبذلك يدخل الجنة برحمة الله ، ولو عاش لأفسد في الأرض ولأرْهَق أبويه طغياناً وكفراً ويكون مصيرهُ النار ، ولكن برحمة الله فَقَبضهُ قبل بلوغ سن المحاسبة ، والأبوان سَلَّمهما الله من بوائق ولدهما ، وأبدلهما خيراً منه زكاة وأقرب رُحما ، ونفس الأمر في خرق السفينة وإقامة الجدار ، حيث ظاهر الأمر شر وحقيقته رحمة وحكمه بالغة ، ولكن الإنسان ظلوم جهول.
(ح ) أما عن الحيوان فنقول للمعترضين ( لا للمستفسرين ) أكنتم حيوانات حتى تشعروا بالآم الحيوان ؟! وسأذكر لكم شيْئين فقط يكفيان كل من له أدنى مِسْكَه من عقل :-
(1) إن الله تعالى وتقدس يبعث الشاه الجَلحَاء لتقتص من القرناء التي نطحتها في الدنيا ، ثم يقول لها كوني تراباً ، فعندها يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ، والرسول يضحك تعجباً من عدل الله عز وجل .
إذا كانت هذه النطحة اليسيرة ترتب عليها ما ذُكِر ، فكيف بما فوق ذلك من الآم الأمراض والحوادث ، أذلك يمر بغير تقدير وحساب!!ومع ذلك فهو سبحانه أعلم بما خلق ، وارحم بِخَلِقِهِ من جميع البشر.
(2) عندما يذبح الحيوان تُقْطع العروقُ الموصلةُ للدماء إلى المخ والمخيخ ، فَيُصْدرُ المخ أوامرهُ السريعةَ جداً عبر الجهاز العصبي بالنخاع الشوكي إلى عضلات الجسم لتنقبض وتنبسط بشده وبسرعة تضح الدماء إلى المخ والإغاثة ، فيظهر التَّرْفِيسُ الشديد من الحيوان وَيَنْدفع الدم بغزارةٍ بعيداً عن جسم الذَّبيحة ، لأن بقاءه ( مع الَّلحم ) مفسدةٌ عظيمةٌ يعرفها الأطباء ، فيظن الجاهل أن لذلك الترفيس تعبيراً عن أشد الآلام بالحيوان ( المسكين ! ) ، فيعترض على شرع الله في الذبح ، ويجعل من نفسه نِدَّاً لله في رحمته وحِكْمتِه قائلاً:
أليست هذه وحشيةً وبربريةً !! مع أن الذَّبِيحةَ لا تشعر بأي ألم بعد قطع العروق بقليل حيث ينقطع الدم عن المخيخ وتصاب الذبيحه بالإغماء . ونفس الشيء يحدث عند الافتراس ، لأن الله عز وجل خلق فسوى وقدر فهدى ، فنجد السَّبُعَ قد أمسك بالفريسة على العروق الحاملة للدَّمَاء إلى المخ والمخيخ ثم يضغط عليها بفكَّيْه بقوة لِيُحْكِم
(9) المؤمن
ورودُ اسم ( المؤمن ) في القرآن الكريم :
﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ﴾ الحشر 23
المعنى اللغوي :
المؤمن
إما أن يكون اسم فاعل من الفعل آمن أي صدق ، يقال آمن به أي صدقه ،ومنه قوله تعالى (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) يوسف 17
وآمن بشيء أي اعتقده حقيقة ، والإيمان التصديق
أو يكون اسم فاعل من الفعل أمِن بكسر الميم أي اطمأن ولم يخف
إذن فاسم المؤمن له معنيان :
الأول : التصديق وعلى هذا المعنى :
1. فإنه تبارك وتعالى مؤمن بكل ما دعانا إلى الإيمان به ، فهو مؤمن أنه موجود ، ومؤمن بأنه موصوف بصفات الكمال المطلق ، ومؤمن بأنه واحد أحد ، ومؤمن أنه لا إله سواه ، حيث قال جل وعلا :
( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) آل عمران 18
2. تصديقه لرسله فالله سبحانه وتعالى يصدق رسله ، بعث النبي محمداً رسولاً ، وصدقه أي جعل الناس يصدقونه بالمعجزات التي أجراها على يديه ، وبعث موسى نبياً وصدقه بالمعجزات ، وأرسل عيسى رسولاً وصدقه بالمعجزات.
3. تصديقه لأوليائه بإظهار الكرامة على أيديهم .
4. وهو الذي يصدق مع عباده المؤمنين في وعده ويصدق ظنون عباده المؤمنين ولا يخيب آمالهم قال تعالى (قل صدق الله ) آل عمران95
وعند البخاري بسنده عن أبي هريرة (أنا عند ظن عبدي بي )
وعند النسائي عن ابن عمر (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على درجة الكعبة فحمد الله وأثنى عليه وقال :
الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده )
فالمعنى : هو الذي يصدق في وعده وهو عند ظن عبده لا يخيب أمله ولا يخذل رجاءه .
المعنى الثاني : الأمان ضد الإخافة قال تعالى (وآمنهم من خوف ) قريش
وقال إبراهيم لقومه (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) ) الأنعام
والظلم هنا هو الشرك، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود، أن النبي قال في هذه الآية حينما استعظم الصحابة هذه الآية وقالوا: يا رسول أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟
فقال: « ليس الذي تذهبون إليه، الظلم الشرك، ألم تسمعوا لقول العبد الصالح ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) لقمان:13
قال ابن كثير في الآية: أي: هؤلاء الذين اخلصوا العبادة لله وحده، ولم يشركوا به شيئاً هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.
و(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) ) يونس
وهو سبحانه لا يؤمن عباده من مخاوف الدنيا فحسب ؛ بل يؤمنهم من عذاب جهنم ؛ ويبعثهم يوم القيامة من الفزع آمنين (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) فصلت
و (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (٨٩) النمل
و(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (١٠٢) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) الأنبياء
وهو الذي أمن عباده ألا يظلم أحداً من خلقه
( المؤمن ) جل وعلا أمن الناس فلا يظلم أحدا أبدا قال تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ النساء 40
فائدة :
معنى النقير - الفتيل - القطمير - في القرآن الكريم
قال تعالى ( :وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) 124 النساء
فبين سبحانه إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة .
ويقول تعالى ( ولا يظلمون فتيلا)النساء 49
والفتيل هو الخيط الذي في شق النواة .
ويقول ( ما يملكون من قطمير ) فاطر 13
والقطمير هو اللفافة التي على نواة التمرة والثلاثة في القرآن.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ ( يَا عِبَادِي ، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا ....) .أخرجه مسلم
تثبيتُ الله لقوانين الكون يعطي الأمن والاطمئنان :
ثبات قوانين الكون يعطي الاطمئنان ، الشمس ثابتة في شروقها وغروبها ، وكذا دورة الأفلاك : القمر ، والليل ، والنهار .
وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) يس
خصائص المواد ، كلها ثابتة ، خصائص البذور ، لن تزرع مادة فتنتج مادة أخرى ! هذا مستحيل ! لثبات القوانين ، قوانين التمدد ، قوانين السقوط ، قوانين الانحلال الفيزيائي ، كل القوانين ثابتة ، لماذا هي قوانين ؟
لأنها مطَّردة وشاملة .
فيمكن أن نقول : ثبات خصائص المواد هو الذي يهب الأمن للناس
ثمار الإيمان بهذا الاسم:
1. تصديق الله في كل ما أخبر به وتصديق رسله وتصديق كلامه :
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم إذا أقام الليل :
(اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن"ولك الحمد أنت ملك السموات والأرضومن فيهن" ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن"ولك الحمد أنت الحق ووعدك حقولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيين حق ومحمد حق والساعة حق,اللهم لك أسلمت,وبكآمنت, وعليك توكلت,واليك انبت,وبك خاصمت,واليك حاكمت,فاغفر لي ماقدمت وما أخرت, وماأسررت وما أعلنت, أنت الله لا اله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك ) رواه البخاري عن ابن عباس
وفي الحديث أيضا عن أنس ( من قال حين يصبح أو يمسي اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك أعتق الله ربعه من النار فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه ومن قالها ثلاثا أعتق الله ثلاثة أرباعه فإن قالها أربعا أعتقه الله من النار ) رواه أبو داود وحسن ابن القيم إسناده في زاد المعاد
2. دعاء الله أن يحفظك مما تخاف ويهبك الأمن فالأمن نعمة من الله والخوف ابتلاء من الله
كما في قوله تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) البقرة
فالمؤمن دائما ما يتعوذ بالله من شر كل ذي شر (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (٥) )الفلق
3. نعمة الله علينا بالأمن والأمان :
فأعظم النعم بعد الإيمان العافية والأمن، فالأمن ضد الخوف، الأمن طمأنينة القلب وسكينته وراحته وهدوءه، فلا يخاف الإنسان مع الأمن على الدين، ولا على النفس، ولا على العرض، ولا على المال، ولا على الحقوق.
ما قيمة المال إذا فقد الأمن؟! ما طيب العيش إذا انعدم الأمن ؟!
الأمن تنبسط معه الآمال، وتطمئن معه النفوس ، وتتعدد أنشطة البشر النافعة مع الأمن، ويتبادلون المصالح والمنافع، وتكثر الأعمال ، وتدر الخيرات والبركات مع الأمن، وتأمن السبل، وتتسع التجارات، وتُشيد المصانع، ويزيد الحرث والنسل، وتحقن الدماء، وتحفظ الأموال والحقوق، وتتيسر الأرزاق، ويعظم العمران، وتسعد وتبتهج الحياة في جميع مجالاتها مع الأمن.
وقد امتنّ الله على الخلق بنعمة الأمن،قال تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ[قريش3-4].
وعن عبيد الله بن محسن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن"
الأمنُ مطلَبٌ في الحياة لا يستغني عنه الخلقُ لقضاءِ مصالحهم الدينية والدنيوية، وما مِن عبد إلاَّ ويبحثُ لنفسه عن أسبابِ أمنِها، ويتوقَّى جَهدَ طاقته أسبابَ الخوف التي قد تُحدق به في طريق حياته، ومهما أُوتي الإنسان من سلامةِ بَدن ووَفرة رزق فإنّه لا يشعُر بقيمتِها إلاَّ بالأمن والاستقرار.
ونعمةُ الأمن تُقابَل بالذكر والشكر( فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ )البقرة:239
4. أن يأمن الخلق جانبك :
عن أبي هريرة قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله! إنّ فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل، وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا خير فيها، هي من أهل النار»، قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصَّدّق بأثوارٍ(جمع ثور: القطعة من الأقط، وهو الجبن المجفف الذي يتخذ من مخيض لبن الغنم،)، ولا تؤذي أحداً؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «هي من أهل الجنّة» أخرجه أحمد وصحّحه الألباني
فهذا الحديث يدل على أن كثرة العمل الصالح مع أذية الناس لا ينفع العامل شيئاً، فما يُلْحِقَهُ من الأذى بالآخرين يضيع عليه حسناته، ويطغى على أعماله الصالحة.
وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُوَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ ، قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَاللَّهِ ؟ قَالَ : الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ(صحيح البخاري
وبوائقه شروره وإيذاءه
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمُسْلِمُ مَنْسَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْأَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)سنن الترمذي
5- لا تروع مسلما :
بل كن أمانا للمسلمين جميعا فإنه يحرم ترويع المسلم وتخويفه ولو كان على وجه المزاح واللعب ، كما روى ذلك عبد الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ ، فَفَزِعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا ) رواه أبو داود
وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعلَّ الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة في النار».
فالشرع يغلق باب الشر ابتداءً قبل وقوعه، وفي هذا حفظ لأرواح الناس، وحماية لهم، وتحقيق للأمن والأمان لهم.
وقوله: «فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده» قال الحافظ ابن حجر نَزَغَ الشيطان بين القوم نزغاً، حمل بعضهم على بعض بالفساد، ومنه: {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} يوسف:100.
والمراد أن يغري بينهم حتى يضرب أحدهما الآخر بسلاحه فيحقق الشيطان ضربته له.
قوله: «فيقع في حفرة في النار» قال الحافظ : «هو كناية عن وقوعه في المعصية التي تفضي به إلى دخول النار.
فائدة :
هل هناك حديث يقول : تخلقوا بأخلاق الله ، وكيف يقال عن صفات اللّه أنها أخلاق ؟
وردت عدة أحاديث في نسبة الخُلُق إلى الله، ومنها ما هو ضعيف ومنها ما هو موضوع.
فمن ذلك حديث: إن لله تعالى مائة خلق وسبعة عشر من أتاه بخلق منها دخل الجنة.
رواه الطيالسي والبزار وضعفه الألباني.
ومنها: السخاء خلق الله ا لأعظم. رواه الأصفهاني وابن النجار وضعفه الألباني.
ومنها: تخلقوا بأخلاق الله. ذكر ابن القيم في المدارج أنه لا أصل له.
ومنها: ألا وإن حسن الخلق خلق من أخلاق الله عز وجل. رواه الخطيب وابن النجار، وقال عنه الذهبي بأنه موضوع.
وقد وجدنا عدة علماء ذكروا في كتبهم الحث على التخلق بأخلاق الله تعالى، وهذا يدل على أن هذا كان معروفا عند أهل العلم.
فقد ذكره ابن الحاج في "المدخل" والسيوطي في "شرح سنن ابن ماجه" والمناوي في "شرح الجامع الصغير" والمباركفوري في "تحفة الأحوذي" والآبادي في "عون المعبود" والغزالي في المقصد الأسنى
ومن هذا الباب الحياء والكرم فقد ثبت وصف الله بهما في الحديث: إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفرا. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني
ومن العلماء من يرى أن الخُلُق غير الصفة ومنهم من يرى أن الخلق والصفة معناهما واحد، كما يفيده كلام المناوي في شرح حديث الطيالسي السابق، فما قيل في أخلاق الله عموما يقال مثله في الحياء والكرم
إلا أن الأولى بالمسلم أن يتقيد دائما في حديثه عن الله تعالى بما ثبت،
لأن الأصل في ذلك التوقف عند ما ثبت وعدم تجاوزه.
وهنالك فتوى للشيخ ابن باز رحمه الله يقول :
هذا التعبير غير لائق ، ولكن له محمل صحيح وهو الحث على التخلق بمقتضى صفات الله وأسمائه وموجبها
، وذلك بالنظر إلى الصفات التي يحسن من المخلوق أن يتصف بمقتضاها ،
بخلاف الصفات المختصة بالله كالخلاق والرزاق والإله ونحو ذلك .
فإن هذا شيء لا يمكن أن يتصف به المخلوق ، ولا يجوز أن يدعيه ،
وإنما المقصود :
الصفات التي يحب الله من عباده أن يتصفوا بمقتضاها كالعلم والقوة والرحمة والحلم والكرم والجود والعفو . وأشباه ذلك
، فهو سبحانه عليم يحب العلماء
، قوي يحب المؤمن القوي أكثر من حبه للمؤمن الضعيف ، كريم يحب الكرماء ، رحيم يحب الرحماء ، عفو يحب العفو . . إلخ ،
لكن الذي لله سبحانه من هذه الصفات وغيرها أكمل وأعظم من الذي للمخلوق ،
بالمقاربة بينهما ؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء في صفاته وأفعاله
، كما أنه لا مثل له في ذاته ، وإنما حسب المخلوق أن يكون له نصيب من معاني هذه الصفات يليق به ويناسبه على الحد الشرعي
، فلو تجاوز الكرم الحد صار مسرفا ،
ولو تجاوز في الرحمة الحد عطل الحدود والتعزيرات الشرعية
، وهكذا لو زاد في العفو على الحد الشرعي وضعه في غير موضعه ،
وهذه الأمثلة تدل على سواها ،
وقد نص العلامة ابن القيم رحمه الله على هذا المعنى في كتابيه :
( عدة الصابرين ) ( والوابل الصيب ) ،
ولعله نص على ذلك في غيرهما كالمدارج وزاد المعاد وغيرهما .
وإليك نص كلامه في العدة والوابل :
قال في العدة صفحة 310 :
ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر
، كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها أو اتصف بضدها
، وهذا شأن أسمائه الحسنى ، أحب خلقه إليه من اتصف بموجبها
، وأبغضهم إليه من اتصف بضدها ،
ولهذا يبغض الكفور والظالم والجاهل والقاسي القلب
، والبخيل والجبان والمهين واللئيم ، وهو سبحانه جميل يحب الجمال ،
عليم يحب العلماء ، رحيم يحب الراحمين ، محسن يحب المحسنين
، ستير يحب أهل الستر ، قادر يلوم على العجز ،
والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف ، عفو يحب العفو ، وتر يحب الوتر
، وكل ما يحبه من آثار أسمائه وصفاته وموجبها ،
وكل ما يبغضه فهو مما يضادها وينافيها ) ا . هـ
وقال في الوابل الصيب صفحة 543 من مجموعة الحديث :
والجود من صفات الرب جل جلاله ،فإنه يعطي ولا يأخذ
، ويطعم ولا يطعم ، وهو أجود الأجودين ،
وأكرم الأكرمين ، وأحب الخلق إليه من اتصف بمقتضيات صفاته ،
فإنه كريم يحب الكرماء من عباده
، وعالم يحب العلماء ، وقادر يحب الشجعان ، وجميل يحب الجمال ) . انتهى .
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية ، وحصول للفائدة
، وأسأل الله سبحانه أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والقيام بحقه إنه سميع قريب .
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز 6 / 251
حسين عامر
قواعد في أسماء الله الحسنى
القاعدة الأولى :
أسماء الله كلها حسنى :
حسنى : على وزن فعلى ، مؤنث الأحسن أي : بالغة في الحسن غايته لا نقص فيها بوجه من الوجوه
وقد وصف الله أسماءه بالحسنى في أربعة مواضع هي :
أ- { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } الأعراف : 180
ب-{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}الإسراء : 110
جـ - { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى } طه : 8
د - { هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسنى ، يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } الحشر :24
ووجه الحسن في أسماء الله أنها دالة على مسمى الله فكانت حسنى لدلالتها على أحسن وأعظم وأقدس مسمى وهو الله عز وجل
مثال : " العليم " اسم من أسماء الله متضمن للعلم الكامل الذي لم يسبق جهل ولا يلحقه نسيـان قال اللـه تعالى : ( علمها عنـد ربي في كـتاب لا يضـل ربي ولا ينسـى ) [ طه : 52]
العلـم الواسـع المحيط بكل شيء جملـة وتفصيـلاً سواء مـا يتعلـق بأفعالـه أو أفعال خلقه قال الله تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابـس إلا فـي كتـاب مبيـن ) [ الأنعام : 59]
و( يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تســرون وما تعلنون والله عليـم بذات الصدور ) [ التغابن : 4]
والحسن في أسماء الله تعالى يكون باعتبار كل اسم على انفراده ويكون باعتبار جمعه إلى غيره فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال
مثال ذلك:"العزيز الحكيم" فإن الله تعالى يجمع بينهما في القرآن كثيراً فيكون كل منهما دالاً على الكمال الخاص الذي يقتضيه وهو العزة في العزيز ، والحكم والحكمة في الحكيم
والجمع بينهما دال على كمال آخر وهو أن عزته تعالى مقرونة بالحكمة فعزته لا تقتضي ظلماً وجوراً وسوء فعل كما قد يكون من أعزاء المخلوقين فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم ويجور ويسيء التصرف
وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعز الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنهما يعتريهما الذل فبعض الناس عنده حكمة ويضع كل شيء في موضعه ويتصرف تصرفاً حسناً لكن ليس عنده عزة وقوة التى ينفذ فيها ما أراد
أما الله عز وجل فحكمته مقرونة بالعزة
أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف :
أعلام باعتبار دلالتها على الذات العلية( الله )
وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني
فـ " الحي العليم القدير السميع البصير الرحمن الرحيم العزيز الحكيم " كلها أسماء لمسمى واحد وهو الله سبحانه وتعالى لكن معنى الحي غير معنى العليم غير معنى القدير وهكذا
فكل اسم من أسماء الله الحسنى اسم علم يشتق منه صفة فيشتق من الرحمن صفة الرحمة ومن العليم العلم ومن السميع السمع ....وهكذا
قال تعالى ( وربك الغفور ذو الرحمة ) الكهف : 58
أما بالنسبة للبشر فقد يسمى الرجل حكيماً وهو جاهل ، وكريماً وهو لئيم ، وصالحاً وهو طالح ، وسعيداً وهو شقي ، ومحموداً وهو مذموم
وعندنا أسماء العائلات مثل الطويل فلا يلزم منها الطول لأفراد العائلة ، وهكذا الصغير والقط والجمل أسماء عائلات
[ الدهر ليس من أسماء الله ]
قال الله تعالى عن منكري البعث : ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) الجاثية : 24 يريدون مرور الليالي والأيام 0
فأما قوله صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " رواه أحمد وصححه الألباني
فلا يدل على أن الدهر من أسماء الله تعالى وذلك أن الذين يسبون الدهر إنما يريدون الزمان الذي هو محل الحوادث لا يريدون الله تعالى فيكون معنى قوله : " و أنا الدهر فسره بقوله : " بيدي الأمر أقلب الليل والنهار "
فهو سبحانه خالق الدهر وما فيه وقد بين أنه يقلب الليل والنهار وهما الدهر فيكون المعنى لى تقدير محذوف هو (وأنا مقلب الدهر)
ولا يمكـن أن يكـون المقلب ( بكسر الـلام ) هـو المقلب ( بفتحها ) أو الفاعل هو المفعول ، وبهذا تبين أنه يمتنع أن يكون الدهر في هذا الحديث مراداً به الله تعالى
توضيح أكثر : لو أن رجلا يعمل في شركة ثماني ساعات في اليوم فزادت إدارة الشركة ساعتين بدون أجر زائد ، فسب هذا الرجل قائلا : هذه شركة ظالمة ،أو فاسدة تأكل حقوق العاملين فيها ........
السؤال : هل هو يسب الشركة التي هي عبارة عن بناء وآلات ومكاتب ؟ أم بسب القائمين عليها من مدير وإداريين بسبب هذا الظلم ؟
فالسب هنا واقع على هؤلاء بطريق غير مباشر
إذن فمن الحرمة قول يوم أسود وسنة سوداء وساعة نحس .....الخ
وقد يتساءل البعض : ولكننا نقرأ قوله تعالى (في يوم نحس مستمر ) ونسمع العلماء يدعون (اللهم أرنا في أعدائنا يوما أسودا قبل الممات ) فكيف نوفق بين الآية وماسبق من النهي عن سب الدهر ؟
والجواب : أن هذا من قبيل وصف ما جرى في هذا اليوم وليس سبا له فمثلا لو قلت عن فلان أنه أعرج أريد سبه فهذا حرام ، أما إذا قصدت وصفه التعريف به كأن تُسأل عنه فتصفه بفلان الأعرج أو الأعمى فهذا ليس بحرام وقد وصف الله ابن أم مكتوم في القرآن بالأعمى في سورة عبس .
إذن فمعنى نحس اليوم بالنسبة للكفار الهالكين وصف لمآل كفرهم لا إلى ذات اليوم، فمن المعلوم أن ذلك اليوم لم يكن نحساً على الصالحين، بل على الكفار من قوم عاد، وكان يوم نصر وتأييد للمؤمنين الصادقين .
القاعدة الثالثة /أسماء الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها:
ومعنى توقيفية : الوقوف على النص فلا يجوز إعمال القياس فيها أو الاشتقاق اللغوي بل يكتفي بالوارد في الكتاب والسنة .
وعلى هذا يجوز أن يقال : يا جواد(لورود النص به ) ولا يجوز أن يقال : يا سخى ويجوز أن يقال : يا عليم ولا يجوز أن يقال : يا عاقل ، و" الحليم " فلا يجوز أن يقاس عليها الوقور والرزين
وعلى هذا فيجب الوقوف في أسماء الله على ما جاء به الكتاب والسنة فلا يزاد فيها ولا ينقص لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء فوجب الوقوف في ذلك على النص لقوله تعالى :
{ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } الإسراء : 36
ولا تقفُ : من قفاه يقفوه إذا تتبع أثره وهو مشتق من القفا
ومعنى الآية : لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل فلا تقل رأيت ولم تره ، ولا تقل : سمعت ولم تسمع ، ولا تقل : علمت ولم تعلم .
وقوله : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } الأعراف : 33
ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه تعالى ، فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص
هل من أسماء الله القديم
اسم القديم لله ذكره الحنابلة وغيرهم ومن المعاصرين مال إليه الشيخ سليم الهلالى في كتابه دراسات منهجية في العقيدة السلفية ص 22 حيث قال : وقد ادعى بعض العلماء أن المتكلمين أدخلوا القديم في أسماء الله وهي لم ترد في الكتاب والسنة ثم نقل عن شـارح الطحاويـة ذلـك ثم قـال : إن القديم ورد كصفة للرحمن كما فـي حديث ( وبسلطانه القديم ) صححه الألباني ا0هـ.
وقد أنكر شيخ الإسلام هذه التسمية في منهاج السنة النبوية ( 2/123) وابن القيم في بدائع الفوائد (1/162) .
مناظرة في أسماء الله هل هي توقيفية
يذكر مترجموا أبي الحسن الأشعري أن من أسباب تركه الاعتزال مناظرته لشيخه أبي علي الجبائي في بعض المسائل ، ومنها هذه المسألة فقد كان أبو الحسن الأشعري يرى أن أسماء الله توقيفية – بخلاف شيخه الجبائي فمرة دخل رجل على الجبائي ، فقال له : هل يجوز أن يسمى الله تعالي عاقلاً
فقال الجبائي : لا لأن العقل مشتق من العقال ، وهو المانع ، والمنع في حق الله محال ، فامتنع الإطلاق
فقال أبو الحسن الأشعري : فقلت له : فعلى قياسك لا يسمى الله سبحانه حكيماً لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج ، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
أبني حنفية حكموا سفهاءكم **** إني أخاف عليكمو أن أغضبا
أى نمنع بالقوافي من هجانا ، وامنعوا سفهاءكم
فإذا كان اللفظ مشتقاً من المنع ، والمنع على الله محال ، لزمك أن تمنع إطلاق
( حكيم ) على الله سبحانه وتعالى
قال : فلم يجب الجبائي إلا أنه قال لي : فلم منعت أنت أن يسمى الله سبحانه عاقلاً وأجزت أن يسمى حكيماً ؟
قال : فقلت له : لأن طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوي فأطلقت حكيماً لأن الشرع أطلقه ومنعت عاقلاً لأن الشرع منعه ولو أطلقه الشرع لأطلقته ا هـ ذكره السبكي في الطبقات (3/357)
القاعدة الرابعة :أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين :
لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث { أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك } رواه أحمد وصححه الألباني .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة) فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة : إن أسماء الله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة أو نحو ذلك
إذاً فمعنى الحديث أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة
القاعدة الخامسة التوسل بأسماء اللهالحسنى
قال تعالى (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُالْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)الأعراف:180.
(فَادْعُوهُ بِهَا ) من الدعاء بمعنى المناداة ؛ فدعا فلان أي ناداه والمقصود فنادوه بها عند الدعاء متوسلين .
فحينما تعرف قدرته تسأله ، وحينماتعرف رحمته تستغفره ، وحينما تعرف أنه الرزاق تسترزقه .....وهكذا
إذن : فادعوه بها من أجل أن يكون الدعاءمستجاباً
وقد جاء في دعاء النبي صلى الله عليهوآله وسلم: «اللّهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك منعقوبتك، وأعوذ بك منك
و: (يا حيُّ يا قيّوم، برحمتك أستغيث.) و ( اللهم اذهب البأس ربالناس اشف وأنت الشافي ........)
وأجمع الأسماءلمعانيأسمائه وصفاته هو( الله )الذي يسمى لفظ الجلالة،ولو زاد عليه الميم كان أبلغ فتقول اللهم اغفر لي وارحمني
قال الحسن البصري ( اللهم ) مجمع الدعاءوقال النضر بن شميل : من قال ( اللهم ) فقد دعا الله بجميع أسمائه .
قال الأصمعي: كنت أقرأ:( َوالسَّارِقُوَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْأَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَاللهِ وَاللهُ غَفُورٌرَحِيمٌ)
ففهم الرجل بفطرته أن القطع لاتناسبه الرحمة
ولهذا السبب نجد أن سورة التوبة لم تفتتح بالبسملة خلافا لسور القرآن لأنها افتتحت بالبراءة من المشركين (براءة من الله ورسوله) فلم يناسبلفظا ومعنى أن تفتتح بالبسملة المتضمنة لمعاني الرحمة (بسم الله الرحمنالرحيم) ، إذ لا يتفق معنى أن تفتتح خطابك بالرحمة ثم مباشرة تخبر المخاطب بالبراءةمنه ، فبين المعنيين تفاوت كبير .
اسم الله الأعظم
وبمناسبة حديثنا عن التوسل بأسماء اللهالحسنى نتكلم عن اسم الله الأعظم
الاسم الأعظم معناه : هو الاسم الذي إذا سئل الله به أعطى وإذا دُعي به أجاب .
والراجح من أقوال العلماء أنه مؤلَّف من عدة أسماء، بناء على الأحاديثالواردة فيه وقد صح منها ما يلي :
1. روى أصحاب السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلاً يدعوويقول: الله إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لميلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
فقال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمهالأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى ) صححه الألباني
2. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يصلى ثم دعا فقال : ( اللهم إني أسالك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ). صححه الألباني
3. - وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) وفاتحة آل عمران: ( آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) صححه الألباني.
4. - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء وإذا اجتهد في الدعاء قال: ( يا حي يا قيوم )
5. وعن أنس بن مالك قال كان النبي إذا كربه أمر قال:( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) .
6. - وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن البقرة وآل عمران وطه ). قال القاسم فالتمستها فإذا هي في البقرة آية الكرسي )الله لا اله إلا هو الحي القيوم )وفي آل عمران فاتحتها (الله لا اله إلا هو الحي القيوم) وفي طه (وعنت الوجوه للحي القيوم) صححه الألباني
7. - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دعوة ذي النون اذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين إنه لم يدع بها مسلم في شي قط إلا استجاب الله له ). صححه الألباني
8. - وفي الصحيحين من حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب :( لا إله الا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ).
9. - وعن على بن أبي طالب رضي الله عنه قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول: ( لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم والحمد لله رب العالمين ).
10- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ما أصاب أحد قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك بن عبدك بن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحا ) فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها قال عليه الصلاة والسلام :( بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها ) . صححه الألبانيوالظاهر من تعدد الروايات أن القاسم المشترك بينها هو توحيد الله سبحانه، والدعاء بالتوحيد فيه إخلاص وثقة بالله، ونفي للشريك عنه، وتقرير أنه لا يستحق أحد سواه أن يُلجأ إليه، فلا بد لكل دعاء أن يصحبه هذا الشعور حتى يكون في موضع الرجاء للقبول.
ورد في الصحيحين عن أبي هريرة (إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة )
أما معنى إحصاء الأسماء فقد اختار الإمام ابن القيم في البدائع (1/164) أن الإحصاء على ثلاثة مراتب هي :
1- إحصاء ألفاظهاوعددها
2- فهم معانيهاومدلولها
3- دعاؤه بها
قال تعالى (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) سورة مريم
فمن هذه الآية يتبين أن الإحصاء شيء ، وأن العد شيء آخر ، العد أن تقول : في هذا الصف أربعون طالباً ، أما الإحصاء فأن تعرف طَالباً طالباً ، وضعه الصحي والاجتماعي ، والنفسي والديني ، والأسري ، وتقدمه ، ووتيرة التقدم ، وخصائصه ، وبأي شيء متفوق
أولاً :- الإحاطة بها لفظاً
ثانياً :- فهمها معنى
ثالثاً :- التعبد لله بمقتضاها ولذلكوجهان :
الوجه الأول : أن تدعو الله بهالقوله تعالى { فادعوه بها } بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك .....
الوجه الثاني : أن تتعرض في عبادتكلما تقتضيه هذه الأسماء ، فمقتضى الرحيم الرحمة ، فاعمل العمل الصالح الذييكون جلياً لرحمة الله ، هذا هو معنى أحصاها ، فإذا كان كذلك فهو جدير لأنيكون ثمناً لدخول الجنة ا0هـ .
أقوال العلماء في تحديد إحصاء أسماء الله الحسنى
ورد تحديد الأسماء في سنن الترمذي من رواية الوليد بن مسلم ، و اشتهرت هذه الرواية على ألسنة العامة والخاصة منذ أكثر من عشرة قرون رغم عدم صحتها
فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلمتعيين هذه الأسماء ، والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف
قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيالفتاوى الكبرى 1/217 ( لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي ، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة ، وحفاظ أهل الحديث يقولون هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث ، وفيها حديث ثان أضعف من هذا رواه ابن ماجه ، وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف ).
ويذكر أيضا فيها(1 /217 بتصرف ) أنه إذا قيل بتعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث ؛ مثل اسم الرب فإنه ليس في حديث الترمذي وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم ، وكذلك اسم المنان والوتر والطيب والسبوح والشافي ؛ كلها ثابتة في نصوص صحيحة وتتبع هذا الأمر يطول.
وقال ابن حجر في فتح الباري (215/11) : " ليست العلة عند الشيخين
( البخاري ومسلم ) تفردالوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراجا . هـ
ولما لم يصح تعيينها عن النبي صلىالله عليه وسلم اختلف السلف فيه كل حسب اجتهاده ؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم –أراد أن يجتهد المسلمون في الأمر، كما ترك للمسلمين فرصة الاجتهاد في ليلة القدر، وكما ترك الاجتهاد في اسم الله الأعظم .
وإن شاء الله نستبصر بطرق علمائنا في جمع هذه الأسماء من الكتاب والسنة وأسأل الله أن يبارك في الوقت والعمر وأن يجعل ذلك طريقا لنا إلى الجنة اللهم آمين
تعديل التعليق